مدخل الى الخطاب (2/2)
بقلم سارة ميلز
ترجمة وتقديم: غريب اسكندر
quot;ما قد قلته هو ليس (ما افكر)، بل هو طالما اتساءل اذا كان يمكن الا افكر بهquot;. (فوكو 1979: 58).
quot;يبدأ عمل فوكو مهمة شاقة في تفكيك فكرة كون المعرفة تعبيرا عن فكر الانسان.quot;(ماكدونيل، 1986: 86)
كان عمل فوكو مهما في تطور سلسلة من النظريات المختلفة التي صنفت وبشكل واسع تحت مصطلح (نظرية الخطاب) ولهذا السبب سيركز هذا الكتاب اساسا على عمله الذي كان دوما صعب الفهم ويعود ذلك جزئيا الى اسلوبه المعقد تارة وكثافة المراجع التي يستعملها تارة اخرى. ولكن السبب الرئيس في صعوبته هو بسبب تحديه للمفاهيم الجاهزة PRECONCEIVED NOTIONS التي نمتلكها عن سلسلة طويلة من الموضوعات المختلفة مثل: الجنسانية والجنون والعقاب والذاتية واللغة.حاولت في الفصلين الثالث والرابع من هذا الكتاب أن ادنو من بعض كتابات فوكو التي ستساعد القراء على التفكير في مصطلح الخطاب. وقد اعطى فوكو بعض التعريفات العامة الذي سنناقشه لاحقا ببعض التفصيل، لكن ربما أن أكثر الطرق فائدة لبحث المصطلح هو معرفة كيفية استعمال فوكو له في مناقشاته للقوة والمعرفة والحقيقة، تلك التركيبة الاساسية للخطاب.
عمل فوكو ليس نظاما فكريا ولا هو نظرية عامة. انه يمتد في موضوعات واسعة ومختلفة ومن الصعب جدا وصفه بالمؤرخ او الفيلسوف او المحلل النفسي او المنظر النقدي. مثلما قال هو نفسه:كل كتبي... هي صناديق ادوات صغيرة... اذا اراد الناس فتحها لاستعمال هذه الجملة او تلك الفكرة كمفك او (كهربة) مغالطة او تحطيم لانظمة قوة بما فيها تلك التي ابرزتها كتبي... (فوكو: 1979). ومن ثم فإن مصطلح الخطاب لم يتجذر داخل نظام اكبر لافكار نظرية مفهومة بشكل، لكنه احد عناصر عمل فوكو. وهذا النقص يسبب احيانا صعوبة للمنظرين وربما يكون احد اسباب وجود تعريفات مختلفة لمصطلح الخطاب، وتعديلات عديدة جدا لمعنى المصطلح. مع ذلك نقص النظام العام هذا يصنع مرونة مؤكدة عندما يحاول المنظرون استعمال عمل فوكو لقياس التغيير في الظروف الاجتماعية.
أحد اهم المناهج النافعة في النظرالى الخطاب لا بوصفه مجموعة علامات او امتداد نص، بل بوصفه ((ممارسات تشكل الموضوعات التي تتطرق اليها تلك العلامات)) (فوكو، 1972: 49). بهذا المعنى يكون الخطاب شيئا ينتج شيئا اخر (قولا، مفهوما، اثرا) اكثر من كونه شيئا يوجد بنفسه او يمكن تحليله في انعزال. ومن الممكن الكشف عن البنية الخطابية التي تتكون في اطار معين، وذلك تبعا لطريقة معينة للتصرف والتفكير. ومن ثم نستطيع الافتراض ان هناك جمعا من خطابات الانوثة FEMINITY والرجولة MASCULINITY لأن الرجال والنساء يتصرفون في حدود معينة عندما يعرفون انفسهم موضوعات جنسية. هذه الاطر الخطابية تحدد تخوم نتفاوض ضمنها حول ماذا يعني ان تكون جنسا GENDERED معينا. ان تلك الخطابات هي التي يلجا اليها المثليون والثنائيون والطبيعيون جنسيا، عندما يحاولون الوصول لفهم انفسهم جنسيا؛ عندما تتبنى سحاقية موقفا انثويا ، فانها فعلا تحوره وتعيد تشكيله، وبالنتيجة تخلخل الخطاب. (بيل: 1994). هذا الاطار الخطابي للانوثة ربما يحدد انواع الملابس التي تختاره للبسها، والمواقف الجسدية التي تتبناها وطرق التفكير بنفسها وبالاخرين فيما يتعلق بعلاقات القوة.
في ما يتعلق بالتفكيرفي الخطاب كتأثيرات، من المهم اعتبار عوامل الحقيقة والقوة والمعرفة، التي بسببها كان للخطاب تأثيراته. الحقيقة، بالنسبة لفوكو ليست شيئا ناشئا عن قول، ولا هي ميزة مجردة ومثالية لما يطمح اليه الناس؛ يرى فوكو ان الحقيقة شيء سلبي او من الواقع او دنيوي الى حد بعيد:
((الحقيقة هي من العالم ؛انها تنتج هناك بفضل قيود متعددة... لكل مجتمع نظامه الخاص للحقيقة، (سياسته العامة) للحقيقة التي تعني: نماذج الخطاب التي تحويها وتجعلها صحيحة، الآليات والامثلة التي تتيح للمرء ان يميز بين البيانات الصحيحة والزائفة ؛المنهج في كليهما مُقرٌ ؛التقنيات والاجراءات المفضلة لاحراز الحقيقة، مكانة الموكلين بالقول ان ما حسبوه كان صحيحا. (فوكو، 1979: 46).
الحقيقة، لذلك، هي شيء ما يجب لانتاجه اجتماعيا، أكثر منه شيئا يظهر بشكل منزل TRANSCENDENTAL. ويحلل فوكو النتاج الذي ينجزه الناس لابعاد اشكال معرفية من ان تعد (حقيقة). ولتأمل المثال الذي ناقشه نورمان فيركلوف (فير كلوف: 1992)، (معرفة بديلة عن الصحة لا تعني ان تعطى مكانة علم الطب المتعارف عليه نفسها ؛ او مقداراً كبيراً من الجهد والعمل الخطابي يبذل كي يعد الطب البديل اقل اهمية، وغير متقن ويقع في حقل الدجل، مما يحفظ للعلم الطبي سلطة (الحقيقة) و (العلمية). ومن ثم فإن الخطابات لا توجد في فراغ بل في صراع مستديم مع الخطابات والممارسات الاجتماعية الاخرى التي تعلمهم مسائل الحقيقة والسلطة معا. كما يضع فوكو ذلك: ((اريد بمحاولتي هذه ان اكشف عن ان اختيارالحقيقة، داخل ما وقعنا به لكننا نجدده باستمرار، كان مصنوعا ndash; لكن كذلك كيف يتم تكراره وتجديده واستبداله)) (فوكو، 1981: 70). اذن لم يكن فوكو مهتما فيما اذا كان الخطاب حقيقة او تمثيلا دقيقا للواقع، في حالة ما اذا كانت المداواة البديلة اكثر فاعلية من الطب المتعارف عليه ؛او بالاحرى كان مهتما بالآليات التي وفقا لها يقدم احد الخطابات على انه خطاب مهيمن، تدعمه ماليا مؤسسات وتقوم الدولة بتدبير البنايات والموظفين له، وتحترمه الجماهير جميعا، في حين ان الخطابات الاخرى عوملت بريبة وتقيم، استعاريا وحرفيا، على هامش المجتمع.
القوة، اذن، هي مفتاح اساس في الجدل حول الخطاب. وقد لعب فوكو دورا فعالا في اعادة التفكير بنماذج القوة ؛اكثر منه افتراضا مثل عدد من الانسانيين الاحرار الذين ينظرون الى القوة بوصفها امتلاكا (لذلك ان احدا ما يأخذ او ينزع القوة من شخص اخر) او ان القوة تعني اغتصاب حقوق شخص اخر (مثلا فكرة ان القوة ببساطة تصد الناس عما يريدون عمله) او كما يقول الماركسيون ان علاقات القوة تقررها علاقات الاقتصاد، وقد حاول فوكو ان يحسم تقبل المصطلحات مع تعقيد سلسلة الممارسات التي يمكن ان تجمع تحت مصطلح (قوة). وكان نقديا للغاية بخصوص ما اصطلح عليه هو (الفرضيات المقموعة REPRESSIVE HYPOTHESIS)، ان القوة هي، ببساطة، حول ما يمنع الناس من تحقيق امانيهم وتحديد حريتهم. ويضع جون فرو ذلك بهذه الطريقة:
اذا لم تعد القوة فكرا يوصف على انه، ببساطة، قوة سلبية او قمعية بل شرط انتاج كل الكلام، واذا فهمت على انها شيء قطبي اكثر منه احاديا موزع بشكل غير متجانس ، اذن يحتمل ان تكون كل التفوهات متشظية، وقابلة صوريا لاستعمالات متناقضة. (فرو، 1985: 206).
يلخص هذا معنى تحليل فوكو للقوة، الذي يعني ان القوة موزعة بين العلاقات الاجتماعية، اي انها تنتج اشكالا ممكنة من السلوك فضلا عن السلوك المقيد. هذا النموذج المنتج للقوة شيء وجده عدد من المنظرين مفيدا، خصوصا عندما ننظر لطرائق التفكير حول الخطاب. وفي التفكير حول جنسانية الاطفال، في (تاريخ الجنسانية، المجلد الاول) اعطى فوكو مثالا للطريقة التي تنتج بها علاقات القوة اشكالا ذاتية وسلوكية اكثر من مجرد قمعها. متكلما بالخصوص، عن الاراء التي قيلت حول العادة السرية واجنسة (SEXUALISATION) الاطفال في الفترة الفكتورية بتصريحه الاتي:
ليس دقيقا القول أن المعهد البيداغوجي قد فرض صمتا ثقيلا حول جنس الاطفال والمراهقين. بل على العكس من ذلك قد تضاعفت اشكال الخطاب عن الموضوع منذ القرن الثامن عشر، وتكاثرت وجهات نظر ورسمت نقاط عدة لترسيخ الجنس، ونظمت سياقات وخطباء مؤهلون. الكلام عن جنس الاطفال، واستمالة المربين والاطباء والمشرفين والاباء للكلام عنه، او الكلام لهم عنه، يتيح للاطفال انفسهم الحديث عنه، ويدخلهم بشبكة خطابات تتوجه اليهم، وتتكلم عنهم تارة، او تفرض عليهم قليلا من المعرفة الكنسية او تستعملهم كاساس لبناء علم ابعد من حدود فهمهم، كل هذا مجتمعا يمكننا من ربط حدة تدخل القوة بتعددية الخطاب. (فوكو، 1978: 32).
ومن ثم، بعيداعن الضغوطات المؤسساتية القامعة لجنسانية الاطفال، في الحقيقة، كما يسترسل فوكو في النقاش، قد خلق هذا العمل الخطابي اشكالا يمكن للجنسانية ان تظهر ضمنها:
المربون والاطباء حاربوا الجماع الناقص ONANISM (العادة السرية للذكر) مثل وباء يحتاج للاستئصال. ما استدعى هذا، في الحقيقة، وطوال كل هذه الحملة العلمانية ان تحشد عالم البالغين حول جنس الاطفال، ما نتج عن ذلك هو استعمال هذه المتع الضئيلة مرتكزا، يشكلها كاسرار (اي دفعهم الى المخبأ كي يجعل من اكتشافهم ممكنا)، تعود بهم الى منابعهم... اينما كانت هناك فرصة لامكانية ظهورهم، وسائل المراقبة كانت مركبة ؛والمصائد كانت مطروحة للاعترافات الاجباري ؛ الخطابات التعديلية التي لا تنضب كانت مفروضة؛ الاباء والمدرسون كانوا متيقظين بريبة ان الاطفال جميعا كانوا مذنبين. (نفسه: 42).
ويتابع فوكو في النقاش ان هذا الحذر من قضية العادة السرية للاطفال الذكور، وبدلا من استئصال العادة، كان من العوامل التي قادت الى زيادة جنسانية SEXUALISATION الطفولة في الفترة الفكتورية.
ويناقش فوكو تداخل القوة والمعرفة، يعني هذا ان كل المعرفة التي نملكها هي نتيجة او تأثير لصراعات القوة. ولاعطاء مثال على فإن ما يدرس في المدارس والجامعات هو محصلة صراعات كبيرة حول اي سرد للواقع سوف يقر. المعرفة هي دائما نتاج لاخضاع الاشياء، او ربما يمكن النظر اليها بوصفها عملية تشكل الذوات بخضوع ؛مثلا عندما تراجع فهرس مكتبة الجامعة، وتبحث تحت مصطلح (نساء) ستجد اختيارات واسعة لكتب ومقالات تناقش اضطهاد النساء ونفسية المرأة والاعتلالات الجسدية والعضلية التي تعاني منها النساء وهكذا. واذا بحثت تحت مصطلح (رجال) لن تجد المعلومات الوفيرة نفسها. (في الفصل الرابع سأحلل بدقة العلاقة بين النظرية النسوية ونظرية الخطاب). والشيء نفسه اذا راجعت الفهرس مرة اخرى وبحثت عن (الهند) او (افريقيا) ستجد ان النتاج المعرفي للكتاب البريطانيين الذي يخص هذه البلدان في القرن التاسع عشر قد توافق مع تلك الفترة عندما كان الصراع الكونيالي في اوجه. (وتابع مناقشة هذه المسألة في الفصل الخامس حول نظرية الخطاب الكونيالي وما بعد الكونيالي). وقد وصف فوكو هذا الربط بين انتاج المعرفة وعلاقات القوة على انها (قوة/ معرفة) (فوكو، 1980). وقد نظر اغلب منظري القوة للافراد كمضطهدين من قبل علاقات القوة، لكن فوكو ينظر اليهم بوصفهم نتائج او امثلة لهذه العلاقات.
الفرد لا يُفهم بوصفه نواة اولية... وتأتي القوة لتقيده... وفي الحقيقة، ان احد التأثيرات الاولية للقوة هي ان بعض اجساد واشارات وخطابات ورغبات تعرف وتتكون كافراد. (نفسه: 98).ويرى الفرد، ها هنا، بوصفه نتيجة من نتائج القوة وليس ذلك الذي تحتكره القوة.
الأدب بوصفه خطابا
على الرغم من ان ليس كل قراء هذا الكتاب من طلبة الدراسات الادبية والثقافية، تلك المجالات التي كان فيها عمل فوكو اكثر تأتيرا. ومن اجل ذلك يمكننا ان نسأل: لماذا يكون مفهوم فوكو للخطاب مهما بالنسبة للدراسات الادبية والثقافية، والسبب هو انه برغم تحليل فوكو لبعض الادب، غالبا في شكل مراجعات، الا ان الادب كان بكل تأكيد ليس في صدارة اهتماماته، وفي عمله النظري لم يقدم تحليلات نصية بحد ذاتها. ويكون الخطاب، في بعض النواحي، مصطلحا مهما جدا لأسئلتنا لأنه يسمح لنا بالسؤال عن الادب والنصية عموما. وقد حدد منظرون مختلفون الادب مكانا متميزا للنقد او نزوعا عفويا للتقاليد التي تعلمنا قراءتها ادبا، حيث يبين ماكدونيل:
مناهج ومفاهيم الدراسة الحديثة للخطاب تجعل هناك تحليلا ممكناً للخطابات في علاقاتها مع الممارسات الاجتماعية، خلال اجزاء النصوص التي حددت، و (الادب) شُكل بوصفه موضوعا لمقدس اكيد. (ماكدونيل، 1986: 7).
دراسة الخطاب لاتفرق بين النصوص التي مُيزت ادبا وبين النصوص التي ميزت لا ادبا، برغم ان منظري الخطاب، وباهتمام، مدركون للاختلافات المؤسساتية التي توجد بين مجموعتي النصوص. نصوص التاريخ متميزة في علاقاتها بالقوة، مثلا كتابات السيرة الذاتية مميزة بعبارات صحتها المفترضة الامر الذي يتعلق بصوت سلطوي ؛والنصوص الادبية لها علاقة معقدة بالحقيقة والقيمة، هذا من جهة ومن الجهة الاخرى تبدو وكأنها ممولا لـ (الحقيقة) بشأن الشرط الانساني. وحتى الان تعمل كذلك ضمن الخيالي ومن اجل شكل (اللاحقيقة). ولكن لمناقشة المقصود، قل خطابات الانوثة والرجولة تمكن مناقشة النصوص الادبية الى جانب النصوص الاخرى، مثل اعمال التاريخ والسيرة الذاتية وحتى النصوص العابرة، مثل كتب الطبخ والنصيحة... الخ، ومن اجل كشف التشابهات تعرض هذه النصوص عبر الحدود النوعية. الخطاب لذلك ينفعنا في انه يسمح لنا بتحليل التشابهات عبر سلسلة نصوص تقوم بوصفها نتاجات لنزوع محدد لعلاقات القوة/المعرفة.
ويمكن النظر لفوكو وكأنه متشبثا، بالخصوص، بافكار محافظة عن الادب؛ مثلا في جدله عن الادب بعدَّه اياه منطقة مميزة تستعمل اللغة فيه بطرق لا مرجعية REFERNTIAL-NON. ولكنه في اغلب الامثلة التي يناقش فيها الادب يصف الكتابة الطليعية، وليس الادب عموما. على سبيل المثال، يبين هنا:
كان هناك بالطبع وجود في العالم الغربي منذ دانتي ومنذ هوميروس لشكل من اللغة نسميه الان (ادبا). لكن كلمة (ادب) في العصر الحديث وفي ثقافتنا ايضا تعني انعزال لغة معينة باسلوب غير مألوف لتكون (ادبية)... الادب هو في صراع مع فقه اللغة... انه يقود اللغة من النحو الى اللغة المجردة للكلام، وهناك تصطدم بالوجود السلطوي غير المروض للكلمات. (فوكو، 1970: 299 - 300).
يبدو فوكو هنا وكأنه يصور الادب نموذجا محددا للكتابة الانعكاسية ، منذ ان استمر واصفا الادب على انه:
توديع صامت وحذر للكلمة على قطعة من الورق، حيثما لا يستطيع ان يملك شيئا ليقوله سوى نفسه، لا شيء يعمله سوى ان يسطع باشراق على وجوده. (نفسه: 300).
مع ذلك يحلل فوكو عمليات الاقصاء التي تجري على المؤسسات مثل الادب والخطابات النقدية التي هي ضرورية لدعم النصوص الادبية وبقائها. وكما ساشاهد في في الفصل الثالث حول البنيات الخطابية، ان مكونات الخطاب نفسها اقل اهمية من سلسلة الممارسات التي هي ضرورية لدعم ذلك الخطاب واقصاء الخطابات الاخرى من مواقع السلطة.
وقد ساعد عمل فوكو عددا من المنظرين في تأمل الطريقة التي يكون بها الادب الانكليزي فرعا معرفيا، ويبين فوكو نفسه:
النقد الادبي والتاريخ الادبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كونا شخص المؤلف وشكل الاعمال الكاملة، باستعمال تحويل وازاحة اجراءات التأويل الديني، والنقد الخاص بالكتاب المقدس وسير القديسين والحيوات الخرافية والسيرة الذاتية اوالمذكرات. (فوكو، 1981: 71).
هذه الحركة لتحليل الدعم المعطى للادب بوصفه خطابا ومؤسسة، وتفكيك الخطابات الاخرى بوساطة النقود الادبية كان له انقطاع مهم عن التحاليل المقصورة على النصوص الادبية. مثلا عصر النهضة او القرن الثامن عشر يُنظر لهما بوصفهما عصرين (طبيعيين)ظلت مقولاتهما المستقلة في مأمن من غزو العلماء. وكما عرض برين دويل وكرس بالدك وتيري ايغلتون، وبرغم ان دراسة الادب تبدو مألوفة و (عادية)، اصبحت مؤسسة في لحظة حاسمة في التاريخ الثقافي الانكليزي عندما كان الايمان الديني يأفل وعندما كان هناك ضغط يمهد السبيل لمجالات دراسية للذين كانوا مقصيين من التعليم الرسمي (على سبيل المثال: النساء وطبقة العمال) (دويل، 1982 وبالدك، 1983 وايغلتون، 1983). في الحقيقة، ان دراسة الادب قد شرعت كثيرا جدا باستعمال البنيات المنطقية نفسها التي استعملت لدراسة الدين، مع بناء قوانين كنسية (نفسها المقولات الدينية للنصوص) والتركيز على الدروس الاخلاقية والقيم. وكما لاحظ برين دويل ((ان تدريس لغة (قومية) وادب يؤثران كمقوم بارز في توليد العلاقات الثقافية ضمن ما يدعى عادة مجتمعـ (نا))) (دويل، 1982: 17).
وينبغي ان يبين ان اعطاء اطار فوكوي للمرجع والادب، فضلا عن وجود الوسائل التي تكون بها روح الثقافة القومية مؤسسة، والوسائل التي وفقا لها تتنافس نماذج الثقافة المشتركة. هذه المنافسة يمكن النظر اليها مع نمو فصول الدراسات النسوية وتضمين اكثر للكتابة النسوية عن مناهج الادب السائدة، كل هذا مع كتابات السود والكتابة باللغة الانكليزية. لكن دويل يبين:تحتاج الاشارة بشكل مباشر الى ان (اللغة والادب الانكليزيين) بوصفهما حقلا لنشاط دلالي وعملي لم يصلا ببساطة الى هذه الصورة من لا مكان تماما. بل حققا وبنيا وصهرا الصراعات بين معاني الحياة المختلفة والاشكال الثقافية. (نفسه: 19).
وبنفس الاتجاه فإن روح الثقافة الوطنية او التراث الديني كان يجب ان عملا تجاه المنافسة لشكل هذه الثقافة الوطنية التي هي كذلك شيء ما قد تطلب كفاحا.ويبين هذا مدى اهمية التحليل الاركيولجي لفوكو؛ فهو ببساطة لايهتم بتحليل الخطابات التي تنتشر في مجتمعنا في الوقت الحاضر، بل يريد ان يرينا اعتباطية ARBITRARINESS سلسلة هذه الخطابات وغرابتها على الرغم من ألفتها. ويريد فوكو كذلك التخطيط في تطوير تطبيقات خطابية محددة، ولكي نرى تلك الخطابات، مفضلين وجودها ثابتة، كما توحي مألوفيتها، الخطابات متغيرة باستمرار ويمكن تتبع مصادرها في النقلات الاساسية في التاريخ. وبرغم ان مفهوم فوكو للتاريخانية HISTORIOGRAPHY قد تعرض لانتقاد (هاكنغ، 1986 وتايلور، 1986 ووالز، 1986)، الا انه يظل مهما في تأكيده على فردانية عمل فوكو في محاولته لرسم خريطة التغيرات في البنيات الخطابية على طول الزمن. بالنسبة لفوكو، ان خطابا ما لا يعني مجموعة اقوال ثابتة طوال الزمن ؛فهو يحاول العمل ضد مفاهيم التقدم والتطور التي تهيمن على عدد من طرق التفكير الحرة. بدلا من فحص التاريخ، مثلا، بوصفه تعاقبا واضحا باتجاه الحضارة الكبرى او، كما قال الماركسيون، انه سلسلة لصراعات طبقية تقود الى مساواة اوسع، وقد ناقش فوكو ذلك ان التاريخ غير متواصل ؛فليس هناك سرد خال من الندوب نستطيع به ان نفك ضمنيا شفرة التاريخ، ولا هناك اية تواصلية على الاطلاق. ويناقش فوكو لروئية تاريخ غير متواصل، بوصفه تغييرا مفاجئا بالطرق التي لا تقع ضمن حدود الفهم الانساني تماما، وليست ضمن حدود سيطرتنا كلية. وقد قال فوكو في مقابلة:
مشكلتي لم تكن على الاطلاق قي القول:ان هناك انقطاعا طويلا، بل بطرح السؤال الاتي: كيف يمكن ان تكون هناك في لحظات وحالات معرفية محددة هذه الانطلاقات المفاجئة، وهذه الاعمال السريعة للارتقاء، وهذه التحولات التي لا تشابه الصورة الساكنة والمستمرة التي تقبل على نحو اعتيادي. (فوكو، 1979: 3).
لهذا اهتم فوكو برسم خريطة لحظات الانقطاع هذه حينما مرت البنيات الخطابية بتغير راديكالي.
اهدف في هذا الكتاب ان اشرح بالتفصيل الاستعمال الذي صنعه فوكو نفسه لمصطلح الخطاب وفي الفصل الثاني مقارنة استعماله لذلك المصطلح مع مصطلح الايديولوجيا. منذ ان كان للتفكير الماركسي تأثير خطير وتفاعلي في تطور فكرة الخطاب عند فوكو كان من المهم رسم خريطة تاريخ اختلاف المعنى والتوكيد. وساحلل في الفصل الثالث البنيات التي تعمل على تركيب الكتل المشيدة للخطاب. وبعد ذلك استمر في الفصلين الرابع والخامس بمناقشة التعديلات التي قام بها منظرو النظرية النسوية ومنظرو الخطاب الكولونيالي وما بعد الكولونيالي على تعريف الخطاب. وتقدم هذه الفصول كذلك امثلة للطريقة التي يمكن ان يكون بها مصطلح الخطاب نافعا في التحليل النصي. واختبر في الفصل السادس بعض الاعمال اللسانية التي ركزت على مصطلح الخطاب التي تغطي التحاليل المبكرة للخطاب وكذلك اكثر اللسانيين النقديين الفوكويين نفوذا وعلماء النفس الاجتماعيين. وسيدور هذا الكتاب من ثم حول المعاني التي تصاحب مصطلح الخطاب وحول المنابت المعقدة للقضايا المتعلقة بالمعرفة والحقيقة والقوة، من اجل تعين حدود استعمالاتها. الهدف من هذا الدوران هنا وهناك سوف لن يكون امتيازا وحيدا هاما لاتجاه من المعاني التي انشأها المصطلح، ولا الايحاء ان اتجاها واحدا من تأويلات المصطلح يكون (صحيحا) او اكثر كفاية من الاخرى. ولا اكون مهتما بتحجير اتجاه واحد معين لمعاني المصطلح. بالاحرى انا مهتمة خلال هذا الكتاب في التركيز على القيود والصعوبات النظرية التي تحدق بالمصطلح وربما لاقتراح طرق في ما يمكن لهذه الصعوبات ان تستعمل نقاطا قياسية لبحث نقدي اضافي.
ملاحظة:
كانت لميشيل فوكو نقاشات عديدة وحامية الى ابعد الحدود حول معنى كلمة (STATEMENT). في بعض هذه النقاشات جزم ان STATEMENT كان مثل فعل الكلام الذي طوره جون اوستين وجون سيرل. انظر دريفس وورابينو (1982: 44-49) لمناقشة مفصلة، وكذلك الجزء الخاص بـ STATEMENT في الفصل الثالث (60-62) من الكتاب.
مترجم المقال شاعر عراقي يقيم في لندن
gareebiskander@yahoo.com
التعليقات