لم يكن أمام الفتاة التي تسترق السمع والنظر للشاب الذي أحبت إلا أن تواعده سرا، وكانت الهدية مع الفجر، على الباب، لتقوم هي مع مثل الساحرات في السحر لتلتقط الهدية، كما يفعل اللصوص، ليتنبه الوالد فيفزع؛ فيكتشف الأمر، في مسرحية مملة يومية، بين بناتنا وشبابنا.
ولما وقع ما وقع، لم يكن أمامها إلا أن تستشير، ولكنها واقعة ليس لها من دون الله كاشفة؛ فكله غلط بغلط، والمجتمع غلط، ولم يكن لهم إلا أن يتصرفوا بالغلط، وتصرف الوالد كان خطئا فوق الغلط، حين أغلظ القول وهدد، ولم يكن في مقدور الوالدة أن تخالف الوالد الذكر الفحل.
لو كان الوضع طبيعيا لتعرفت الفتاة على عشرات الشباب، واختارت بحرية الشاب المناسب، ولكن بالتلفون وسرا فهي تشير إلى علاقة غير طبيعية، فهكذا ركبت بعض المجتمعات العربية.
ممنوع اللقاء. ممنوع الاختلاط. ممنوع المحادثة. كل شيء ممنوع. كل شيء حرام. كل شيء مصادر. وليس أمامنا سوى الانفجارات، وليس أمام البنت إلا التصرف سرا، حتى تضبط مثل اللصوص، في جنح الظلام، بجنحة؟
المهم أنها تورطت في الحب، وهو حقها، وقد يكون الشاب كذلك، يزيد أو ينقص قليلا. والزواج في بعض المجتمعات العربية مثل فتح الرقي والحبحب (يسمونه البطيخ والجبس وسواه) فإما كانت بيضاء مرة، أو حمراء حلوة.
كذلك كان قدر البنات والشباب في مثل هذه البيئات المظلمة، فليس أمامهم إلا التصرف سرا.
وأذكر شاباً أصبح في عالم الأموات رحمه الله ، لم يتعرف على عروسه إلا في ليلة الدخلة، فذعر وهرب وجاءني يلتجيء إلي نصيحة وتصرفا؟ فكان في ورطة وكان مثلي مثل الجراح الذي ينزف مريضه فيصل إلى حافة الموت ويطلب مساعدة رهط من الجراحين للنجدة مع ببك الدم.
وكل المشكلة هي في خلط العادات بالعقائد، وأكبر سد في العالم هو سد الذرائع، ومن حرم ما أحل الله، كان مثل من أحل ما حرم الله، وفي قصة عدي حين دخل على رسول الله ص وهو يقرأ قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وحين سأل بغرابة أنهم لم يفعلوا ذلك، شرح له المصطفى كيف تحصل مثل هذه الأمور، وكان الجواب إنهم اتبعوهم حينما حللوا الحرام وبالعكس، فذلك عبادتهم إياهم، ونحن يغيب عن بالنا هذا المعنى المزلزل.

ونحن نظن أنه ليس بيننا أحبار ورهبان، ولكن الاسم غير المسمى، والحقيقة غير الشعار، ومن لبس قفطان الكهنة صار كاهنا، ومن نطق بما يقولون، وتتدلى من عنقه كرافتة أمريكية، وعلى عينية نظارة إيطالية كان كاهنا، ولو ظهر في الشاشات الفضائية بصورة عصرية، فالعبرة في الحقائق وليس الكلمات، وحين نستبدل الواقع بالكلمات، ونثير معركة من غبار الكلمات، فإن القاموس يكسب كلمة ويخسر الواقع حقيقة. عرفها من عرفها وجهلها من جهلها.
ومن هذه الاختلاطات البشعة خلط الاختلاط غير الخلوة، والأولى مطلوبة، والثانية حرام، والخلوة هي اجتماع امرأة برجل، في مكان محصور، في غير عقد ودم حرام، مثل الزوجة والمحرمات، فهذا هو الحرام، ولكن حضور المرأة باحتشام في كل مجلس علم وذكر ومظاهرة وتعبير ومؤتمر ومجلس ومناظرة، فهذا هو من روح الإسلام.
والثورة الإيرانية وثورات جنوب أمريكا وأوكرانيا والصرب وجورجيا، بل وحتى في لبنان كلها نجحت بحضور المرأة، التي تحضر معها الإنسانية، وحيث حضرت المرأة حضر معها روح القدس، وكل النعومة واللطف والنبل والكرامة الإنسانية، وحيث تكاثر الذكور تنافسوا وتقاتلوا وذبح بعضهم بعضا.
وحسب عبد الحليم أبو شقة في كتابه (تحرير المرأة في عصر الرسالة) أن حضور المرأة كان طاغيا في كل مكان، وهو الأصل، ومن النصوص التي أوردها تلك العروس التي كانت تضيف الضيوف، وكيف نام الرسول ص عند أم حرام ليخبرها أنه رأى في المنام قوما من أمته، يعتلون ثبج البحر الأخضر، يجاهدون في سبيل الله، فتطلب منه أن يجعلها منهم، فيجيبها أنت منهم، ثم يغط في النوم مرة أخرى ليستيقظ وعلى وجهه علامات النضرة والسرور ويكرر نفس القول، فتطلب من جديد فيقول لها: لا .. أنت مع الأولين. وهذا الذي حدث فقد كانت مع فتح قبرص فزلت بها دابتها فماتت فقبرها هناك للبركة.. عليهن رضوان الله أجمعين، فهكذا فعلت النبوة مع المرأة، ووأدتها الثقافة الحالية بكل طقوسها وشعائرها وسد الذرائع فيها وأمن الفتنة فانطلقت كل الفتنة مثل اللافا من داخل البركان.
وكتاب (بنات الرياض) كان أكثر الكتب بيعا في المعرض الأخير لعام 2006م ليس لأن فيه عمق فلسفة كيرغارد وكافكا ودريدا وسبينوزا، بل لأنه كما يقول المثل (بزقت البحصة التي في الفم) فألقت الضوء على ما يحدث فعلا بين الشباب والبنات.
وهذا (التصريح) للمخفي يشبه سر انتشار أمثولة جحا بين الناس حتى اليوم، وما كان يفعله جحا، أنه يقول قولا لا يعني به ما يقول، أو يعني ما لا يقول، في صورة النكتة.
وأحيانا على لسان الحيوانات، كما فعل ابن المقفع، في كتابه كليلة ودمنة، قبل أن ينهي حياته مشويا في التنور مثل فروج محترق، فحين يخرس الناس جميعاً، لم يبق للنطق إلا الحيوانات.
وكتاب (نوادر جحا الكبرى) أصبحت نوادر (كبرى) بسبب بسيط، أن جحا تطرق إلى المواضيع الحيوية، وليس مثل خطب الجمع التي تتكلم عن فواكه الجنة ورؤية الله، في الوقت الذي تمزق حذاء وقفطان المواطن منذ أيام كافور الأخشيدي، ولا يرى إ لا الوجوه الجهنمية من المخابرات، التي علت وجوههم قطعا من الليل مظلما.
وأنا أقول هذا الكلام لأنه ليس عندي من الذرية إلا البنات، التي تراوحت اهتماماتهن بين إتقان أربعة لغات، والصحافة والكرتون (Animation) ومقارنة الأديان والموضة (Fashion) والحقوق، لتصبح أصغر بناتي محامية الآن في مونتريال في كندا، وأنا كنت واعيا جدا من الاختناق، الذي تعانيه بنات الشرق والاحتقار والدونية، ففعلت كما تفعل القطة مع بناتها، فتعض من الرقبة ثم تحمل الرضيع إلى بر الأمان، وهذا ما فعلته بأن أصبحت كندي الجنسية، وتروي لي بنتي أروى التي نسميها الحكيمة، التي تدرس الماجستر في علم الأديان المقارن، وهي وسط العقد بين خمس بنات، أنها لم تشعر بذاتها تماما، إلا وهي تقوم بالتحصيل العلمي في جامعة كونكورديا في مونتريال من كندا، وهي حاليا أم لأزميرالدا (وهو اسم عشقته من قصة أحدب نوتردام لفيكتور هوجو عن الغجرية التي خطفت طفلة، ونشأت بين الشحاذين، وأنقذت الشاعر من حبل المشنقة في مدينة الشحاذين؛ فهكذا كانت الحال في باريس في تلك الأيام، ولا يشكلون استثناء عن القانون الإنساني، كما هو حال الذل والهوان والعناء والغباء والبلاء والشقاء، الذي يعانيه العرب هذه الأيام ، في متحارجة صعبة، ومعادلة يعجز عن حلها رياضيو السياسة المنافقين.
إن قصة هذه الفتاة الموجعة وهي نموذجا يوميا مكررا حله ليس بين أيدينا إلا في مستوى فردي محدود، فضغط الثقافة أشد من مصانع تكرير السكر وصهر الحديد، فالثقافة تشكلنا بأشد من مصانع السيارات وحاويات القمامات فكلها معدن مصنع، وكذلك تفعل الثقافة وباسم الله ترتكب كل محرمات الله، ولم يكتب مارتن لوثر أسئلته التسعين على باب كنيسته إلا حين رأى أن الجنة أصبحت صالات قمار وسينما تشترى تذاكرها سلفا وأحيانا مجانا للمتنفذين.
ألا إنهم من أفكهم ليقولون....