دخول:
أيـهـا الـعـبـيــد:
إنـهـضـوا.....
إنـهـم لايـبـدون أمـامـكــم عـظـمـــاء إلا لأنـكـم راكـعـون.
( توسان )

( 1 )


إنطلق متفلتا بمهارة من بين السيارات المحبوسة فى الإشارة. عبر الكوبرى الطويل محكما يديه على المقود وقدماه تتبادلان الإرتفاع والإنخفاض مع حركة البدال. كان الولد الأكبر يجلس على الكرسى الخلفى لافا ذراعيه حول خصر أبيه، بينما الولد الأصغر يستند شبه جالس على الماسورة الأمامية مراقبا – وهو قابض على منتصف المقود – إعلانا عاليا عن نوع فاخر من السيارات تتبدل حروفه الملونة بطريقة عجيبة.
بدأ يبطىء من سرعته عند طوار مضىء. أنزلهم أمام أحد المحلات ثم رفع الدراجة على حاملها المعدنى. كان يتصنع الجدية وهو يوصى الصغير بألا يغفل عن الدراجة حتى يرجعا. أمسك بيد الأكبر ودلفا الى شارع جانبى ضيق. أراح الصغير ظهره على الحائط الموزايكو وجعل يلف إطار الدراجة المرفوع على الحامل لفات سريعة. مرت مراكب كثيرة فى النيل تنبعث من شرفاتها الواسعة أضواء النيون. تعجب لأن أحدا سواه من المارة لم يلتفت ناحية المراكب النيلية الكبيرة. إلتفت الى حارس الأمن أمام البناية العالية المجاورة وهو يستوقف مسنا حاول الدخول الى البناية. بعـد قليل تحول الى الى فاترينة المحل، جعل ينظر الى بدلة رياضية يرتديها تمثال فى مثل سنه يبتسم من وراء الزجاج، جالت عيونه المندهشة فى وجه التمثال الجامد، قارن بين وجههه المنعكس فى الزجاج ووجه التمثال. عاد الى الدراجة يلف إطارها المرفوع على الحامل بقوة لفات أسرع وأسرع.


( 2 )

كانا يبحثان عن شىء فى ضوء الشارع الكابى. جـعـل يشرح له مداخل وأسماء الأزقة فى كل ناحية كى يأتى بمفرده بعد ذلك. تحت عامود الكهرباء كانت البائعة تجلس القرفصاء غارقة فى الغطيط وبجوارها طفل صغير مؤخرته عارية يلهو بكفتى الميزان. كان البرتقال ينادى على العابرين وقـد رتـب بعناية فى القفص المستند الى الحائط، فيما قطرات صابونية بيضاء تساقط من ملابس مغسولة بأحدى الشرفات العلوية على الهـيـكـل القديم للسيارة دودج موديل بداية الخمسينيات التى تتخذها البائعة وطفلها محلا وسكنا. تعرفت البائعة عليه بعد أن أيقظتها نحنحته. سألته عن صحة الحاج الكبير ولماذا لم يشتروا منها فاكهة منذ مدة بعيدة. كانت أصباعها تلتقط الحبات بمهارة من وجه القفص وتسقطها فى الكيس الورقى. إلتقطت من يده المضمومة نقودا ورقية مهترئة، رفعتها ناحية الضوء، تأكدت من سلامتها ووجود وجه الفرعون المبتسم فوق توقيع محافظ البنك المركزى، ثم قبلتها ولامست بها أعلى جبهتها ودستها فى صدرها وهى تتمتم، ناولته الكيس وهى تدعو بالهناء والشفاء. لم ينس أن يعرفها بإبنه وأوصاها ألا تنسى شكله وتعطيه أحسن ماعندها دائما عندما يأتى بمفرده.
أضاء وجه الصغير الواقف على رأس الشارع يلف إطار الدراجة على حاملها. كشفت له التكورات فى الكيس الورقى البنى الحائل وإبتسامة أخيه الذى يحتضن الكيس عن سر رائع ؛ فصاح فى وجه التمثال الأنيق الذى يقف متعجرفا خلف الزجاج المقابل:
بـرتـقـال.. بـرتـقـــ ااااااااااال.


( 3 )


إجتاز بهم المشاة والأعمدة والبنايات عائدين. حكى الصغير عن البدلة الرياضية والتمثال، عقب الأب مختالا أمامهم:

-كنت بطل رياضي كبير أيــام المدرسة.. كنت ألعب بوكس، ملاكمة يعنى يا أولاد وكنت أهزم جميع المنافسين.. وفى الجيش كنت بطل كاراتيه فى سلاح الصاعقة.. عارفين الصاعقة يا أولاد.. ؟

عقبوا وقد كسى التعجب ملامحهم الصغيرة:

-صحيح يا بابا..!!

-دا كان زمان... زمان جدا يـا أولاد.. هـا أوريكم صورى لـمـا نوصل البيت..

ضحكوا وهو يستعرض فى ثقة كيف يقود الدراجة بيد واحدة ويمسك كيس البرتقال بالأخرى مقلدا صوت جدهم المنتظر بالبيت. كان الهواء البارد يحتويهم جميعا، يختلط بين حين واخر بدفقة عادم ساخن من سيارة تمر كالبرق بجوارهم فيشهق الصغير وهو يغمض عينيه. غنى الولد الصغير وهو يهز رأسه فى الجهتين:

-زرافة خطافة أكـلـت قـمـحى
يامطره يا شفافة رخـى وسامحى
البذره العفية فى الأرض القوية
هتكبر يامطره وتطرح شجره
هتشبع فراخى وتضحك ملامحى
زرافه خطافة أكـلـت قـمـحى


رأى المراكب النيلية المضيئة، كانت تحتهم هذه المرة أسفل الكوبرى. غنى الأب فى نشوة:

- يا قـمـر الـعــلالـى كـلــم أبـوك النــيـل
دا ضيـك بـيـلالـى ويغطى وش الـلـيل
ما تـنـزل شـويــه يـاقـمـرنـا عا المـيـه
وتشرب ياخالى من شهد السلسبيل
يا قـمـر الـعــلالـى كـلــم أبـوك النــيـل

تصاعدت فى السماء ضحكاتهم والأب يتمايل برأسه يمينا وشمالا، مرة ناحية القمر الذى بدا مندهشا وساخرا ومرة ناحية النيل الذى مضى فى طريقه ولم يعر قافلة البرتقال أدنى إلتفاتة.
كانت السيارات مازالت تتابع تسبقها الخطوط البيضاء التى تجرى امامها فى منتصف الأسفلت. بقى الولد الأكبر فى الخلف محتضنا خصر أبيه وهو يتابع إنفجار الضوء فى مقدمة كل سيارة تمر.

( 4 )

قفزوا فوق بعضهم البعض. سبقتهم دراجتهم قليلا. بعد قليل نهضوا يعدلون من ملابسهم وينفضون عنها تراب الشارع وهم يتفحصون جراحا بسيطة بأقدامهم. كان البرتقال موزعا فى كل الإتجاهات الأصلية، تمر عليه العجلات السريعة والضوء والعادم الأسود والخطوط البيضاء. ضحكوا جميعا فى وقت واحد وبلا سبب واضح.ثبت الصغير نظراته المندهشة على البرتقال الذى يتدحرج سريعا على الأسفلت وهو يتابع إنفجار البرتقالة بعد الأخرى تحت العجلات ويحدق فى العصير البرتقالى المراق على الأسفلت، ثم يبتلع ريقة الجاف ويبتسم. كان الأب يضبط المقود المعوج مصوبا نظرات مرتعشة الى نظارته المهشمة فى منتصف الأسفلت، كان يخبىء ملامحه بين قضبان الدراجة ويردد دون أن ينظر إليهم:
-بسيطه..بسيطه.. حصل خير يا أولاد.. الله يخرب بيت الحكومة الـلـى بتــسيـب الحفر والمطبات فى الشوارع من غيـر إصــلاح عـشــان يـقــع فـيــهــا الـلـى زيــنــا.
رفع الصغير عيونه الى القمر الذى بدا شاحبا هذه المرة، إصطدمت عيونه بنفس الحروف الملونة للإعلان عن نوع فاخر من السيارات أعلى المبنى، كانت حروف الإعلان مازالت تتبدل بطريقة عجيبة.

كاتب من مصر
[email protected]