الدرب طويل ………
الشمس بعيدة تتوارى خلف تلال الخوف، تختفي، ينجلي ضبابها. للتو يلتحم الظلام بالمخيم، تلوح أهازيج الليل خجلى في الأفق الممتزج بسماوات الذاكرة، تتعالى الأصوات، تتهافت في وحل المأساة. يصيح فتى بجنون و قلبه معلق في تهاويم المرآة:
-إنه القادم مع ريح الجنوب
تندب صبية حظها كطيف زقاق مهجور، تترنح، تهذي بصوت مسموع:
-تقدم أيها الطيف مع أشلائي الميتة
تولول عجوز منذ زمن العبور الأول. تصرخ و قد غسل العرق جسدها كعصفور بلله المطر:
-إنها وعثاء السفر تلوح في صحرائه
الأصوات قوية، صلبة، جامحة تتعثر في أزقة المخيم، تتطاير الهمسات مع بحر الحكاية إلى مصب النهر القديم. ينظرون محدقين من هول المشهد بينما تتهادى الدمعة ثكلى على وجه الصغيرة. تخرج النساء واحدة تلو الأخرى تعلو وجوههن كل صور الفاجعة. تترنم إحداهن لجارتها و شبق الوجه يتوارى مع الضباب
-لم يكن ليخرج وحده هكذا. لعن الله لحظة الضعف تلك التي قرر فيها مع ضحى ابتسامته أن يسافر إلى المجهول حيث الجنوب المتألق مع وشائج الإعصار.كان يود الولوج في مصب الآتي الغريب ………
تصمت. تتعالى الأصوات، تزمجر، تفوح رائحة التراب جنبات المكان، يتقدم الحشد. ينتصب الجسد مسجى على الأكتاف. تعلوه سحابة عظيمة تظلل القادمين إلى عرسه و في أتونهم حقبة الانتظار لجثة همدت مع ترانيم الصباح العائدة.
تنخرس الأنفاس، تهدأ، يصمتون جميعاً للحظة لم يدر أحد حقيقتها. يسقط عجوز سار خلفهم بخطى وئيدة، ميتة في رمال الحكاية ليهتف بشحوب الجرح:
-إنها أسراب الطيور تحلق أمام الضريح
ينظرون جميعاً بعيون هلعة، تنتابها الدهشة. يهزجون بصوت النائم، الحزين:
-هنا سقطت حمامة لتجلس على نعشه، هنا تخطت اليمامة قبره. هنا ……..
ترتجف السيقان، تتعالى الأصوات، تغفو العيون، يترنحون:
-كراماتك يا موجود
يكبرون جميعاً، يهتفون بروحه، تتعالى الطلقات تزنر في الفضاء. نشوة من الغريزة تتعثر في الأجساد المتخمة بألم شريد. يرتوي الجميع عطش الهمهمات، يتقدمون، يتقدم، يقترب و عند سور المقبرة تتفرق الحشود مغادرة إلى ردهات الماضي. حينها فقط يتمدد المسافر منصهراً في حر الحكاية ليبدأ في سرد روايته للقادمين - حيث الشرق الأدنى – من جديد.
*****
كان مغادراً تجاه منزله، ثكنته، خيمته القديمة التي نشأ و ترعرع في ربوعها. يحلم و أريج الشوق للوطن يزكم أنفه. السيارة تطير مسرعةً حيث العبور. لم يكن آنذاك يود الحديث إلى زملائه داخل العربة النائمة. الأنفاس متلاحقة. تجثم صدره، تعلوه، تطبق على أنفاسه. يجلس بجوار السائق، يحاوره بنظراته دون أن ينبس ببنت شفه، قيثارة تعزف صمتها القديم. تتهادى الأصوات من البعيد مع سكون الليل الداكن على رصيف الذاكرة. ينام جميع سكان العربة الميتة و السائق تراوده فكرة الانتظار على الرصيف لبعض الوقت. يتمتم لنفسه. يخشى تأخر الركاب عن موعد الولوج إلى بوابة المدينة الضيقة، المهترئة. يواصل سيره دون أن يحادثه أحد، صورة الصحراء عميقة، قاحلة تتخثر مع قطرات الماء التي بللتها رطوبة الأجساد النائمة. و ريح سيناء تهب لتلفح تضاريس الوجوه المغبرة. كان جبل الطور بعيداً. انتصب فوقهم كأنه ظله، ظنوا أنه واقع بهم لا محالة . سجدوا على أعتابه. وقفوا. صعدوا واحداً تلو الآخر يناجون ربهم بالرحمة، يتوسلون إليه، أن ينقذهم من مشقة الانتظار، العودة للوطن. وعندما تحين الساعة تنتهي طقوسهم، تنطلق المركبة بخطى وئيدة، ثقيلة تهيم على وجه الأرض. يسيرون و صهد الشمس ينفر في عيونهم نزيف الشوق، البيعة للمشاركة في حزن الآتي العميق.
يستيقظ الجميع مع نفحات الظلام. الهزيع الأول من ليلة الجمعة يجوس في أعماقهم. سيصلّون هناك حيث القبلة القديمة. يفتح السائق المذياع و صوت فلسطين يترنم رائقاً. غناء عذب، شجي يهتف " يا وطني الرائع يا وطني … " يخبرهم السائق بالاقتراب من نقطة الصفر، العودة إلى جحيم الانتظار. بأنهم قد اجتازوا مدينة العريش بأكملها. تغفو الأنفاس جميعاً عند دهاليز ضيقة لحي تغبر بالتراب. يقترب السائق أكثر فأكثر و مع ظلال القمر تلوح صورة الزوجة، الأم. سيكونون جميعاً بانتظاره. لم يغب عن مخيمه قبل ذلك أبداً. ثلاثون يوماً تجثو في أعماقه ثقيلة، متخمة باللوعة . شعر كأنها سنوات طويلة قضاها مع الوهم. يغفو في انتظار الوصول للحدود مع حلكة الليل القاتمة.
كانت الريح القادمة من الشمال تتخثر في أجسادهم إلى رحاب واسعة، كبيرة تسعهم جميعاً وقتما تغمض الأعين ناعسة/ غافية إلى ملكوت الكون ليرتطموا بشاحنة كبيرة كمقر قيادتهم الأول تمزق أوصالهم الحالمة دون الولوج في ردهات المخيم و أزقته المحطمة حيث الأفق البعيد، دون حدود.
تذييــــــــل
كانت الزوجة تتشدق بالحكاية ليل، نهار . تهذي في غفواتها. تنوح حمامة أرادت السقوط عند بابها، تولول، تصرخ، تسقط مغشياً عليها و الجنين ينتظر الخروج من رحم الأرض ليحمل صورة وجه متعب إلى أزقة باتت تتكدس برائحة الموت في كل مكان .

غزة - فلسطين
مساء الجمعة 24/ 10/ 2003