quot;الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً .. ويعطينا شرائع مخالفة لهاquot; قالها الفيلسوف ابن رشد - 1126) 1198 ( منذ اكثر من ثمانية قرون؛ فرفضها العرب فتخلف وغابت عنه شمس الحرية والتقدم، وقبلها الغرب فتقدم وأضاء الدنيا بحضارة يأكل من فتاتها العرب.
ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أن الغرب بات هو المسيطر على العالم بما يملك من معارف، وعلوم، وثقافات تذخر بالقيم الحضارية التي تضمن الحقوق والرخاء والرفاهية ليس فقط للإنسان وإنما للحيوان والنبات وكل ما يمتلك صفة الوجود. وفي المقابل نجد العالم العربي خاضعا خانعاً تابعاً بالتمام والكمال للغرب ـ تقريباً ـ في كل المجالات: الاقتصادية، العسكرية، العلمية .. يدور في فلكه غير قادراً على الانحراف عن المسار الذي حدده له بمثقال ذرة.
إذن فنحن أمام حالتين متضادتين: الأولى عرب متخلف، والثانية غرب متقدم. وفي الحالتين توجد العقول وتوجد الشرائع. فماذا فعل العرب بالعقول والشرائع حتى وصل إلى حافة الهاوية ؟ وماذا فعل الغرب حتى وصل إلى قمة الرخاء والتقدم ؟ كيف استطاع العالم الغربي التوفيق بين العقول والشرائع في سيمفونية رائعة أثمرت الحضارة الغربية الحالية وإنجازاتها العظيمة. وكيف تعامل العرب مع القضية بطريقة أدت إلى التخلف المذري الذي نعيش فيه؟
للوصول إلى إجابات مقنعة نبدأ من العقل. فنجد أن التفكير العقلاني متغير وليس ثابتاً؛ إذ يعتمد على المعطيات والمدخلات التي تدخل إليه من علوم وثقافات وخبرات، وغيرها؛ وحيث أن هذه العلوم والثقافات متطورة مع الزمن فالتفكير العقلاني أيضاً يتغير ويتطور دون توقف. منذ ألفي عام لو أُعلن عن رحلة للتنزه على سطح القمر لأعتبر هذا ضرباً من الجنون، أما الآن فالأثرياء يتسابقون لحجز التذاكر!! أيضاً فالإنسان في بدء الخليقة كان همجياً حيوانياً يقتل ويذبح الآخر حتى ولو كان أخاه!! كان الإنسان لا يعرف معنى الزواج، والطلاق والأسرة فكل شيء كان مباحاً .. فلم تكن هناك أية ضوابط. ورويداً رويداً تعلم الإنسان وتطور فكره وأسلوب تفكيره نحو الأفضل وأصبح للإنسان حقوق وعليه واجبات يتعلمها منذ حداثته، وأكتسب الكثير من الفضائل والقيم الأخلاقية مثل الصدق، والأمانة وحب العمل .. يتساوى في ذلك أصحاب الديانات السماوية وغير السماوية، الذين لديهم شرائع سماوية، والذين وضعوا لأنفسهم شرائع أرضية.
من هذه المقدمة عن التفكير العقلاني يمكن للمرء أن يكتشف أن سر تفوق الغرب يكمن في معادلة رياضية .. يُعبر الطرف الأيمن فيها عن الحضارة الغربية الحديثة بينما يعبر الطرف الأيسر عن الشريعة مرفوعة للأس quot;عقلquot; ، وبحيث تكون الحضارة دالة (علاقة مشروطة) في العقل الإنساني مع اعتبار أن الشريعة ثابتة لا تتغير.
في الواقع أن هذه العلاقة بين الحضارة والعقل بهذا الوصف هي ما يقال عنه رياضياً الدالة الأسية (Exponential Function). وهي تلك الدالة التي تعبر عن أية عمليات نماء، تكاثر، تزايد.. فنجد الشريعة هي أساس (Base) الدالة باعتبارها ثابت لا يتغير، بينما العقل هو الأس (Exponent) باعتباره المتغير الحر المستقل. بهذا المفهوم فإن الذي يتحكم في هذه الدالة ( العلاقة بين الحضارة والعقل مع اعتبار الشريعة أساساً ثابتاً للعقل المتغير) هو العقل الإنساني وحده. وبالتالي فإن التغير الطبيعي والتطور الحتمي لمستويات تفكير العقل الإنساني سيؤدي حتماً إلى تغير طبيعي في قيم الحضارة الإنسانية. وبقدر ما يكون التغير في العقل الإنساني وبنيته الفكرية طبيعياً حراً بقدر ما يكون التغير في القيم الحضارية أصيلاً لا غش فيه دافعاً إياها إلى التعاظم الكمي والكيفي. هكذا استطاع الغرب فك الاشتباك بين العقول والشرائع فكانت النتائج مبهرة.
على العكس تماماً فإن العالم العربي تعامل مع الشرائع بطرق عاطفية (غير عقلانية) أفرغتها من مضمونها وجوهرها، واختزلتها إلى بعض الشكليات من الممارسات والعبادات ليس أكثر؟ .. بل والمثير للعجب والدهشة أنه تم فصل العقل عن الشريعة بطريقة لا تسمح بتقاطعهما ولو في نقطة واحدة. حتى إذا سئل أحدهم سؤالاً وجاءت الإجابة غير مقنعة عقلياً يُطلب منه الخضوع وقبول الإجابة بالإيمان والتسليم بما يرفضه العقل والمنطق!! فحدث نوعاً غريباً من الاشتباك بين العقول والشرائع يمكن تشبيهه بالحرب الباردة.
أيها الرفاق .. العقل متغير والشريعة ثابتة فمن يذهب إلى من؟ من يبحث عن من ؟ أعتقد أن الإجابة باتت واضحة إذ يجب على العقل المتغير أن يذهب إلى فضاء الشريعة الثابتة ليبحث فيها على ما يتفق معه ويؤيده، أما العكس فغير مقبول علمياً لأن الثابت لا يمكنه أن يذهب إلى فضاء العقل المتغير؛ لأنه ببساطة لن يجد فيه ثابتاً يتفق معه فهناك كل شئ يتغير. وهذا يعود بنا إلى مفهوم الدالة الأسية.
إذن ليس أمامنا إلا فك الاشتباك بين العقول والشرائع بالطرق العلمية الأصيلة التي تضمن للعقل العربي حقه في التفكير الحر الشجاع وأن نحميه من هيمنة الأصوليين والظلاميين.. علينا أن نبذل كل ما في وسعنا من أجل تنقية العقل العربي من كل الشوائب والملوثات الفكرية الكريهة على الأخص تلك التي تعرض لها في العقود الأخيرة.
أ.د./ إميل شكرالله ـ أستاذ الرياضيات بالجامعات المصرية
[email protected]
التعليقات