لم أكن أنوي العودة إلى موضوع تدريس ( الجهاد) بالصيغة التي تشتمل عليها مناهجنا، وهو الموضوع الذي حاورت فيه، وفي خطورة مآلاته، شيخنا صالح الفوزان، وكنت في مقال سابق، وضحت فيه وجهة نظري حول رد فضيلة الشيخ أنني سأعتبر هذا الموضوع منتهياً من قبلي، ولن أزيد، لأن ليس لدي ndash; بصراحة - ما أضيفه.
ردود الأفعال التي أعقبت المقال، والحرب المدمرة التي شهدتها لبنان، ومدى ما جرته مغامرات حزب الله، ومن دفعه إلى هذه الحرب غير المتكافئة، وغير محسوبة العواقب أعادتني إلى تاريخ الدولة السعودية (الأولى)، عندما لم يراع (الأجداد) موازين القوة والضعف، فانتهت (الدرعية) إلى أطلال؛ وها هي لبنان - بشكل أو بآخر ndash; تكاد أن تكون شاهداً تاريخياً آخر على تقافة (التحدي)، وعدم مراعاة موازين القوى، وما أشبه ليل (الدرعية) بليلة (بيروت) الكالحة.
الملاحظ أن أغلب الردود، والتي أحترمها كثيراً، هي - أيها السادة - تردد بشكل أو بآخر ذات المنطق الذي يقوله قادة حزب الله، أو قادة حماس، في مواجهة (العربدة) الإسرائيلية سواء في فلسطين أو لبنان.
سادتي: نحن ندرك، ونبصم، ونقول، ونكرر، ونوافق، ونردد، ولم نتجاوز إطلاقاً ، أن ثمة (معيارين) لدى الغرب، وأمريكا على وجه الخصوص، في التعامل مع القضايا العالمية، ومنها قضية الفلسطينيين مثلاً. ولا يمكن أن يرى عاقل هذا الكيل بمكيالين، إلا وأن يعترف بذلك. فأي قارئ محايد للأوضاع والصراعات العالمية سيدرك أن موازين التعامل هي (انتقائية)، وأن (الخلل) الذي يسود العالم، هو في وجه من وجوهه، وليس الوجه الوحيد بالطبع، بسبب أن هذه الموازين (انتقائية)، وغير عادلة.. هذه قضية نتفق عليها؛ وترديدها بين الحين والآخر، لن يزيد وضعنا في كيفية التعامل مع (الآخر) إلا تعقيداً، بل ربما أنها (ستدفع) بعض ضعاف العقول من (الانتحاريين) إلى القيام بعمليات جنونية، تماماً كما فعل (ابن لادن) وزمرته، أو (حماس) وأساطينها، أو (حزب الله) وسياسييه؛ أما النتائج فهي كما تشاهدون لا كما تسمعون.
وهذه هي أس القضية، والنقطة التي وجدت أن كثيراً من الردود قد تجاوزتها.
وأنا عندما أعترض على (طريقة) تدريس مفاهيمنا الدينية، كمفهوم (جهاد الطلب) مثلاً، وعلى الأسلوب الذي يجب أن يُراعى في تقديم (المادة) الدينية، فلا يعني البتة أنني أعترض على الدين، وإنما على الطريقة والأسلوب الذي يجب أن تأخذ في الحسان ثلاث نقاط رئيسة:

(أولها) أننا الأضعف وهم الأقوى. حتى وإن كنا الأقوى ndash; وأنـّـا لنا ذلك ndash; فإن ديننا هو دين السلام أولاً، أما الحرب فهي (الضرورة) التي يجب أن نتفاداها دائماً، ولا نقدم عليها إلا مضطرين. بهذا الوضوح يجب أن يتعلم أبناؤنا.

(ثانيها) أننا عالة على الغرب، ومنتجات الآخر؛ ولا نملك ndash; إطلاقاً - الاستغناء عنه، وعن ثقافته، وعن منتجاته، إلا إذا قررنا أن نعيش كالفئران في (جحور) تورا بورا كما يفعل ابن لادن الآن؛ فإذا كان هذا هو (خيارنا)، فلنعلنها على الملأ، ونتحمل بالتالي التبعات.

(ثالثها) أننا عندما لا نبالي بما يقولون عنا، وعن نقدهم لثقافتنا، ولمناهجنا، ونصر على (الراهن)، ونكابر، ونغالط، ونصفق لمواقف (التحدي)، وشعارات الأنفة والعزة والكرامة التي يُطلقها البعض، فنحن نمارس الخطأ الذي وقع فيه الأجداد، و يقع فيه (حزب الله) أيضاً في لبنان هذه الأيام عندما أصر أن (الجهاد) هو الخيار الذي لا خيار غيره، فأعطى لإسرائيل (المبرر) لأن تنقض على لبنان، وتدمر البشر والحجر، والعالم كله يتفرج، وأحياناً (يجامل) بالتنديد أو الشجب، ومع ذلك لم تتوقف (خطة) التدمير، والسبب أن قادة (حزب الله) لم يراعوا ضعفهم، ولم يتنبهوا (ربما) ، وإذا افترضنا - جدلاً - حسن نوايا قادتهم، إلى (المصيدة) التي وضعتهم إسرائيل فيها، واستمروا في التحدي والمكابرة، ورفع الشعارات، والإصرار على (القوة) في التعامل مع الآخر، رغم أن (القوة) التي يُزايد عليها قادتهم، هي بالمقارنة مع ما تملكه إسرائيل، مثل أن تقارن (خنجر) بدبابة!
أن نرفع شعار (العلاقة بغير المسلم أصلها الحرب، وليس السلام)، ونـُـدرس هذه (المعادلة) لأبنائنا، ونقول أن التنازل عنها هو تنازل عن ديننا، فنحن بهذه الممارسات غير المسؤولة، نعطيهم (الذريعة) أمام العالم كي (يُبرروا) عداءهم لنا، ولثقافتنا، تماماً كما أعطاهم حسن نصر الله الذريعة كي يدمروا بلده !. ولن ينفعنا طالما أننا الضعفاء، وطالما أننا لا نملك مواجهتهم، القول: ( أن أمريكا هي التي لا تلتزم بمواثيق الأمم المتحدة وليس نحن)، كما يردد البعض، ويرددها زعماء حزب الله ؛ فطالما أن أمريكا هي التي في يدها القوة، والسلاح، وفرض رأيها واجتهاداتها فرضاً على العالم، ونحن في المقابل ليس في أيدينا إلا (الشرعية الدولية)، والأمم المتحدة ، فلماذا نعمل على أن نظهر وكأننا ومواثيق الأمم المتحدة على طرفي نقيض ؟.. لذلك فإننا عندما نرفع شعار (الحرب لا السلام هي الأصل في العلاقة بيننا وبين غير المسلم)، فنحن بذلك، و(بالمنطق السياسي) والواقعي، نتخلى عن أهم ما نملكه في حالة ضعفنا المعاصرة، إذ ننسف (الآلية) التي من خلالها نستطيع أن نبقى على قيد الحياة، وهي (مواثيق) الأمم المتحدة، حتى وإن كانت هذه الآلية ضعيفة أو واهنة.
والحقيقة التي يجب ألا نتجاوزها هي أننا لا نملك القوة التي تؤهلنا لمواجهتهم، وثقافتنا غير مؤهلة الآن، ولا أظنها ستكون مؤهلة في المستقبل القريب ، لأن تنتج (القوة) بمعناها الواسع، لمواجهة الآخر؛ هذه حقيقة لا يجب أن ننساها في حمى الشعارات و المزيدات التي تطغى على خطابنا المحلي للأسف بمختلف تشكلاته كما هي حال أغلب الردود التي تتناول الموضوعات التي أتحدث عنها.
ومن (الغباء)، أو الحمق، أن نتعامل مع الغرب، ومع قوتهم، ومع ثقافتهم،ومع حضارتهم، على أننا (أنداد) لهم. فابتداء من هذه (الصحيفة) التي بين يديك الآن، والتي تقرأ فيها هذا المقال، مروراً بكل شيء في حياتنا، وحتى طريقة قضاء حاجتك في (الحمام)، هي منتج (غربي) 100 %. لذلك نحن (عالة) على هذه الحضارة، وبدونها لا بد أن نعيش في كهوف ومغارات تورا بورو كما اختار ابن لادن. وعندما نعلن على رؤوس الأشهاد أننا نعاديهم، ونكرههم، ونتربص بهم، وسوف نذبحهم، ونسترق رجالهم، ونسبي نساءهم، في الوقت الذي نملك فيه القوة، فمثل هذا القول ndash; بصراحة - مدعاة للضحك والتندر. وليبشر (مربعُ) بطول السلامة، وليكف (الفرزدق) عن المغالطة؛ ذلك أن ثقافتنا المعاصرة لا يمكن أصلاً أن تملك القوة؛ إلا إذا عرف القوم شروط إنتاجها. وطالما أن بيننا وبين شروط ومسببات إنتاجها مثل ما بين المشرق و المغرب، فعلى الأقل يجب أن نحافظ على جنسنا من التلاشي والانقراض. هذا كل ما هنالك.