صدقوني أيها السادة، لم أكنْ أدري أنَّ كلمةً واحدةً نطقتُها جعلتْني أفقدُ صداقةَ سبعةَ عشرَ عاماً. أيكونُ ذلك صحيحاً ؟ فإذا كان، فكيف إذاً ارتكبتُ هذه الحماقة؟ أليس غريباً أنَّ هذه الكلمة كان لها تأثير كبير على هذا الصديق الذي كنتُ آنسُ للقياه، وأطرب لحديثه الذي كان مزيجاً من العبث والجد، والتهكم والسخرية من كلِّ مَنْ يعرفه ومَنْ لا يعرفه وحتى من نفسه! على كل حال فقد خسََرته، وربما إلى الأبد، فهلْ كنتُ ساذجاُ؟ ربما. وقد تتساءلون الآن عن هذه الكلمة. إنها ليستْ شتيمة كما تتصورون، ولمْ تكنْ إعتداءً كما تتخيلون، وليست سخرية كما تتوهمون، إذْ ليس منْ عادتي التصرف الذي يجعل الآخرين يبتعدون عني، ثم إني مسالمُ حقاً، وأحبّ الناس جميعاً. فماذا إذاً ؟ الحقيقة أنني لمْ أكنْ أعرفُ أنَّ ذِكرَ اسمِ صديقٍ لـه يـُثير لديه كلَّ هذه الحساسيةِ والغضب والجفاء، ويتجنب رؤيتي بعدها. تعرفتُ على صديقه هذا في بيته أو شقته حيث كان يتصرف كما لو كان أحدَ أفراد عائلته التي تتكون منْ زوجته دوريس وطفلته الصغيرة نورا. لستُ أدري لماذا ذكرتُ اسمَ ذلك الصديق بعد مرور ثماني سنين على آخر مرةٍ رأيته حيث انطلق لساني بهفوة الغُفل ناطقاً:
-عزيزي سمير، أتدري ماذا صنع الدهر بمنذر؟
إنتـفض سمير إنتـفاضةَ المطعون في جنبه، واكفهرَّ وجهه غضباً، وارتعشت شفتاه
-لماذا ذكرتَه؟ ونظر إليَّ شزراً. حينذاك أدركتُ أنَّ وراء الأكمة ما وراءها، وأنّ ثمةَ شيئا لا يُحب أنْ يتذكره. أجبتُه متحاشياً غضبَه، ذلك الغضب الذي قد يمنعه من مساعدتي في ظروف عصيبة أحتاج إليه فيها للإستقرار في هذا البلد الغريب بعد مغادرتي أرضَ الآلام والظلام:
- أعرفُ أنه صديقُـك، وأنه كان يساعدك كثيراً.
-لقد كان سافلاً !
يا لهول الكلمة! ماذا عمل منذر ليوصَفَ بهذا ؟ آه! لقد تذكرتُ! فكيف غابتْ عنْ ذهني تلك الحادثة؟ ليتني تذكرتها قبل أنْ ألفظَ إسمَـه. لقد نسيت الواقعة التي حدثت قبل سبع سنين حين شاهدت سميراً يخطر في الشارع الرئيس لهذه المدينة التي لا تنام، أثناء زيارتي لها في طريقي إلى لندن قادما من الوطن الحبيب، وبعد أنْ رحّـب بي، تحدث إلي:
- هل تدري أنَّ منذراً أوقعني في ورطة كبيرة؟
-أحقاً ؟ كيف؟
-كنتُ سهرتُ مع فتاة سائحة بمعرفة منذر الذي قام بإخبار زوجتي، فكانت لي معها المشاكل التي غيرتْ مجرى حياتنا.
تذكرت هذا الحديث ولكن تذكّري جاء متأخراً. يُخطئ المرء أحياناً نتيجةَ فقدان الذاكرة الموقَّت أو زلّة اللسان فتكون المشاكل. رأيت منذراً أول مرة وتعرفت عليه في شقة سمير قبل عشر سنين من هذا اللقاء. كان شاباً مرحاً لطيفاً يتصرف في شقة سمير وكأنّه أحد أفراد العائلة.
ولما كانت الشقة صغيرةً تتكون من غرفة استقبال متواضعة بكنبة واحدة وطبلة صغيرة وكرسي منفرد. وهي ملصقة تماماً بمطبخ صغير يجاور غرفة النوم ودورة مياه وليس فيها مكان للإستحمام. لمْ يكن عسيراً أن ترى ما يحدث فيها من حركات أو فعاليات أينما جلست.
رأيت منذراً يتودد إلى دوريس بشتى الطرق، فهو يتبعها إلى المطبخ مثلاً عندما تذهب لإعداد الشاي متظاهراً بمساعدتها بهمسات خافتة متقطعة، حاملاً أواني الشاي والكعك. لمْ أكنْ مرتاحاً منه طوال الفترة التي قضيتها عندهم. ولما ذهب، سألت سميراً فيما إذا كان يعرفه منذ مدة طويلة، أجاب بالنفي وقال:
-تعرفت عليه بعد مجيئ إلى هذه المدينة بفترة قصيرة لا تتجاوز أسابيعَ ثلاثة.
-إذاً كيف وثقتَ به وأنت لا تعرف عنه كثيراً؟
-إنه إنسان لطيف وكريم وقد ساعدني كثيراً حينذاك، وخصوصًا من الناحية المادية، حيث أقرضني بعض المال ولا أزال مديناً له حتى هذه الساعة.
-أنت أعرف به مني يا صديقي ولكني بصراحة لستُ مرتاحاً منه.
سكت سمير ولم أ ُرِدْ التدخلَ في شؤونه الخاصة. والحقيقة أن سميراً غريبُ الأطوار، سطحيّ الذهن، يطرب لأي نغمة تصافح أذنيه ويرقص لكل من يضرب على الدف. جاء إلى هذه البلاد منذ أنْ كان شابا في مقتبل العمر هرباً من النظام الملكي آنذاك، حيث كان يوزع منشورات سرية ضد الحكومة. طاردته الشرطة. ولما كان أحد أقربائه يتبوأ منصباً حكومياً على قدر كبير من المسؤولية، كان هربه من الوطن ليس بعسير، فهو يذكر قريبه هذا بمودة واحترام، فلولاه، لكان في أحد السجون المظلمة العفنة يعاني عذاباً جسدياً ونفسياً أسوة بالآخرين من خلْقِ الله الذين لم يكونوا محظوظين بقرابة مَنْ بأيديهم مصائر الناس. هرب من الوطن قاصداُ ألمانيا التي كانت تنتفض من الخراب والدمار وتنبعث من الأنقاض التي سببها جنون النازية المهشمة منذ عهد ليس ببعيد. كانت الحياة في ألمانيا حينذاك بسيطةً جداً، وكان الألمان يرحبون بكل طارق يساهم في بناء وطنهم بعد الحرب. لذا كانت فرصة العمر لسمير المتعطش إلى كل شئ. العمل متوفر، وهذا يعني المال، والمال يعني التمتع بالحياة ولذّاتها، وتشمل هذه الحريةَ والصَّبايا الحسان وما لذ وطاب من الطعام والشراب، وهذا ما كان يفتقده سمير في الوطن الكئيب. فالمراقص المنتشرة في كل المدن والقرى التي تعجّ بالفاتنات جعلتْ سميراً يشعر أنه في الجنة. الحرية التي وجدها هنا والتي حُرِمَ منها في وطنه جعلته ينسى الأهل والأحباب! بقي سمير بضعَ سنين يمرح ويسرح وينعم بالمسرات التي لم يكن يحلم بها من قبلُ. أخذت الحياة تصبح رتيبة لديه وخصوصا أنه كان بعيداً عن الطموح، لعدم تمكنه من القفزات العريضة أو العالية، وجنوحه إلى الكسل والإرتخاء جعله ينتقل إلى القسم الشرقي من هذه الدولة التي انشطرت إلى جزأين متناقضين حسب مشيئة القوى الغالبة. هناك وجد ضالّته، العمل بسيط ومجال اللهو كثير. ولما كان البشر في القسم الشرقي محصوراً وراء السياج الجبار الذي بناه سيد البلاد للحفاظ عليهم من الضِّياع، كانت الفتيات يقعن فريسة للشباب الجائع القادم من أقطار العالم، وخصوصاً الأقطارُ النامية التي كانت ترسل طلابها وعمالها للدراسة والتدريب في بلد الكادحين. كان سمير محظوظاً جداً، إذْ أنَّ لديه خبرةً في الرقص وإطلاق النكات الغريبة على مسامع الفتيات، فكان له منهن حظّ ٌ عظيم. وأثناء استجمامه في أحد الشواطئ الشرقية تعرّف على دوريس، الفتاة الشقراء الجميلة، فكان الحب الذي تكلل بالزواج. وبعد أن أنجبتْ له طفلة، سمياها نورا، حزما أمرهما وقررا الذهاب إلى وطنه، بلاد الشمس والقمر والنخيل. قضيا سنتين قاسيتين دون أنْ يحصل فيهما ما يروي غلته، فقد حاول الحصول على وظيفة دون طائل، ولما نزل إلى السوق، كما يقولون، خسر كل ما لديه وما استدان، فقد كان بسيطاً في التفكير وضعيفاً في التدبير. لذا كان القرار العودة إلى المدينة الساحرة برلين، ولكن القطاع الغربي هذه المرة. أخبر السلطات المختصة أنه هارب من الظلم والطغيان ولا يرغب العيش أيضاً وراء الجدران السميكة والأسلاك الشائكة في القطاع الشرقي، إذ أنه يهوى الحرية كما تهوى الطير السماء العالية والفضاء الرحيب وأنه يخشى الإختناق! فهو يريد أن يتحرك وفي أي اتجاه يرغب، دون أن يصدَّه أحد أو يردعه أحد أفراد الشرطة الجبارة التي تخترق نظراتُها كلَّ الجدران والسدود، ولما كانتْ لهجته حادة ونبراته قوية، وهو يعني ما يقول، صدقوه وقبلوا طلبه ومنحوه بعضاً من المال وأقرضوه آخر. كان فرحه لا يوصف. ولما أخذ يبحث عن بيت وعن عمل وجدهما معا في عمارة صغيرة كان مالكها يفتش عن مُشرف يقوم بخدمة شققها وتنظيف ساحتها من الثلوج المتساقطة في الشتاء ومساعدة ساكنيها وسيكون الأجرُ الذي يحصل عليه السكنَ مجاناً في أحد شققها في الطابق الأرضي منها. كانتْ هذه هي الشقة التي ورد وصفها آنفاً ولقيتُ فيها صديقه (منذر). أخذ سمير يفتش عن عمل آخر ولكنْ دون جدوى. ولما كان سمير غيرَ مغامر، ويخشى خسارة ما حصل عليه من منح وقروض، بقي متردداً من القيام بأي مشروع حر يكسب منه. ففضل البقاء في وظيفته هذه ريثما يأتيه الحظ بوظيفة أحسن منها. ولكن طير السعد لم يكن في انتظاره. في هذه الفترة، وهي عصيبة حقاً، تعرف على منذر الذي كان يعمل مهندساً في أحد المؤسسات التجارية وكان يحصل على مرتب لا يحلم به سمير أبداً. ولما كان المال خلاباً وقيمة المرء حينذاك، ولا تزال، تقاس بما يملك وما يحصل عليه، لذا كان منذر محترماً وكبيراً في نظر سمير وربما دوريس أيضاً. ولما كان دمث الخلق وكريماً يبذل المال بلا مبالاة أو تفكير أو ندم، كان عزيزاً ومكرَّما أيضاً. لذا كان منذر يصول ويجول في بيت سمير.
وقد أخبرني سمير مرةً أن دوريس تلفت مكالمة تلفونية من أهلها في القسم الشرقي يخبرونها بمرض أمها الذي قد يودي بحياتها أيَّ وقت، وهمْ يرجونها أن ْ تعودها قبل فوات الأوان. ولما كان ذهابها ليس بدون مجازفة، حيث تكون عودتها إلى القسم الغربي معقدة أو ليست مؤكدة، كان القرار أنْ يذهبَ سمير بدلا عنها. ولما كان سمير حينذاك لا يملك سيارة، تكرّم منذر بإعطائه سيارته ومبلغاً من المال بعد أن تمنى له سفراً ميموناً وعودة حميدةً. ولما ذكر لي سمير هذا الخبر وأنه ذهب وقضى هناك أسبوعاً كاملاً، استعذت بالله من الشيطان الرجيم وقلت لنفسي سبق السيف العذل! وكتمتُ ما جاش في خاطري، إذْ ليس من عادتي أنْ أثير أموراً ليس لي فيها ناقة أوْ جمل وقد أُعذِرَ منْ أنذر!

***

دعاني منذر إلى البار الذي كان خارج المدينة وبدأ حديثه متسائلاً:
- أخبرني يا سعيد، هل تلاقيت مع سمير وزوجته في الوطن ؟
-نعم تلاقينا.
-وكيف كان تصرّفها ؟
عندها فهمت ما قصد من غرض خبيث، ولكني تجاهلته وأبديت غباءً، فسألته:
-ماذا تعني ؟
-أعني، كما تعرف، علاقتها مع سمير وتصرفاتها أو مع الآخرين؟
-طبيعية، كأية زوجة، عربيةً كانت أم أجنبية!
-لا أقصد هذا !
-ماذا تقصد إذاً ؟
-أعني هل كانت مخلصة في حبها لسمير ؟
-وأنّى لي معرفة ذلك؟ ولِمَ تسأل عن أشياء شخصية ؟
-الواقع، وتناول جرعة أخرى، وصمت هنيهة وواصل حديثه أو بالأحرى أسئلته
-لماذا أسألك عن هذه الأمور؟ ذلك أنّي كنت أتكلم معها في قضايا الجنس، فكان لديها ميل للخوض في هذه الأمور، وابتسم بخبث. عند هذا عرفت أن الأمر ليس بهذه البساطة، وأنَّ في نفس هذا الرجل شيئاً لا يمكن تغاضيه. أجبته باقتضاب محاولاً عدم الخوض في هذا الموضوع:
-لماذا نتكلم في هذه الأمور كثيراً هنا وفي هذه المدينة من لهنّ استعداد للصداقة والحب، وهنَّ بلا مشاكل. فلماذا ( تدوّخ ) نفسك بمشاكل لا تعرف عقباها؟
-تلك هي الحياة يا صديقي! إنها تحدّ للواقع! الحصول على ما يسهل الحصول عليه ليس تحدياً، ولكنْ ما يُـتنافَـس عليه، أو ما يملكه الآخرون، فهنا تكمن الشطارة، وهنا يكون الإستمتاع! وتناول كأسه وشرب ما تبقى فيها.
-أنا لا أرى ما ترى! لأنني لا أريد تنغيص عيش الآخرين، وخصوصاً الأصدقاء، ألا ترى أن في ذلك خيانة لصديقك سمير؟
-سمير! إنه غبي وسخيف وأناني، وهو غير مكترث وليس بجادّ. يهمه من الحياة العيشَ بسهولة دون أن يكلف نفسه القيام بعمل شاق، وهذا ما أنا فاعل لأجعله سعيداً. أنا أملك المال ولا يهمني تبديده! إنه وسيلة وليس غاية. وإذا كان ثمة غاية فهو المرح والإنبساط، فالعمر قصير يا عزيزي سعيد! فما هو في يدك اليوم قد لا يكون غداً! وما فائدة الربيع إذا كان الحصان لا يقوى على الحَـراك؟
-هذا صحيح! ولكنْ ألا تعرف أنَّ ثمة قيوداً وحدوداً!
-ذلك قول عفا عليه الزمن. إنني أعيش هذا اليوم وأتمتع بالحياة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وليكن الطوفان غداً!
عند هذا أدركت أن مواصلة الحديث عبث، فالرجل مصمِّم على تنفيذ ما يدور في رأسه مهما كلف الأمر. لذا وجدت الإسترسال في الحديث مضيعة للوقت ودون طائل، فارتأيت السكوت أو بالأحرى الوداع. في صباح اليوم التالي رأيت سميراً، لم أخبره بما حدث مع منذر ليلة أمس، فقد كان مرحاً كالعادة، فهو يحب الحياة والتمتع بها، وهو يعلم أن ذلك يحتاج إلى مال، ومال كثير، وهو لا يملك شيئاً يذكر، ولا يستطيع الحصول عليه، لأنه ليس من الذين ينتجون أو يعرفون كيف ينتجون. لذا كان يشعر بالكآبة بين آونة وأخرى والتي تغيب عنه عندما يدعوه أحدهم إلى كأس بيرة. عندما التقينا تبسم فتبسمت، وبعد أن حيّا أحدنا الآخر، انطلق بالكلام سائلاً:
-هل خرجت ليلة أمس مع منذر ؟
-نعم! أجبته محاذراً.
-وأين كانت سهرتكما؟ قالها باضطراب كمن يتوجَّس سوءً.
-في أحد البارات القريبة من الفندق الذي أنزل فيه.
-وكيف وجدته؟ أعني أهو شخص لطيف المعشر والصحبة ؟
-وجدته شاباً لطيفاً ممتلئاً حيوية ومرحاً. وبالمناسبة هل علاقتك متينة معه أم هي مجرد علاقة عابرة ؟
-إنها شبه متينة، أو قل هي متينة. فهو يحب معاشرتي ويتودد إلي كثيراً ويحب أن يساعدني مالياً، وأنت تعلم أنني جديد هنا وهو قبلي بسنين، ويشغل مركزاً مرموقاً يدرّ عليه موردا جيداً.
-أما أنا، فلا أعرف عنه كثيراً، غير أني لست مرتاحاً منه، ولكنك أعرف به مني، ومع ذلك، إذا أردت نصيحتي، فلا تجعل العلاقة متينة معه، بل من الأفضل عدم لقائه!
-ولِمَ ؟ هل رأيت ما يثير شكوكك فيه ؟ أهي سياسية ؟
-قد يكون هذا وذاك. ربما أرى الأشياء غير ما تراها، وقد أكون مُخطئاً، ولكنه شعوري نحوه.
-ربما تكون مصيباً في تصوراتك. ولكن ما العمل وهو لاصق بنا وأنا أستحي أن أكون غير لطيف معه.
إنقضى عام كامل على حديثنا هذا، حيث أنني عدت إلى الوطن. خلال ذلك العام حدثت تطورات جمة جعلتني أقرر المغادرة. فهل يستطيع المرء العيش بين الأفاعي السّامة والوحوش الكاسرة التي تسيطر على الوطن الغابة؟ مررت بالمدينة الجميلة وزرت سميراُ الذي بادرني قائلاً :
-أتعرف يا أخي سعيد أنّ منذراً كان نذلاً، ولو وجدته لقتلته ؟
لم أستغرب من قول سمير، إذ كان متوقعاً ما سمعته، ولكني أحببت أن أعرف ماذا جرى وكيف جرى، ولذا سألته السؤال التقليدي في هذا الشأن
-أستغفر الله يا سمير، ماذا فعل منذر ليستحق هذا العقاب ؟
- ماذا فعل ؟ وهل يوجد ما هو أخَسّ مما فعل ؟ قالها وعضلات وجهه تختلج من الغضب وهو ينفث الزفرات بحرقة وعصبية فخشيت من غضبه أن يمتد إلي، فليس لي طاقة لخصام أو عراك. ولكنه واصل كلامه: إنه لعمل دنيء. ذلك أنني تعرفت على فتاة أسبانية سائحة وأقنعتها أن تقضي سهرة المساء معي، فوافقت، وأخبرت منذراً بالأمر فعرض علي شقته متعللاً أنه سيَـبـيتُ هذه الليلةَ مع صديقته، فوافقتُ. ولكن الخبيث أخبر زوجتي التي أخبرتها أنني ذاهب إلى مدينة أخرى لمقابلة الشركة التي عرضت عليَّ عملاً وقد لا أرجع إلا في اليوم التالي، بالأمر. وفي اليوم التالي كان لي مع زوجتي خصام مستمرّ حتى هذا اليوم. عذرته على غضبه ولكني لم أعذره لغبائه. فخففّت عنه بكلام معسول وفارقته، حيث كنت مشغولاً بأموري الخاصة المعقدة.

***

جاءني منذر ذات يوم وهو في انشراح ومرح غير عاديين، وقبل أن أسأله عن سبب نشوته، انطلق قائلاً
-أتعلم يا غسان أنني وقعت في الحب !
إستغربت لصراحته المفاجئة لي، إذ أنني طوال المدة التي صاحبته لم أسمعه يقول ذلك، فعبثه مع الفتيات لم بكن حباً بالمعنى الصحيح للحب، بل كان مجوناً ومغامراتٍ. لذا سألته بتهكم:
-ومن المحظوظة بحبك الزائف هذا يا عزيزي ؟
-ليس حباً زائفاً يا غسان، كما تظن، إنه حب حقيقي ملك قلبي وعقلي وروحي، فلم أعُـدْ أ ُبصِر غيرها. إنني أذكرها في عملي، في طريقي إلى البيت وفي البيت، فقد استحوذت على كل مشاعري، فهي معي أينما تكون وأكون!
-حسناً، وهل صارحـتَها بحـبِّـكَ ؟
-طبعا! ولكن ثمَّـة مشكلة!
-وما هي ؟
-إنها متزوجة ولها طفلة!
ضحكت وقلت بنبرة تشوبها سخرية:
-بئس الإختيارُ يا منذر، أليست ثمة امرأة غيرها ؟
-المسألة ليست إمرأة غيرها، ولكني أحبها. ألا تفهم ما يعني الحب ؟
-طيب! إخبرني أكثر لعلي أفهم ما تعني.
إنطلق منذر قائلاً إنه تعرف على هذين الزوجين عن طريق الصدفة، وذكر اسم سمير الذي وصفه بالغباء، وزوجته الفاتنة، وكيف أن سميراً كان بحاجة إلى المال، وأنه ( منذر ) ضرب على هذا الوتر الحساس. الواقع أن سميراً لم يكن بحاجة ماسة إلى المال، ولكنه الطمع. فهو يحب أن يُستضاف وأن يتمتع بما يصرفه الآخرون عليه. فإذا ما حصل على هذا، تجده مرحاً وطروباً ومُـتَـندّراً وخفيفَ الظِّـلِّ والروح، فهو ليس من تـُمَـلّ عشرتُـه فلا يكتـئـب إلاّ عند الضِّـيق. جعلته مرحاً دوماً، فكان يلازمني. ورأيت دوريس تنظر إليّ نظرة غير عادية، أو قلْ ذات معنى، فأخذ قلبي يضطرب. وعندما كنت ألقي بعض النكات الخبيثة، كانت تبتسم. إنها جميلة ولكنها ليست على درجة عالية من الذكاء، فذكاؤها محدود وثقافتها بسيطة، ولكنها جميلة. إستطعت أن أصل إلى قلبها بمختلف الطرق، ولا أظنّ أنَّ سميراً كان يفهم. هل كان يدري ويغضّ النظر؟ ربما! ولماذا ؟ ألأنه بحاجة إليّ ؟ حاولت أن أعرف عنهما كل شيء، وخصوصاً في تلك الفترة التي قضياها في أرض قمعستان. فعلمت أنّ سميراً كان فيها فاشلاً جداً، فقد كان عاطلاً عن العمل أو شبه عاطل. ولولا الوظيفة البسيطة التي تكرم بها أحد المعارف، لهلكا جوعاً. لقد عانت دوريس في تلك الفترة شقاءً كبيراً، ولم يدُرْ ببالها هذا العناء، فقد صارحت سعيداً، وهو رجل يوثق به، أنها كانت تتوقع حياة أجمل وأسعد من الحياة في ألمانيا من حيث العمل والرّخاء، فكانت تتخيل أن تعمل وزوجها، فيعيشان برخاء ويوفران الكثير من المال. اصطدمتْ بالواقع المـرير، حيث كان سمير بلا شروى نقير، بينما كان الآخرون يتبخترون بالسيارات الفارهة الجميلة، فأدركتْ أنْ ليس كلّ الناس سواء، وكان الأمر محزناً حقاً. أخذت تحثه للعودة إلى برلين، فعادا. وعندما وطئت قدماها أرض برلين، وهبت عليها أنفاس الحرية، تنفست الصعداء! الأشهر الأولى كانت صعبة، فقد كانا بلا مال أو وظيفة، وكان الأمل وحده يداعبهما. كان سمير يتشبث بأيِّ واحد يحس فيه روح العطف والرغبة في المساعدة، وهنا جاء دوري. فلما التقاني أولّ مرة، وجدني عوناً وغوثاً ولم أخيب ظنه فيّ، وخصوصاً بعد أن رمقتها! وكيف لا أضع كل خدماتي وروحي تحت أمرهما وقد كانت المثال الذي تصورته في مخيلتي وكانت النوع الذي أهوى! كان سمير يحس بما أخفي ولكنه يتظاهر بالغباء، وقد يكون لا يدري أو لم يُعِـرْ للأمر اهتماماً، فقد كان زيرَ نساء فترة ليست بقصيرة، ولم يكن غيوراً، أو ربما كان حبه للمال أكثر من حبه للنساء. لا أعرف ما كان يدور في خلده، ولكني كنت ثالثةَ الأثافي! كانت دوريس تشجعني من طرف خفيّ ببسمات عِذاب وتَرحاب حار كلما غابت عينا سمير عنها. أردت أن أعرف عنها أكثر، وخصوصاً استعدادها للمغامرات العاطفية فوجدت ضالتي في سعيد، وهو رجل أعمال يتنقل بين بغداد وبرلين وكانت تربطه صداقة وثيقة بسمير منذ زمن طويل، وقد تعرفت عليه في بيت سمير. فعرضت عليه إيصاله إلى الفندق الذي ينزل فيه فوافق مسروراً. ولما عرضت عليه الذهاب إلى أحد البارات لقضاء بعض من الوقت، لبّى الدعوة شاكراً. حين علم سعيد بما أ ُضْـمِرُ من أمر بعد بضع جرع من البيرة، عارضني من التسرع والمضيِّ في مشروعي، ولم يدرِ أنّ الحبَّ قد سيطر عليّ وأنا من المغامرين. على كل حال فهمت من تجاذب الحديث أن الوصول إلى دوريس ليس أمراً مستحيلاً بلْ متعبا،ً ولكنه ممكن. فصرت أتحيّن الفرص. ولما عرفت أن سميراً مع فتاة سائحة، شجعته وعرضت عليه شقتي فرقص فرحاً. أخبرت دوريس بالأمر فثارت وعربدت وانتقمت وكانت ليلة حبّ لا تنسى! علمت بعدئذ أن سميراً فهم كل شيء، ولكني بعد أن غادرت برلين إلى مدينة أخرى، عرفت أنهما انفصلا ولكنهما كانا يعيشان في شقة واحدة لأجل طفلتهما. كنت على اتصال دائم بدوريس. فعندما كان يغادر سمير إلى مدينة أخرى بعد أن وجد عملاً هناك، أكون بجنبها! بعد هذا يا عزيزي غسان خبتْ جذوة الحبِّ وسئمت الحياة في برلين فقررت العودة إلى أرض الوطن. بعد ذلك لم أر منذراً، قالها دكتور غسان وهو يبتسم. أحقاً عاد إلى أرض الوطن؟ أم ظلّ مختفياً في أحد مدن ألمانيا؟ ضحك دكتور غسان ولم يستغرب من عمل منذر، فقد كان يعرفه حق المعرفة منذ أمد طويل، حيث كانا من العراقيين الأوائل الذين سكنوا برلين، ولكنه سخر من غباء سمير.

***

بعد ثماني سنين من مفارقتها، عدت إلى برلين الجميلة للعيش فيها، ولكن ليس كما تشتهي السفنُ تهبّ الرِّياح، فالحياة تغيرت وتغيرنا معها. رغم هذا حاولت، واستعنت بصديقي سمير الذي توفَّـقَ في العمل ولم يعد ذلك الرجل الذي يبحث عن مورد رزق، فقد صارت أحواله جيدة ولكنه بقِي على عاداته في العبث والشراب والركض وراء الفتيات، ولكنه لم يزل مع دوريس. لم أكن أتوقع أن يستقبلني سمير في المطار بحرارة لا أزال أذكرها رغم بُعد السنين، وقد عرض عليَّ مساعداتِـه للإستقرار، ولكنه لم يكن متحمساً حقاً، بل كان حماسُه أقربَ إلى المجاملة منه إلى المساعدة. لم أكترث، فلديَّ خطط كثيرة. مكثتُ سنة كاملة كنت ألتـقيه بين آونة وأخرى. في تلك السنة نطقت بالكلمة التي سببت الفراق، وكان اسم ( منذر ) هو الذي أضاع صوابَه وقرَّر الإنفصال عني ونسف سبعةَ عشرَ عاماً من الصَّـداقة. وعندما كان يسألني بعض الأصدقاء عن سبب الجفاء، أجيب بكل شيء لا يمت إلى الحقيقة بشيء للتسترعليه، فيستغربون من السبب ولا يعتقـدون. وبعد السنة غادرت برلين إلى ما وراء البحار.

***

هاأنذا أعود إلى برلين الجميلة بعد غياب اثـنتيْ عشرة سنة، و قد تغيرتْ كثيراً، فقد توحد شطراها واختلط الحابل بالنابل وتغير ساكنوها، فجدار برلين الرهيب سقط، واختلط الشرق بالغرب، وكان حلماً لمن عاش خلف ذلك الجدار أن يتجول ويعمل في القسم الغربي منها بحرية لم تَـدُرْ في خلده قَـطّ. الناس فرحون بما أوتوا من حظ عظيم. وعندما أضافتني شلة من الأصدقاء، طلب أحدهم مني، كضيف شرفٍ، إذا لم يكن مانعاً لديّ أنْ يأتي سمير. كيف أكون مانعاً مجيئَه وأنا الذي أنتظره بفارغ الصبر! لأني خلفت ما حدث ورائي. كانت جلسة رائعة لم يحضرها سمير، وعادة كان أول من يحضر. وجودي غيّب سميراً. إستغربوا وتساءلوا. لم أخبرهم بالحقيقة وكيف أخبرهم! أخبرتهم بسبب تافه، لم يصدِّقوا، فقد كان غيرَ مُقـنع. لم أ ُرِدْ ذِكرَ الحقيقة فقد كانت مرّة حقاً. أنا آسف ياسمير لما حدث، فليس لي يد فيه! إنه غباؤك وطمعك وسذاجتك. ولكن مع هذا وجب عليك أنْ تطمئِـنَّ، لأن قصَّـتي هذه لا يفهمها إلاّ أربعة فقط! منذر الذي لم يُعثَـرْ له على أثر، ولا أعتقد أنه سيقرأها. ودكتور غسان، وهو نَسّـاء، ولا يقرأ الصّـُحفَ إلاّ لماماً. وأنتَ! فإذا قرأتها، ولا أظنك تقرأها، فاطمئن. ذلك أنَّ أحداً لا يعرف أنك بطلها. أما رابع من يعرف، فهو كاتبها الذي لا يبوح بشيء، ولا يعرف أحياناً ما كتب!