ابوي الشيخ صالح ود ابو صالح، جئت اليك وحطام الدنيا تهنّدس في مكعبات مسامات روحي، الشيطان، تبّا له الشيطان، رافقته في حلّه وترحاله عبرت معه متاهات سلالام الحياة وانفاقها ودهاليزها المظلمة، شربتُ من ملذّاته ولحستُ من ماخور المعاصي حتى التِّفِل، روحي خواء، وفكري ظلام، ورفيقي القّلق، والارقّ يلتهم راسي كما تلتهم النار راس الشمعة، ماذا افعل؟؟ يا ابوي الشيخ؟؟ ماذا افعل؟
- يا بًُنيّ، الاعمال بالخواتيم، والتوُبةُ حبل متدّلى من قبّة السّماء، طرفه بيد مُولاك، وطرفه الآخر في يقيّنك، ابسط يدك واقراء في خطوطتها تفاصيل ينبوع الخلاص، نُور الحقيقة يحرق اوُجار الضّلال، ولكنه يحتاج منك ان تحبو اليه حبوا مع خيُوط الفجر، شدّ على حبل اليقين، واسرج دآبة القناعة بعد ان تعلفها بعلف الصّبر، واعبد ربك كانك تراه جهرة، وليكن وجّهك مُشرقا بالابتسامة ورحمة الرحمن الرحيم، يا بُنيّ اغمض عيناك وقل يالطيف ستلامس حتما قُبُّة سماء السعادة، واردّدّ مع الشّيخ صالح يا لطيف.. يالطّيف.. يالطيف.
يوم الخميس بعد صلاة المغرب في باحة مسجد النّوريين الكبير غرب منطقة امُدُرمّان، مئات من الدّراويش الزُهاد يتحلّقون حول منصّة الجّذب الروحاني، يترنحون الله الله.. يا هو ياهو.. الله الله .. موائد الطعام حيث الثريدّ بفتّة الارز مصفوفة مد البّصر خلف مصلّى النساء، الرايات الحمراء والزرقاء والصفراء والخضراء ترفرف فوق سور المسجد من جهاته الاربعة، الاطفال يتعلمون سرّ الطريقة الروحانية من مولانا عبدالله صغيرون تلميذ الشيخ صالح على ميمنة فناء المسجد، ويترنحون بدورهم وسط جّلجّلة ضربات النّحُاس التي تصيخ صماخ اذان ابليس، وتتغلغل في وجدان الطّاهر ود سكينة صاحب المخبز الالى (بحلّة كوكو) فيخرّ صريعا مجّذوبا وسط الحَضَرَة والجميع غير آبهين به، وبفرفرته من بين اقدامهم، يريدون الوصول الى الانوار الكمالية مثله، فلقد اعتلى دائرة الجذب السماوي، بجلبابة المبرقّع بسبعة الوان ولحيته الكثّة، هدير الذّكر يجعل طُوُب سُور المسجّد وسط القرية يدوخ، الله الله .. ياهو ياهو.. الله الله.
وتنبلج الانوار وتستضاء الباحة بخروج الشيخ من سرداقه الكائن اسفل قَبوُ المسجد حيث يعيش منذ ثلاثين عاما يصلّي الاوقات الخمس في قلب مسجده لا يغادره البتّة، يطمع ابونا الشيخ في امتلاك السر الاكبر الروحاني في خلوته، غيبوبة تخطف بعض الدارويش حيارانه من حبهم له، انه الشيخ الغايب عنّا المقيم في الحَضَرَةَ الروحانيّة، في العشرة الاواخر من شهر رمضان، يعتكف الشيخ في المسجد الحرام بمكّة فهو من اهل الخطّوة يسافر كفاحا بواسطة قرينه الجني المسلم كيف؟؟ الله اعلم (لاتسالو عن اشياء ان تبدو لكم تسؤكم) هكذا اخبرتني امي عندما سالتها في الحُوّاشَة (الحقل) قبل عشرة اعوام.
ما ان رايتُ الشيخ حتى التهب جسدي الناحل بالذكر، وكاد يذ وب مثل فص ملح في طست ماء، طاقية بيضاء تتوسط راسي، و جلباب مرقّّع بسبعة الوان شروط الحَضَرَة اتمايل منّشدا النشيد العرفاني.. مثل نخلة ضربها اعصار، الله الله ..ياهو ياهو.. الله الله، وتهتزّ كل عضلة وشريان وشعرة اودعها الله في جسدي.
و من بين الجموع المكتظة يشقُّ طريقه نحوي انه يقترب مني وانا ازداد رقصا روحانيا ويكاد حلقومي يتمزّق ويتناثر في فضاءات الروحانية من كثرة الصراخ.. الله الله.. ياهو ياهو.. الله الله، تنشقّ الصفوف الى قسمين افساحا للشيخ السبعيني امد الباري جلّت قدرته في ايامه، بياض لحيته اكّسبته وقارا، هادئا رزينا، طويلا ليس بممتليء القوام وليس بنحيفها، متزوج من امراتين احدهما انسيّة اسمها فاطمة بت التوم احيانا تسكن معه عدة اشهر وعندما تزوره الخدمة العلويّة الروحانيّة تسكن مع ابيها البلّة ود حامد ود قرشين، والاخرى اسمها شاهنشاه من.. من.. من قبيلة الجّن، نعم من قبيلة الجنّ، سمعتُ من الحاج حمد ود صيام يخبر والدي ذات مرة عندما كنتُ استرقّ السمع وانا ارتّب بعض الاغراض بالدكّانة ذات مساء ماءت فيه قطط الضجيج، على ما يقولانه دون ان يشّعُران بوجودي، وهما من اقرب الناس الى قلب الشيخ .
هل يتحقق حلمي ويتغمضني الشيخ ببركته؟ يبدو ان الشيخ يتوجه نحوي من دون مئات الناس في هذا الحفل الصوفي السنوي المهيّب الذي يتداعى صوبه الناس من كل فجّ عميق، ينشدون في صخب وسط طبول النّحاس، ضربات قلبي تكاد تسحقه، وصدري يعلو ويهبط مثل قارب تتلاعب به شلالات في عرض مُحِيط هادر، ينظر الىّ وبيني وبينه ثلاثون مترا، اضواء الحضرة الملوّنة تنكسر على وجهه الشيخ واقراء في عينيه سر دفين سيقذفه على وجهى الان، يزداد المتساقطون في دائرة الجذب الروحاني اخرهم الاستاذ عبدالسلام رشّحَ نفسهُ للمجلس البلدي بامدرمان، اشعرُ بالحمى تكاد تشوي جلدي، ثم فروة راسي، عرقي المالح تصبب من مسامات جسدي ويكاد يطفح بي، وانا اتمايل بعنف وقوة لست ادري من اين اتتني وانا الذي شرب ابليس من جسده وفكره وروحه حتى ارتوى، يقترب مني الشيخ، الروحاني، العارف باالله وحجة الزمان، وقِبلة الشيوخ والامراء والوزراء، يقترب مني اكثر وانا اشعر باني جسدي يرتفع من على سطح الارض، يتملّكُني خوف ورعب، استحال الدراويش امام ناظري الى ازهار ذابلة، الى احجار رقعة الشطرنج، الى اين ستمضي بي الروحانية ان جذبتني (الجلجوتية الكبرى؟) خُطوَات الشيخُ تدخل في دائرتي الخاصّة، يرفع الشيخ مسبحتهُ وحبّاتها تركض من بين اصابعه داخل خيطها من تلقاء نفسها كما يركض الحجيج بين الصفوة والمروة، دون ان يُحرّك فيها شئيا، والناس يرقصون ويتمايلون في عنف عرفاني وغيبوبة صوفية سماوية.
ويضع الشيخ يده اليمنى على كتفي وتصمت دفوف النحاس فجاءة، ويتصنّم النّاس الدراويش كلهم في لحظة واحدة، ويسكن الهدوء المكان، لا تسمع الا بقايا انين وحشرجات بكاء معلّّّق لمجاذيب اقتربوا من دائرة الجذب، حتى الشّجر سمد في مكانه، بعد ان تخّلت الفروع عن الاوراق في شجرة اللبخ الكبيرة داخل فناء الجامع فتطايرت الاوراق الى قبة السماء، ووسط نحيب المُريدين يسودُ الصمت المكان والزمان، واحسُّ بجسدي لم يعد ملك لي، انه ملكٌ للشيخ صالح ود ابوصالح بن الحاج جار النبي بن ابوحامد المغربي، والحَضَرَة الروُحانية والخدّام الروحانيّين من (برهات) الى( مُرقّش) ( بِزجِل) (جَلجلُوت) (فاطمة السّحابية) (شقّاق الارض) (جماعة جاوى) (خُدّام الخاتم السيلماني الروحاني) (اهل العزيمة النّارية) (ملوك الجنّ في الهند وبلاد السند) وحسن اؤلئك رفيقا.
ثم يدنو مني الشيخ والناس نحوه شاخصون مثل تماثيل حجرية في متحف اسطنمبول الوطني، يهمس في اذني اليمنى.. يا عبد المطّلب بن الحاج هاشم بن احمد بن الضرير، وبارتباك مذهل اجيبه ( ن.. نع.. نعم لبيك،) َ ثم يصمت وعيناه الهادئتين مسمّرتان عيني، ثم يكمل وبهدؤ لم التمسه عند مخلوق في هذه الدنيا، يا ابني عبدالمطلب: لقد اتاني هاتف الهامي روحاني قبيل صلاة الفجر بقليل من دائرة الاوتاد الروحانية العليا، وتنحبس ما تبقت لي من انفاس، تقول رسالة الهاتف
( لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنب وما تاخر، حتى وان شربت خمور الدنيا ومافيها، يا عبدالمطّلب لقد كنت انتَ من جنود ابليس، اما الان، غدى ابليس من جُندك، عليكَ ان تدعوه الى الحضرةِ كي يدخل الطريقة.. الطريقة.. الى النقاء.. والخلود الايماني، ياعبدالمطّلب لقد زوجّناك(َ مهيارا بنت شمهروش) السنّدية من قبيلة الجنّ العلوي، يا عبدالمطلب انت الان في حضرة القطب الوتد السماوي، عليك ببخور الصندل الهندي والزعفران الايراني لترسم خاتم سليمان عند كوكب عطارد يوم الاثنين الثالث من رمضان ساعة الجوزاء ولك الرضى التام من الخدمة العلوية والسفلية، ياعبدالمطلب....
واذا بدلوا من الماء البارد يدلق على راسي و تنهال على ظهري سياط الكرباج، انه ابي وهو يصرخ كعادته في وجهي كل ما سرقني النوم صباحا، قُم يا منحُوُس، قم وصلي الفجر واترك النّوم والكوابيس، قُم واذهب الى الحقل واحصد البرسيم للحمير حتى تاكل، واترك نُومكَ واحلامكَ وكوابيسُك الزفتّة ثم ينهال عليّ بالكرباج واهرب من وجهه وانا ابن ثلاثين ربيعا، لاخطف ابريق الوضوء، واركض نحو المرحاض حذاء الحوش الكبير، اغسل وجهي، لاعنا ابليس والشياطين، من كابوسي الطويل، وحلمي المرعب. ثم اجلس بين يدي امي ارشف قهوة الصباح و اقصّ عليها حلمي المقيت.

قاص من السودان-