العلاقة بين الميليشيا والدولة علاقة تعاكسية. تظهر الميليشيا في حالة غياب الدولة او ضعفها، بكلمة اخرى في حالات الطوارئ والازمات وانحلال المجتمع المدني او ضموره. وحين تكون الدولة بمعناها المؤسساتي ذي السلطات الثلاثة المستـقلة في اوج عافيتها تـنحسر الميليشيا او يتم تفكيكها عادة على يد الدولة ذات السلطة المهيبة.

يلزمك، كي تشكل ميليشيا، بضعة افراد اولي قوة وبأس شديدين، عادة بوجوه ملثمة او بلا ملامح ، وبضعة اناشيد حماسية وجوقة من قارعي الطبول وحفنة من الكتــّاب ذوي الديباجة الرفيعة وquot;لوغوquot; ( يــُـفضل ان يحمل هيئة طيـر من الكواسر او بندقية موشاة بكلمة بخط الثلث ذي الزوايا الجارحة) ويلزمك ايضا، وهذا هو الاهم قائد رمز (يـُـفضل عادة ان يكون بلحية شعثاء وعينين نفاذتين كعيني صقر واذا توفرتْ quot;هالةquot; على الرأس بيضاء او سوداء وفقا لميول الرفاق فهذا غاية المنال وعز الطلب) .

ولان مهمتها( الميليشيا) هجومية ذات هدف تدميري، ولان دورها مؤقت مرتبط بالراهن وتغيرات الواقع فهي تـتمتع بحرية مطلقة في ممارسة نشاطاها العسكري، تـتخذ من ظلمة الليل ستارا ومن الكهوف والمغارات والاحراش ملاذا وسكنا، ومن التجمعات المدنية دروعا بشرية واقية. ولانها بلا كيان جغرافي او ايديولوجيا محددة بل ذات كيان شبحي وسياسة براغماتية مرنة، يسهل عليها التـنصل من الاتـفاقيات والعهود التي تبرمها مع الطرف الآخر حسب مشيئة الريح وتـراوح القلوب.

وفي حساب الخسارة والربح، او الهزيمة والانتصار فليس لدى الميليشيا ما تخسره، طالما كان هدفها الاساس هو انجاز اكبر ما يمكن من الاذى بالآخر الذي يكون عادة اما قوة محتـلة او الدولة ذاتها او ميليشيا اخرى معادية، وطالما كانت جوقة الديباجيين ذي قريحة استيهامية وذي براعة حاذقة في تهذيب الوقائع وتحويرها بما يتلائم مع ما يقولون او بالاحرى مع ما قيل منذ عصر الفتوحات العربية العظيمة ويتم استعادته وتمثــّله في كل واقعة بالالفاظ والصياغات ذاتها. وطالما كان الظفر باحدى الحُسنيـين مكفول، وطالما كانت شاحنات الاغاثة تـتواكب طرديا مع حجم الاشلاء المتـفحمة من الاطفال والنساء التي كانت دروعا بشرية لأجل ان يكون المشهد اكثر فجائعية واشد ايقاظا لنفوس المتبرعين من الباحثين عن كفارة عن ذنوبهم او ردود مظالم او صدقة تطيل اعمارهم.

يلزمك كي تشكل ميليشيا ما يلزمك من سهولة للهدم والتخريب على خلاف الدولة التي يتطلب تأسيسها امكانات هائلة واهمها التوافق على العيش على ارض واحدة والاعتراف بالاخر المختلف عقائديا، وان له الحق ذاته في الانسانية والمواطنة، ولا اعتقد،على حد علمي، اننا، في عالمنا العربي، نملك اقل القليل منها.

ولهذا كان لنا ان نختار - ربما لان الكسل طبيعة متأصلة فينا- الميليشيا على الدولة، ان نستبدل الطارئ بما هو دائم، ربما لان يقينا راسخا لدينا يملي علينا اننا من طبـيعة زائلة. ولهذا كان اعجابنا بحكوماتـنا يستعر كلما كانت ممارساتها اشد اخلاصا الى طبيعتها الميليشياوية ذات الفضاء المفتوح على مغامرات وبطولات هلالية ( من ابي زيد الهلالي) على غرار اجتياح صدام للكويت او مفخخات الاسد الثاني في لبنان او ملاحم الاختطاف كما فعلت quot; الدولةquot; حماس او quot; الدولة المستقبلية!!quot; حزب الله ، وهي منجزات حميدة توفر لاخوة السلاح ارضا خصبة لمزيد من القوة وشرائط الديمومة كما ينمو الدغل في الحقل المتروك، او كما تـتـكاثر العقارب والسحالي في البيت المهجور.

ولهذا تـزدهر الميلييشيا في العراق، فهي تمارس حضورها على اكمل وجه، ليس الحربي فقط بل quot;الانسانيquot; كتـنظيم السير وتوزيع البطاقات التموينية او حتى عقد محاكم للمارقين او المخالفين، وهي بعض مهام الدولة ذات المهابة التي لم تظهر من ظلمات الغيب بعد، واذا طال مكوث هذه الدولة هناك في ذلك الرحم الجليل، فليس امامنا سوى قشة صغيرة، وهي على وشك الهبوط، لا سمح الله ، على ظهر جملنا الجريح حتى يتحول العراق الى دولة ميليشيات صرف شبيهة بافغانستان مابعد التحرير من الاتحاد السوفيتي السابق، ولتـنجلي الامور بعد ذاك عن طالبان جديدة تطوي تحت عمامتها الكبيرة جميع العمائم الاصغر حجما.

ولهذا ايضا، وهو دلالة العنوان اعلاه، يزفّ الينا حزب الله بشرى انتصاراته المتلاحقة، التي لا يمكن قياسها الا بمقدار الخراب الذي يغمر لبنان لأحدَ عشرَ يوما، والذي يتمثل بنصف مليون لبناني مشردين في العراء ومئات الابرياء الذين تـتـفحم اجسادهم ومثله من الجرحى وتجريد بلد بكامله من ابسط مستلزمات الحياة اليومية للبشر كالماء والغذاء او الدواء. واذا لم تـنزل المعجزة و يتـشفف قليلا قلب quot;الامين العامquot; و يصغي لهمس تواضعه، ويرضى - حقنا للدماء وحفظا للبلد- بضعف ذات اليد وتخاذل الاخوة، وان يدع للسياسي فيه ان يحل مكان الجندي المحارب حتى آخر قطرة دم ، وان يدرك- وهو يدركه يقينا- انْ لا اسير من البشر على وجه الارض يرضى ان تكون دماء الاطفال فدية لفك رقبته، وان تكون له، ولو مرة واحدة، اسوة حسنة في جده الحسن المجتبى - وهو سميه - لا الحسين فان البلاد هالكة لا محالة.

ليست هذه بحرب بل ابادة شاملة لبلد بكامله، ولم يحدث قط ان نرى عدوانا وحشيا كالذي تمارسه اسرائيل ضد لبنان مصحوبا بما يماثله من وحشية اخرى هي صمت العالم كله، كله باجمعه، ان لم نقل مباركته ، فأيّ حرب ٍ تسمــّي.

من احدى الروايات في تاريخنا العربي، لا بأس بذكرها هنا لعبرتها، أنّ امراتين تـنازعتا على امومة صبي، وحين جيء بهما مع الصبي الى الامام علي عليه السلام، قال : ناولوني منشارا، وحين سئل عماذا يريد ان يفعل به، قال: اريد ان اجعل الصبي نصفين، ولكلّ واحدة منهما النصف. حينها شهقتْ احداهن وقالت، رحمتكَ .. اللهم ..، لا اريد نصف الصبي ، لتأحذه المرأة فهو ابنها. حينها، قال الامام: لا والله ، انه لك، ولو لم تكوني امــّـه بحق لرضيتِ ان يقطع نصفين كما رضيتْ هذه المراة التي لو كانت اما له لما رضيتْ.

من يحملْ قلب هذه المرأة... ويضعـْــه مكانَ قلب الامين العام، فانّ له مع الله سرا ً وحظوة ً. عساه أنْ يكونَ بيننا، اقول عساه ولعلــّه.

[email protected]
www.atyaf.20m.com