يوجد فرق كبير بين توازن الرعب وتوازن القوى، و نستطيع التأكيد أنه في ميدان توازن الرعب تمكنت حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية ( حزب الله )، أن تلحق بدولة إسرائيل - مدنيين و عسكريين - رعبا يوازي الرعب في الجانب الفلسطيني واللبناني. أما في ميدان توازن القوى فهو منذ احتلال فلسطين عام 1948 مائل بشكل هائل لصالح دولة الاحتلال، التي خاضت مواجهات وحروب : العدوان الثلاثي ( 1956 )، حرب الأيام الستة ( 1967 )، حرب أكتوبر (1973 )،اجتياح جنوب لبنان وحصار بيروت ( 1982 )، وكلها انتهت بهزيمة الجيوش العربية المشاركة في تلك الحروب، مع عدم إنكار البطولات والتضحيات التي خاضها الجيش المصري في حرب أكتوبر والخسائر الفادحة التي ألحقها بجيش الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن المقصود هو أن نتيجة الحرب لم تسفر عن تحرير الأراضي المصرية المحتلة، التي بقيت محتلة حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979. وهذا يعني أنه طوال أكثر من خمسين عاما لم تستطع الدول العربية مجتمعة أن تبني جيشا قطريا أو عربيا موحدا، يكون قادرا على مواجهة جيش الهجوم الإسرائيلي، الذي مهمته الهجوم فعلا على نقيض اسمه (جيش الدفاع). ضمن هذا الاختلال المرعب في موازين القوى، يصبح من المهم والوطني وضع حسابات الربح والخسارة في الاعتبار عند التفكير في أية مواجهة عسكرية مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، خاصة أن الهدف هو تحرير الأراضي المحتلة وليس إرسال قوافل من الشهداء إلى الجنة لملاقاة الحور العين.
ضمن هذا السياق، يصبح منطقيا ووطنيا التساؤل: هل يساوي ثلاثة جنود إسرائيليين تم أسرهم، هذا الموت والدمار الذي يلحقه جيش الاحتلال الإسرائيلي بمناطق السلطة الفلسطينية وعموم الأراضي اللبنانية؟. وهل أسر الجنود الإسرائيليين الثلاثة قدّم تعزيزات جديدة للصمود الفلسطيني واللبناني؟. الواقع يثبت العكس بشكل مأسآوي من خلال حقيقتين:
الأولى: حجم التدمير الذي طال كافة نواحي الحياة في قطاع غزة والضفة الغربية وعشرات القتلى والجرحى، وبدلا من تحرير أسرى ومعتقلين حسب المطالب الفلسطينية، تمّ اعتقال العشرات الجدد من بينهم أربعون من أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني و سبعة وزراء من الحكومة الفلسطينية، أي تعطيل وشلل كاملين للحياة البرلمانية والتنفيذية الفلسطينية. وهنا لا بد من إعادة التأكيد على ما أكده الرئيس المصري حسني مبارك أكثر من مرة آخرها قبل يومين، (أن الوساطة المصرية توصلت فعلا لإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي مقابل إطلاق عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، وفجأة تدخلت أطراف خارجية، عطلت الوساطة وما نتج عنها من اتفاق). من هي هذه الأطراف الخارجية؟. هل هناك غير النظامين السوري والإيراني؟. وهل هي من باب الصدفة أن تأتي عملية حزب الله التي نجم عنها أسر جنديين إسرائيليين ضمن نفس السياق الذي أدخل هذه الأطراف الخارجية على ساحة الصراع، وبخطابات غوغائية فقط لا تدعم صمود الشعبين الفلسطيني واللبناني.
الثانية: حجم التدمير شبه الكامل للبنية التحتية اللبنانية من الجنوب إلى الوسط إلى الشمال، هذا التدمير الذي تقدره الأوساط اللبنانية حتى اليوم بما يفوق أربعة مليارات من الدولارات، بالإضافة إلى ما لا يقل عن نصف مليون من النازحين والمهاجرين والمشردين، والسنوات التي سيحتاجها تعمير ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية تحت ذريعة تحرير الجنديين الأسيرين.
وقد أصبح سخيفا وجاهلا استمرار السؤال: أين الدول العربية من مساعدة الشعبين الفلسطيني واللبناني؟. لأن السائل يعرف قبل غيره أن هذه الأقطار مجتمعة لم تستطع الوقوف أمام الغطرسة الهمجية الإسرائيلية في أي وقت مضى، فهل تستطيع هذا الآن فجأة بناءا على أحلام وليد المعلم وزير الخارجية السوري. والذي لم يوضحه الوزير هل أحلامه الوردية أم الشيطانية، تشمل دولته سورية؟. لأن هناك دول عربية بينها وبين إسرائيل اتفاقيات سلام، ومن غير المتوقع أو المستطاع أن تهب لدعم الشعبين الفلسطيني واللبناني عسكريا،وعلى رأسها مصر أقوى قوة عسكرية وبشرية عربية. وهناك دول عربية غير حدودية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فمجال المزايدات الكلامية والخطابية مفتوح أمامها كما ظهر في اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير من دول كاليمن وقطر والجزائر وغيرها. ويبقى موقف النظام السوري هو الغريب والمضلل، فأرضه محتلة ولميتوقف منذ اندلاع المواجهات الأخيرة عن تكرار بيانات دعمه للبنان بكل الوسائل، ورغم ذلك لم يطلق رصاصة واحدة ضد الهجوم الإسرائيلي، والمضحك المبكي، أن أكثر من مسؤول سوري هدد إسرائيل بالويل والثبور إن هي هاجمت الأراضي السورية، وهذا يعني أن حزب البعث الحاكم حزب قطري غير قومي، فهو لا تهمه الأراضي اللبنانية إلا عندما كانت واقعة تحت احتلاله ينهب أرضها وثروتها، وحتى في ذلك الوقت لم يطلق الجيش السوري رصاصة واحدة ضد الاحتلال الإسرائيلي، سواء عندما كان يهاجم الأراضي اللبنانية أو السورية، فقد ضربت إسرائيل منطقة عين الصاحب السورية قبل حوالي عام ونصف، وحلقت الطائرات الإسرائيلية فوق القصر الجمهوري الأسدي قبل أسابيع قليلة، دون مواجهتها برصاصة طائشة واحدة.
وضمن أحلام النظام السوري الوردية أو الشيطانية أو العبثية، مطالبته مؤتمر وزراء الخارجية العرب الأخير باعتماد عدة بلايين من الدولارات لبناء جيش عربي في دول الجوار الإسرائيلي، وهي ليست أحلام وردية أو شيطانيه أو عبثية، ولكنها رغبات لصوص يريدون ثروة جديدة بعد أن انسحبوا من المزرعة اللبنانية. فالنظام السوري ومعلمه وليد، يعرفان أن دول الجوار: الأردن ومصر توقعان اتفاقيات سلام مع إسرائيل وكذلك السلطة الفلسطينية، فمن يتبقى من دول الجوار غير سورية؟. أي أن المعلم ناقل رغبات نظامه السوري يعرف أن هذا الاقتراح عند الموافقة عليه يعني وصول هذه البلايين لجيوب عائلة الأسد وآل مخلوف لتزيد ملياراتهم المنهوبة من ثروة الشعبين السوري واللبناني، خاصة أن النظام السوري لم يعط إشارة واحدة على رغبته في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فما قيمة مخزونه الحالي من السلاح الذي لم يستعمل ضد إسرائيل منذ عام 1973، وهو يشحذ السلام مع إسرائيل ولكن وجد فرصته في المزايدات الكلامية التي لم تمنع العدوان الهمجي الإسرائيلي يوما ما، لذلك كان رفض الوزراء العرب لأحلام المعلم الشيطانية مبرر ومشروع، فليس من المنطقي أن تكون سرقات النظام السوري الجديدة بقرار من القمة العربية وموافقتها، رغم أن الغطاء هو تكوين جيش عربي، والمثير للغرابة أن فاروق القدومي ممثل السلطة الفلسطينية في المؤتمر أيد اقتراح المعلم السوري، دون أن يوضح لنا باسم من يتحدث؟. باسم السلطة الفلسطينية المعترفة بإسرائيل والموقعة اتفاقيات سلام معها، أم باسم الحكومة الفلسطينية التي وزير خارجيتها هو محمود الزهار؟
ازدواجية المواقف وتناقضه
ومما يزيد الموقف تعقيدا وصعوبة هو أن النقطتين الساخنتين في غزة ولبنان، تعيشان حالة من الازدواجية التي تصل حد التناقض والتصادم، فالسلطة الفلسطينية تعترف بإسرائيل وبينهما عدة اتفاقيات رغم عدم تنفيذها، في حين أن حركة حماس والجهاد ترفضان الاعتراف بها. وفي لبنان لا توجد حالة حرب معلنة بين الدولة اللبنانية الرسمية وبين دولة إسرائيل، في حين أن حزب الله يعلن الحرب عليها ويشن من حين إلى آخر الهجمات العسكرية ضدها. وكذلك فالدولة اللبنانية لا تبسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية، إذ أن الجنوب اللبناني يكاد يكون خارج السيادة والسلطة اللبنانية الرسمية، بدليل رفض الحكومات اللبنانية المتتالية إرسال الجيش اللبناني للجنوب، وهذه الحالة اللبنانية لا مثيل لها إلا في الصومال حيث لا توجد حكومة مركزية واحدة، وكل ميليشيا تبسط سيطرتها على مساحة من الأرض وتتعامل مع المليشيات الأخرى كدول مستقلة وفي حالة حرب دائما. ومن حق حسن نصر الله أن يصرّ في شريطه التلفزيوني الأخير على (أنه لن يسلم الجنديين الإسرائيليين لو جاء الكون كله إلا بالتبادل)، لأنه من الناحية الأخلاقية والإنسانية ليس مقبولا أن يكون أسيرين إسرائيليين أغلى وأثمن من عشرة ألاف أسير فلسطيني ولبناني، إلا أنه من الناحية الميدانية هل يستطيع حزب الله مواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية؟. ففي الحرب لا يكفي أن يقول حسن نصر الله أن إسرائيل فشلت حتى الآن في تدمير خمسين بالمئة من قدرات الحزب الصاروخية، لأن المبالغة في هذه القدرات الصاروخية يعطي إسرائيل تعاطفا دوليا أكثر من الحالي، وهل استطاعت هذه القدرات الصاروخية أن تلحق بإسرائيل واحد في المليون من الخسائر والتدمير الذي ألحقته بلبنان وغزة؟ إنها ليست دعوة للاستسلام بقدر ما هي لإعادة الحسابات.
إزاء هذا الواقع العربي الحائر بين الاعتراف بإسرائيل ومقاومتها، وتشتت الدول العربية إلى تشرذمات إقليمية تسعى لمجرد عيش أنظمة الفساد والطغيان، لا تروج إلا مواقف الدعم والنضال الكلامي والخطابي خاصة من النظام السوري، ودخلت بازار النضال الخطابي أشرطة حسن نصر الله المرئية التي احتلت مركز الصدارة الآن حيث تراجعت أشرطة أسامة بن لادن الذي لم نسمع رأيه بعد في هذه الحرب، ربما بسبب صعوبة الاتصال بين قناة الجزيرة وجبال تورا بورا الأفغانية. هذا الواقع العربي لا قيادة فيه للأنظمة ولا لمنظمات المقاومة فكل يسرح على هواه، وبالتالي ففي واقع عدم التنسيق هذا لا أحد يستطيع التنبؤ بغير المزيد من الدمار والموت والتخريب، فهكذا واقع عربي لا يقود إلا لغير هذا، وهو نفس الواقع منذ ستين عاما، في حين أن دولة الاحتلال الإسرائيلي متفقة، يمينها ويسارها وعمالها وليكودها على هذه الحرب التدميرية الهجومية بحجة الدفاع عن النفس وسط تأييد عالمي شبه كامل. لذلك فالتخبط العربي لا ينتهي إلا بالاتفاق على تبني أجندة واحدة، أجندة الأنظمة أم المقاومة مع معرفة إمكانية تطبيق كل أجندة، فاستمرار هذا التخبط لن ينتج إلا المزيد من الموت والدمار وأشرطة الفيديو التي تعيش عليها بعض الفضائيات العربية، وقوافل من الشهداء حيث الحور العين والولدان المخلدون!!.
[email protected]
التعليقات