ثقيلة هي كلمات الحق، وكلفتها باهظة وسط مناخ يحكمه الهوس والكراهية، وفي ظل موجات التحريض العارمة التي تمارسها معظم وسائل الإعلام العربية، وإدمان جلد الذات والتفنن في سب الأنظمة والشعوب العربية بالجملة، ووصمها بأقبح النعوت، والسخرية من عجزها كأن بوسعها أن تفعل شيئاً ولا ترغب بذلك، والتبشير بموت الحس العام إزاء خيارات رعناء، يصفها كهنة اللغو بأنها quot;قضايا مصيريةquot;، وغير ذلك مما يتقنه quot;جنرالات الكلامquot;، وهنا يصبح السؤال التالي مشروعاً ولا يخلو من منطق: أين تكمن مصالح الناس البسطاء؟، وهل هناك حقاً ثمة فائدة ترجى من الدخول في حروب لا ناقة لهم فيها ولا بعير؟، وبينما يدفع هؤلاء البسطاء الثمن من أرواح أبنائهم وقوت يومهم، فإن من يجني ثمرة هذه الحروب العبثية هي، إما نظام عنتري فاشي كما هو الحال في الشام، أو جوقة ملالي طهران الذين نصبوا أنفسهم وكلاء شؤون القداسة على الأرض .
المسألة بالتأكيد لا يمكن اختزالها في مدى شرعية أو جدوى اختطاف جنود إسرائيليين، بل في ثقافة الاختطاف التي تفشت على نحو واسع مؤخراً، فهناك عمليات اختطاف للإسلام تارة كما هو حال تنظيم quot;القاعدةquot;، وهناك أيضاً عمليات اختطاف للوطنية تمارسها كافة أنظمة القمع التي وصلت للحكم على ظهور الدبابات ومن خلال انقلاب عسكرية، يجري تدليلها باسم الثورات .
ثقافة الاختطاف لا تقف عند حدود السماء والأرض، بل تمتد إلى كل معنى نبيل وجميل، فحزب الله يختطف حاضر لبنان ومستقبله، وحماس تختطف دماء مئات الآلاف من الشهداء الذين ناضلوا قبل ظهور هذه الحركة، التي تتوهم أن إسرائيل سترش عليها ماء الورد حين تتورط في عمليات الاختطاف، متناسية أنها الآن في الحكم، وأن ما كانت تمارسه وهي مجرد quot;حركةquot;، لم يعد مقبولاً منها بعد تشكيل حكومة.
وحتى يجري توريط الشعوب بدعم هذه المغامرات، يدغدغ الضالعون في تزييف وعيها بعبارات ومشاهد عاطفية، عن عملية عسكرية إسرائيلية راح ضحيتها شاب أو طفل أو شيخ مسن، بينما يقفز تجار الحروب على السؤال الأكثر إلحاحاً، وهو لماذا التورط في مثل هذه الحروب العبثية غير المتكافئة؟، وحتى حين يضطرون للإجابة تراهم يسوقون أكواماً من الحروف والقعقعات اللفظية الفارغة عن الكرامة والعزة والوطنية والحتميات التاريخية وغيرها من كلمات الحق التي يراد بها عين الباطل، وإلا فما معنى أن يتحول لبنان إلى ساحة حرب بالوكالة، طرفاها دمشق وطهران من جهة، وإسرائيل والغرب من جهة أخرى؟، ولماذا يدفع البسطاء ثمن طموحات إيران النووية، وضعف وتهافت خطاب البعث السوري، الذي لم يقذف طوبة واحدة على إسرائيل لتحرير الجولان.
ثم لماذا ينفرد quot;حزب اللهquot; بقرار الحرب دون مراعاة لمواقف شركائه في الوطن من موارنة ودروز وسنة وغيرهم من الطوائف، بل ويجرهم معه لتحمل كلفة مواجهة عسكرية هم ليسو طرفاً فيها بالأساس، بل ربما كانوا من أشد معارضيها، بالنظر إلى أن هناك استحقاقات داخلية أجدر بالحسم من تصدير الأزمة إلى نطاق إقليمي قفزاً على أسئلة ملحة، كمسألة سلاح حزب الله وغيره من الجماعات، في الوقت الذي يحظر فيه على الجيش اللبناني دخول الجنوب، فيما يهيمن الحزب المدعوم من أطراف إقليمية على كل مظاهر الحياة هناك، ويرفع علمه الخاص ويدشن إعلامه الخاص، بل وينشئ جيشه من ميليشيات خارج الشرعية الوطنية، ويتلقى الدعم العسكري والمالي من إيران وسورية، فأي منطق يمكن معه استساغة مثل هذا الوضع الذي تنفرد به لبنان على كافة بلدان العالم، وحتى هؤلاء الذين يهللون لعنتريات حزب الله، بزعم أنه يقود ما يسمى المقاومة، لا يمكنهم قبول مثل هذا الوضع الشاذ لأي أي جماعة مهما كانت في بلدانهم، فهل يقبل المصريون مثلاً أن تسيطر جماعة quot;الإخوان المسلمينquot; على سيناء، وترفع علمها وتبث محطة فضائية خاصة بها، وتدرب ميليشياتها، وتنهمر عليها الأسلحة والذخيرة والأموال من دول أخرى؟
ولعل أخطر النتائج التي يمكن أن تترتب على التعبئة الإعلامية، هي حالة الاستقطاب الحادة التي يتسم بها الشارع العربي عموماً، والمصري خاصة وهي نتيجة مباشرة لما يمكن وصفه بحالة الفرز التي تمر بها المنطقة الآن، ومعها لم يعد بوسع أحد التستر خلف إمساك العصا من منتصفها كما دأبت على ممارسة ذلك النخب السياسية والثقافية المراوغة منذ عقود مضت، وأصبح الجميع أمام مفترق طرق، يفرض عليهم تحديد الاتجاه بوضوح لا يحتمل اللبس، ولا يجدي معه اللجوء المعتاد لمنطق التبرير وتمييع القضايا، والاستعانة بالبلاغة والقعقعات اللفظية، وصمت الشياطين الخرس حيال المسكوت عنه.
نحن الآن أمام خيارين: إما الانحياز إلى دولة الشرعية والقانون والانطلاق من قناعة مؤداها أننا جزء من هذا العالم، أو الانحياز إلى عبثية وإرهاب وابتزاز المنظمات الأصولية الراديكالية، كحزب الله وحماس والإخوان وبقية الأصوليات المتطرفة، ولا شئ آخر سوى الفراغ والوهم، وقد يتساءل البعض عما إذا كان الانحياز لأي من الفريقين يعني بالضرورة الوقوف ضد الطرف الآخر والجواب ببساطة هو quot;نعمquot;، فلم يعد هناك شك بأن هذه المنظمات الإرهابية تجر المنطقة إلى الاشتعال، ولا أفهم ما معنى وجود ميليشيات quot;حزب اللهquot; المسلحة بعد أن استنفذت غرضها وصارت عبئاً ثقيلاً على الوطن اللبناني بما فيه من بشر وشجر، وأصبحت هذه الميليشيات جزءاً من الأزمة اللبنانية وربما الإقليمية، وليست جزءاً من حلها، وأن كل الملتفين حول هذه المنظمة هم طائفة من المهووسين بالعنتريات، أو تجار الحروب والمنتفعين حقاً من استمرار الأنظمة الفاشية، وهدر أي فرصة لتغييرها، مع الانشغال في الحروب العبثية، وبالتالي استمرار الفساد والاستبداد والإرهاب الفكري والاحتيال السياسي، وترحيل الأزمات جيلاً تلو الآخر، وعلاج الأزمات بالزفة الدعائية، والمسكنات الضارة بالأوطان والشعوب.
[email protected]