سمّوك مطربة، وسموك فنانة، وسموك مغنية، وسموك سفيرتنا إلى النجوم، أما أنا فأسمّيكِ الرّسُولة، ولا أجد تاجاً يليق بك، وتليقين به خيراً من هذا، ولو أردت لخيالي أن يسرح، لوصلت مرتبتك إلى مرقاة لا يصل إليها حتى الرُّسُل. لست في معرض تطريز الكلام وأنا في حضرتك ايتها الجليلة. ما أقوله على الورق يقوله قلبي، وتقوله عيناي وأذناي، وكل خلية في جسدي، صوتك يناديها كلها، وينساب فيها كما تنساب قطرات الطل على وريقات الورود، وكما ينساب الموج الهادئ بين ثنايا الصخور.
لم يعد يَهمّني ما ُيقال عن التجديف، إلهي غير آلهتهم. عافت نفسي أقوالهم وكتبهم ودروسهم ومواعظهم. في مأثورنا الروحي العربي الأصيل، يقول شاعرالمتصوفين ابن الفارض: "كل من دعا منا إلى الحق قام بالرُّسُلية"، وها أنت أيتها الرّسُولة، لم تأتي بالحق وحده حين غنيت لبنان الجريح، والقدس ساعة هوت، وساعة سقط العدل على المداخل، بل جئتنا أيضاً بحب تعجز اللغة عن وصفه. كل الرسل والأنبياء من قبلك كانوا ذكوراً، وفي بلادنا لا تأتي الرُّسُلية إلا مذكرة، أو هكذا شاء لها التراث أن تكون. لكن من قال ذلك يا فيروز من قال؟! ما أقصاها اللغة ساعة تجني. هذه اللغة العربية العريقة، "لغة أهل الجنة "، كما يقول بعض علمائها الأبرار، لم تسمح للرُّسُولية بأن تؤنث، وقضت قواعدها بأن التأنيث لا يجوز إذا كانت الصفة على وزن "مفعول"، فلا نقول الرّسُولة، بل الرسول. اعذرني أيها الفراهيدي، واعذرني يا سيبويه، إذا انحرفت عن الجادة، لأني سأبقى أقول فيروز الرّسولة، ولتذهب قواعد النحو إلى الجحيم!
صوتك أيتها الفيروزة أبلغ من القصائد وأجمل، والكلام الطفولي البريء الطالع من شفتيك القرمزيتين، يصبح خيراً من ألف قصيدة وأنتِ تغنين: "تعا ولا تجي، وكذوب عليّ، الكذبة مش خطية، وعدني إنك رح تجي، تعا ولا تجي"، بهذه البساطة، بهذه السلاسة، وبهذه البراءة وهذه الطفولة تصنعين الحب يا فيروز، وتصنعين الشعراء أيضاً. أنت الجوهرة الصافية النقية بين الحلي والجواهر. لولاك، ما سطع نجم الشعراء، حتى كبيرهم، سعيد عقل، ما كان الذي كانه لولا حنجرتك الدافئة. صوتك الذي شهره وشهر غيره من الشعراء، ونقل قصائدهم إلى الشيوع، وحفرها في الذاكرة الجماعية، وأخرج منها شعراً لم يكن هناك!
لا أغُضّ من شأن الذين كتبوا لك القصائد، ولا أغمط حقهم، ولا أقلل من شان من وضعوا لك الألحان، ومنهم زياد الذي من صُلبك. كلهم كانوا وما زالوا علينا وعلى الفن خيراَ وبركة، هم مع ذلك، أشبه بصانعي خواتم وأقراط وعقود وقلائد وأساور، أما الذهب الخالص فهو أنتِ أيتها الرّسُولة. من الأرض الغنية أتيتِ إلينا. من الجبال والأودية والسهول والسهوب أتيتِ. من أرضنا المعطاء أتيتِ، تحملين إلينا طاقات الزهور، وعناقيد العنب، والتين والزيتون، وعبق الحبق وطعم الصعتر، ورائحة الفُل والياسمين والطّيون والزيزفون، والذين اغتربوا منا في النواحي الأربع من الأرض، بقي صوتك يُذكّرهم بتلك التربة الكريمة المعطاء، يشدهم كأمراس من شوق وحنين، إلى العلّية والطاحونة ومعاجن البركة، إلى العين ودرب العين، الساقية والغدير، والتلة ودرب التلة، الجبل والمقلع والوادي، طريق العودة ومراح العودة، وإلى البساتين والحقول، والبيادر ومواسم البيادر. من أي مَجرّة أثيرية كونية، جاء صوتك أيتها الرّسُولة، ليحمل هذا الكم الهائل من طبيعة لبنان ويجسدها كما لم يجسدها أي صوت آخر، ويُجسّد معها مدن لبنان ودُرّتُه بيروت؟ سلام وألف سلام لهذه البيروت، و" قُبل للبحر والبيوت"، لصخرتها الدهرية "كأنها وجه بحار قديم".
بيني وبين نفسي سر سأفشيه غير حاسب لذيوله كيف ستكون. ما همّ، سأقوله وامري إلى الله كما يقول المؤمنون. في طفولتي أدخلوني المعابد رغما عني، وما أكثر ما تأففت وضاقت بي السّبُل، وحين بلغت الصبا دخلتها ملء إرادتي، وبقيت أختلف إليها سنة أو بعض سنة على ما أذكر، وحين رجعت إلى الكتب، وجدت إلهاَ غير ذلك الإله الذي أرغموني على الخوف منه. وجدت الإله الذي لا يعرفه المتدينون، ويعرفه المؤمنون. إله لا يضمه كتاب، ولا تأسره صلاة، ولا تحده معابد، ونوره يبقى مشتعلاً كالجمر الأبدي. لهذا السبب سمّيتك رسُولة، كيف لا وأنا أسمع في صوتك صوت هذا الإله، ونداء الطبيعة، وخرير النهر وهديل اليمام، وصلاة المؤمن عند طلوع الفجر وفي دغشة العشايا. صوتك الذي يخفف عنا أثقال الدنيا ومتاعبها، كلما توالت علينا كوارث حروب، وما أكثر ما توالت علينا كوارث وحروب، وما أكثر ما تعذّبنا وتعذّب لبنان، وتجرّح وتهدّم، وبقي صوتك سلوانا وقمرنا في الليل المدلهم، ونورنا في الديجور، يُذكّرنا بأن آخر النفق ضوء، وبأن الوطن لا يموت.
حين قرأت مقالا شائقاً كتبه عنك صديق شاعر (هنري زغيب)، زدت على ما كتب، وكتبت إليه قائلا، إنك في التصوير، أعظم من الفنانين الانطباعيين الذين أنجبتهم فرنسا، وغير فرنسا من بلاد الفنون. هؤلاء صوروا الطبيعة بالريشة والأصباغ وأفلحوا، أما أنتِ فقد صورتها بأوتار حنجرتك الماسية، وكان تصويرك أشد وقعا في النفس من تصاويرهم، وإذا اتفق وقال لي ناقد من نقاد الفنون، إن المقارنة أو المفاضلة، لا تصح بين مصور انطباعي ومطربة مثل فيروز، سأرد عليه بالآتي من الكلام: من يجعلنا نتحسس الطبيعة ونعيشها أكثر؟ فيروز الكبيرة، أم أولئك المصورين الكبار؟ إن أعمال بعضهم، مثل ديغا ومونيه ومانيه وبيسارو، وغيرهم عظيمة ما في ذلك شك، أما أنتِ أيتها الجليلة، فقدرتك على التصوير تفوق قدراتهم. أتخيل حالي أمام لوحة لأحد كبارهم، أوغست رينوار. أحدق في لوحته بعين المتّيم بفنه الخالد، فيما أنت تغنين. تأخذني مخيلّة رينوار وعيناه وريشته، إلى طبيعة فائقة ساحرة تغني خيالي، لكن مسافة بيني وبين رسومه تبقى قائمة، في حين أن صوتك أيتها الرّسُولة، ُيلغي المسافة، يرميني في حضن الطبيعة، ويأخذني من كل جوارحي. أسمعك تُغنّين للحبيب الغائب: "حَلّفتك، خبّرني كيف حال الزيتون، والصبي والصبية بفي الطاحون... واللوزة والأرض وسمانا هَو هِنّي بلدنا وهوانا"، وأسمعك تُغنّين للأرض المزروعة، المفروشة بضوء الشمس، والمروية بعرق الجبين، "شو بحبِّك يا أرض السّخية، يا زرع الإدين القوية، يا مطارح دوالي، يا رمان العالي، يا زرع الإدين القوية".
حين سألوا المطربة الصبية الأندونيسية العمياء "بوتري أرياني"، متى بدأت الغناء، كان جوابها: منذ ولادتي. ولدت "بوتري" كفيفة وبدأت تغني من دون أن ترى النور. كذلك هو أنتِ يا فيروز. من رحم أمك جاء بك القدر لتغني، وها أنت اليوم في التسعين من عمرك، عمر مديد وعيش رغيد أيتها السيدة الجليلة. حيّة ستبقين يننا ما بقينا وبقي لبنان، وبأمل معقود، وعهد مع الطبيعة لا تنفصم عراه، بأن سواحل لبنان ومدنه وجباله وصروده وسهوله ووديانه وبلداته وقراه، ستبقى تردد غِناءك. مباركة أنت أيتها الرّسُولة، وهنيئا وسعداَ أن تكوني بيننا، نسمة من هواء عليل، وصوتا صارخا في برية لبنان، يزيدنا إيمانا بجبل "هو بين الله والأرض كلام"، بوطن صغير يحمله صوتك ألينا حلما كما "الهدايا بالعلب، والكاس شي إنو انسكب".
تلك هي قصتنا من أول الزمان أيتها الرّسُولة. قصة وطن صغير اسمه لبنان، "بيتجرّح، بيتهدّم، بقولوا مات وما بموت، وبيرجع من حجارو يعلّي بيوت".
التعليقات