صورتي المؤطرة باللاشئ

لَمْ أرحل الى البعيد هرباً من الرصاص،
أو من منظر التأريخ الأصلع،
أو حتى من مشهد الزمن المخنوق بأكف الغبار.
كل مارغبته من رحلتي هو أمساك اللحظة الآتية قبل الأخرين!
ففي السنة التي أفترَسَتْ نصف أقمار البلاد، أخفيتُ صورتي المؤطرة باللاشئ في العالم الأسفل من البيت، وأخفيتُ نفسي في التأريخ الجديد بعد أن هربت إليه من نافذة الخرافات على ظهر الرغبة. دخلته من أصغر أبوابه مُحمّلاً بستة ألاف طن من الرايات السود، بينما دخلت البحار البعيدة أعماقي. أخفيتُ الرايات في شَعرِ امرأة مترهلة، بينما أخفَتْ هي سنواتها في جسدي. صار قلبي وطناً للمنفيين، وصار الأكتشاف نظّارتي الجميلة. ملأتُ عيوني بترابٍ رسمتُ عليه صورتي المؤطرة باللاشئ، بينما ملأتْ كوبنهاجن أعماقي بأعشاب اللاجدوى. زرعتني أوربا في حديقة العقل، بينما زرعَ الوجود زهرةً عطرها الرؤيا، في رأسي.
إسألوني عن أسرار الأفكار الميتة،
إسألوني عن مقبرة الأضواء،
إسألوني عن بلادي المسكونة بالذبح،
إسألوني،
إسألوني،
إسألوني،
ولكن لاتسألوني عن
صورتي المؤطرة باللاشئ.
صورتي ياصورتي!
ملعونٌ أنا! وضعتُ الأسطورة في دماغ الغربة، ووضعتْ هي لغماً في فمي. بلّلتُ شَعرَها بجمال الحروب، وأغرقتني هي بسلامِها المميت. جرحتها برحلاتي، بينما جرحتني هي بالحنين الى صورتي المؤطرة باللاشئ. لجأتُ الى الأختفاء لأكون حاضراً بين الغائبين، ولجأ السؤال إليّ ليصبح معطفي الدائم. نثرتُ نهاراتي في المقاهي القديمة والبارات، بينما نثرَني السِحرُ في دروب الليل.
أكتشفتُ أنّ الليل يتشابه في كل أنحاء العالم، بينما النهار لا!
صورتي ياصورتي!
ظننتُ أنّ السنوات لَمْ تعُدْ تفترس أقمار البلاد، فتذكرتُك وتوجهت الى منزلي مفكراً بالبحث عنك في عالمه السفلي، ولكنني فوجئت عندما عثرت عليك، لأنّ وجهي الذي كان ربيعياً فيك، قد أُصيبَ بالشيخوخة!

شمعة الفجر البعيد

قلبُكِ المشتعل بالحَدْس، أطعمَنا رغيفَ الأمل.
ويدُكِ المغروزة بالشمس، مسحَتْ عنّا أثارَ الشقاء.
ولكن مامِنْ أحد، لوّحَ بقبعتهِ لكِ،
بعدما سرقكِ منا ذلك الفجر البعيد!
آه! دخلتِ عتمة القرن العشرين ضاحكةً، ولكنكِ خرجتِ من نور الأمومة محملةً بالثأرات. أفكارُ الخريف خطفت طائراتكِ الورقية من صدر الأمنية، وأودعتكِ في قفص الفجر البعيد. كنتِ تحدثين إيزيس عن الملاحم والأساطير في زقورة بابلية، غير أنّكِ الآن أصبحتِ جاريةَ الفكرِ القديم. لمْ تعرف أنظاركِ سوى القطارات الذاهبة الى الألحان الجديدة، ولمْ تلمس أزهاركِ أبداً ندى الأناشيد اليابسة. أصبحتِ شمعةً تنير دروب الراحلين الى الحروب، بعدما كنتِ لغةً تطلق عطرَ الحروف المرغوبة. وَيلُ الأيام التي غطّت بصيرَتَكِ بحلمٍ عتيق، وبصقةٌ على الجمال الموروث الذي جعلكِ تستجدين الخلاص من الرائحين نحو غاياتهم بالعربات الحديثة.
صمتُكِ الممتد من تأريخ المسيح وحتى الآن،
علّمنا الكلمات النابعة من المرايا.
وحكاياتكِ الماركيزية، جعلتنا نلوك السحر
ونزرع النجوم في الظهيرة.
لكنْ تذكّري!
أنتِ مازلتِ كلمةً غريبةً في كتاب الفجر البعيد.
هل تتذكرين حينما كنتِ سراً لاينتهي؟ وهل تتذكرين حينما كنتِ تفضلين المشي في الأقاليم المشتعلة بالرعود والبروق على السكون في جنة خالية من اللوعة؟ كنتِ لوحةً من لوحات الوجود النادرة، وأصبحتِ الآن قنديلاً وحيداً في قبّة الطيبة العمياء. خلاصُكِ ليس في حصاد ثمراتكِ الخرساء، وأنما بالصراخ طويلاً في أعماق الأنهار. متى ستخطفين شمساً جديدة لتصبحي سنتنا المصبوغة بالحنّاء؟ ومتى ستطلقين سراح شراستكِ المحبوسة صوب وطن القرن القادم؟
اعلمي بأنك ستجلسين بهدوء فوق نجمة الصباح، وأنك ستصبحين نسمة أحفادك القادمين، ولكن بعد أن تحطمي وجه الفجر المعشش في غرفتك الصغيرة.

[email protected]