"ماري ستيوارت"على خشبة مسرح دونمار وورهاوس اللندني
بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لرحيل الشاعر الألماني فردريك شيللر..
لندن: علي كامل: التراجيديا الرومنتيكية "ماري ستيوارت" هو العرض المسرحي الثاني لشيللر يقدم هذا العام في ويست أند ـ مركز العاصمة لندن، أما الأول فقد كان "دون كارلوس" الذي قدم على خشبة مسرح جيلجيد، حيث تولى العملية الأخراجية فيه المخرج مايكل كراندج. على الرغم من وجود أربع ترجمات إنكليزية متباينة لهذه المأساة الرومنتيكية، إلا أن القليل منها وجد طريقه إلى خشبات المسارح البريطانية، ربما هناك ترجمة واحدة فقط، كان تسنى لي مشاهدتها منذ أعوام على مسرح الناشينال رويال للكاتب والمخرج المسرحي جيرمي سامس، لعبت فيه أنذاك المثلة آنـّـا ماسي دور الملكة إليزابيث وإيزابيل هوبرت دور ماري ستيوارت.
الترجمة المنقحة الجديدة والجريئة التي يجري تجسيدها الآن على خشبة مسرح دونمار وورهاوس، بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لرحيل الكاتب، هي للكاتب البريطاني بيتر أوسولد، وهي تكاد تكون الترجمة الأفضل بشهادة معظم النقاد، بسبب سلاستها وقربها من ذائقة المتلقي البريطاني، ناهيك عن ذلك المزج الفطن والمتقن للشعر المرسل بالنثر. تتولى العملية الأخراجية لهذا العرض المخرجة المسرحية فيليدا لويد، فيما تلعب الدورين الرئيسيين كل من الممثلة هاريت وولتر بدور " الملكة إليزابيث " والممثلة جانيت ماكتير بدور " ماري ستيوارت".***
شيللر مثل شكسبير، كلاهما عالج الثيمات التأريخية برؤية مفتوحة ودرامية دون قيد المؤرخ، ناهيك عن أن شيللر كان مؤرخاً أصلاً إضافة إلى كونه شاعر. في رسائله المتأخرة لغوته، كتب شيللر: "بين يدي سيصبح التأريخ، سواء كان هنا أو هناك، شيئاً لم يكن من قبل مطلقاً". عبقريته كممسرح للتأريخ تنطلق من أنه يضع الشخصيات في دائرة المواجهة والجدل، ولقد قيل الكثير والكثير ضد الملكة ماري ستيوارت، وقيل إن الملكتين لم تلتقيا يوماً مطلقاً، وهذه حقيقة. فما الذي فعله شيللر إذاً؟ لقد إبتكرت مخيلته الجريئة مشهداً شهيراً يجري فيه لقاء عنيف ومواجهة غير عادية بين تلك الملكتين، ذلك المشهد الشيللري الذي زرع الهلع في قلوب الكثير من المؤرخين والشعراء على حد سواء منذ القرن الثامن عشر وحتى وقتنا الراهن. فحين قرأ الشاعر الأنكليزي كولريدج ذلك المشهد، صرخ بأعلى صوته قائلاً : " ياإلهي، من هو شيللر هذا!؟ إنه يشل القلب بجرأة وسعة مخيلته!.".
"بورتريه مزدوج لملكتين"
كتب شيللر مسرحية " ماري ستيوارت " عام 1800 ، في فترة كانت تغلي بجدل عنيف بين التيارين العقلي والعاطفي، ذلك الجدل الذي أعقب خيبة أمل الثورة الفرنسية، إلا أنه في ذات الوقت، فتح الطريق أمام الثورة الرومانتيكية. ويمكننا نعثر في هذه المسرحية على تلميح لمثل ذلك الجدل، في تلك المواجهة العنيفة التي تجري بين الملكتين، إليزابيث الأولى العقلانية كالفولاذ، والملكة ماري العاطفية مثل شاعر. إلا أن النزاع يذهب أبعد ليحدث شرخاً في هذه الدائرة الضيقة، وليتخذ مسارات سياسية ودينية، أخلاقية وسيكولوجية، فالموت والعشق والجنس والسلطات الدينية منها والسياسية، كلها تنصهر في بوتقة واحدة لتنتج هذه الدراما الأيقونة.
تجري أحداث المسرحية في موقعين، الأول سجن قلعة فورثيرنغاي، أما الثاني فهو البلاط الملكي الأليزابيثي. وتغطي تلك الأحداث فترة الأسابيع الأخيرة قبيل إعدام ماري ستيوارت ملكة إسكوتلندا، وإبنة عم الملكة إليزابيث الأولى. المخرجة فيليدا لويد عالجت النص الشيللري هذا بمنظور سيكولوجي سياسي تهكمي يطال من جهة، خبايا أخلاقيات سياسية معاصرة، ومن جهة أخرى يرسم بورتريه شخصي مزدوج للملكتين، متخذة، أي المخرجة، من المفارقات والتعارضات التأريخية والشخصية مفتاحاً لتهكميتها المُـرّة هذه. أحد تلك التعارضات يتمحور حول مفهوم الحرية. فماري ستيوارت مثلاً، هي أكثر إحساساً بالحرية في سجنها مقارنة بإليزابيث الطليقة وهي في بلاطها وفوق عرشها.
الحرية هنا، بالطبع، تتخذ لها بعداً أخلاقياً إلى حد ما، وليس سياسياً، بل إن موت ماري الأختياري نفسه، يكاد يتماهى، ربما، وشهادة يسوع، ولهذا السبب مثلاً تنظر ماري إلى هذا الموت على أنه بمثابة قدر حتمي، فيما تراه إليزابيث ضرورة أساسية تمليها شؤون الدولة.
ومع ذلك، ورغم موت منافستها، إلا أن الحرية لن تتحقق لإليزابيث، بل ستتضاعف عزلتها أكثر فأكثر، ربما بسبب عقدة الذنب، أو، ربما، بسبب المناخ التآمري الذي يسود القصور الملكية عادة.
أما التعارض الثاني فيتخذ له منحىً ذا صفة لاهوتية، فماري الكاثوليكية التي ترعرعت في أحضان البلاط الفرنسي الكاثوليكي، ذاك الذي كان يدعمها كأمرأة وملكة، تدفع بالبلاط الأسكوتلندي البروتستاني، إلى إقصائها عن السلطة، بذريعة واهية هي قتلها لزوجها، إلا أن السبب الحقيقي يكمن أساساً وراء عرقها الكاثوليكي.
واقع الأمر إن كاثوليكيتها المتحمسة ليست سوى إمتداداً لرومانتيكيتها كأنسانة وليس كملكة، فيما نرى على الطرف النقيض، إليزابيث البروتستانتية المراوغة دون غطاء، فهي لم تكن مدعومة من قبل بلاطها البروتستانتي أصلاً لا كملكة ولا كأنسانة، ربما بسبب تلك الفضيحة التي إرتكبتها أنذاك والدتها التي خانت زوجها مع أحد رجال حاشيته وأعدمت بسبب ذلك على الأثر. مع ذلك، تنجح إليزابيث الأولى في إستمالة الطرفين الدينيين المتنازعين آنذاك هدفاً لتحقيق مآربها. ففي الوقت الذي تتخذ الملكة ماري من كاثوليكيتها غطاء واقياً لحياتها، نرى إليزابيث تتعلم من عدوانية البروتستانتية وصرامتها الكثير عن إدارة شؤون الدولة، والقليل عن شؤون القلب.
ولا يفوت شيللر من أن يلمّح هنا، مجازاً وبمقاسات أوسع وأعمق، إلى ذلك التعارض الحاد الذي كان قائماً أنذاك بين التيارين العقلي والعاطفي في ألمانيا القرن الثامن عشر.
أما مفارقة السلطة فنعثر على تفسير لها في طباع كلتا الملكتين، ففيما كان يخطط بعض كاثوليكيي البلاط الإليزابيثي إلى تحرير الملكة ماري من سجنها لأنتزاع العرش من إليزابيث ومنحها إياه، بسبب أنها الأكثر شرعية من الأخيرة، إلا أنها ترفض بعناد وتصر على الأحتفاظ فقط بحقها الوراثي بعد إليزابيث، فيما نرى الملكة إليزابيث تتشبث بالعرش بجنون وعنف، مصممة بقلب فولاذي، على موت إبنة عمها ووريثة عرشها، بل الأكثر من ذلك هي ترفض حتى تسمية الشخص الذي سيرث عرشها بعد موتها!.
حين تطلب ماري من سّجانها اللقاء بالملكة إليزابيث، لنيل الصفح من إبنة عمها، فإن مصدر ذلك ليس ضعفها وهوانها، بل سجيتها الطيبة ورومانسيتها، إلا إن الأستجابة تأتي سلباً من الطرف الآخر، حيث تكون الملكة إليزابيث قد وقعّت وثيقة الموت بماري قبل أيام من ذلك اللقاء، مسّوغة ذلك، في ما بعد وبمرارة كاذبة، أنها أكرهت على فعل ذلك بضغط من وجهة النظر العامة وأحكام الضرورة السياسية.لبلوغ درجة السمو والطهر، تعترف ماري للكاهن بمشاركتها في جريمة قتل زوجها الأخير، وإعترافها هذا واعزه أخلاقي بالطبع، وليس بسبب الترهيب والخوف، فيما نرى إليزابيث تمتنع حتى في ما بعد، من الأعتراف في جريمة قتل ماري ستيوارت نفسها. هذا التعارض الأخلاقي نراه يتواصل حتى نهاية العرض، ففي لقاء الملكتين، تكشف ماري، بعد يأسها الكامل من إحتمال تحريرها من سجنها، عن حقيقة إليزابيث، من أنها ملكة غير شرعية على العرش التيودوري، وهي اللحظة التي ُتقنع إليزابيث تماماً بضرورة قطع رأسها.
صحيح أن الملكة إليزابيث تتوج النزاع أخيراً في الأنتصار على منافستها، رغم أن المنافسة غير متكافئة، لكن ذلك الأنتصار يظل إنتصاراً مادياً وليس روحياً، فهي في واقع الأمر تتعرض لهزيمة روحية، تفقد فيها أخيراً حتى غطاءها الأخلاقي.
ثمة تعارض آخر بين الملكتين، من شأنه أيضاً أن يسهم في تنشيط فعل النزاع، وهو التفاوت في طبائع كلتا الشخصيتين، فإليزابيث إمرأة دميمة هرمة وحسودة، تبدو وسط رجال حاشيتها، الذين يزدرونها ضمناً، مثل دمية شمعية. في حين تظهر ماري ستيوارت فاتنة محبوبة وعاشقة، فهي، على الرغم من من موت أزواجها الثلاثة، إلا أنها مازالت تجتذب رجال البلاط، وهذا سبب لايمكن التقليل من شأنه في صراع إمرأتين. لكن، مع ذلك، لو نظرنا إلى إليزابيث من زاوية أخرى وبعمق، لوجدنا أنها هي الأخرى شخصية مأساوية كما هي ماري، لأن كلتيهما تدوران في فلك عالم ذكوري قاس ٍ ونفعي بشكل لايرحم. فرجال الحاشية جميعاً، ينتظرون بشراهة إنتهاء تلك المعركة التي سكبوا الزيت على نارها منذ البدء، لتسلم مكافآتهم. المحصلة، أن ماري تموت شابة ويبقى وريثها إبنها القاصر جيمس الخامس ليتولى عرش البلاط الأسكوتلندي من بعدها، ولاحقاً، بعد موت إليزابيث الأولى، سيتولى عرش البلاط البريطاني أيضاً.
أما إليزابيث فتموت هرمة معزولة دون زواج، وهذا مايضاعف من تراجيدية شخصيتها تلك التي رسمتها مخيلة الشاعر شيللر. حين ينتهي العرض نشعر، حقاً، بتعاطف ضمني مبهم مع الملكة إليزابيث ومعاناتها القادمة، إلا أن ذلك لا يحجب تعاطفنا المعلن والكامل مع ماري ستيوارت وشهادتها البطولية، لذا يمكن القول أن العرض حاول أن يُظهر، بموضوعية هادئة وبرؤية سيكولوجية، بأن كلتا الملكتين شخصيتان تراجيديتان.
لقد خطت المخرجة فيليدا خطوة شجاعة، إلا أنها مبهمة، حين إختارت زيّاً معاصرا حديثاً للشخصيات الرجالية، هو عبارة عن بدلات رمادية ذي صدر مزدوج، يحملون حقائب دبلوماسية ذي سمة بيروقراطية تذكرنا تماماً بالساسة اللوردات اليوم، فيما ألبست الملكتين زياً تابعاً لزمن الحدث التأريخي، سادت فيه الألوان الفضية والرصاصية والسوداء.!
أما اللقاء الشهير بين الملكتين، فقد إختارت له المخرجة أن يتجلى وسط عاصفة مطر عنيفة، منحت المشهد حدة وعنفاً كبيرين حقاً، ناهيك عن تأثيره الدرامي على المتفرج.
وإذا أردنا الحديث بشأن الديكور، فنقول أن المصمم أنتوني وورد قد إكتفى بدهن الجدران الداخلية لمسرح دونمار باللون الأسود، والذي من خلال إلتماعات الضوء يظهر الطابوق المرصوف، مجازاً للتعبير عن قلعة فورثيركهاي، المكان الذي سجنت فيه ماري ستيوارت وقطع رأسها لاحقاً، تنيره حزم ضوء ذهبية حادة، تعطي صورة ظليلة كالحة للمزاج والعقلية الشكوكية تلك التي تسم أجواء القصر الملكي الإليزابيثي أنذاك. الديكور ذاته، مع تغييرات طفيفة، سيصبح قصر ويستمنستر أيضاً، موقع عرش الملكة إليزابيث.
الواقع أن أنتوني وورد لم يستخدم سينوغرافيا مبهرجة، بل إكتفى بمقعد خشبي طويل، يمكن نقله بسهولة ونعومة من مكان لآخر دون ضجيج، وّظف لأستخدامات متنوعة عدّة. أما العنصر الجوهري في هذا العرض الشيق والمبتكر، فهو عنصر الأداء بلا شك، فهاريت وولتر، إليزابيث، وجانيت ماكتير، ماري، لم تكونا فقط ملكتين يتنافسن على عرش إنجلترا، بل ممثلتين حالمتين يخضن تنافساً ودّياً خلاقاً آخر على خشبة المسرح لأظهار خباياهن وخبايا شخصياتهن.
إن نصاً كـ " ماري ستيوارت " لا يمكن أن يصمد طويلاً على خشبة مسرح من دون ممثلين أكفاء ذو حساسية عالية ودقيقة بالتعامل والعبارة الشيللرية، كذلك الأيقاع، فعلى الرغم من أن العنصر الذي يدوزن الأيقاع هو المخرج، إلا أن أدوات كالممثل وعناصر بصرية وسمعية أخرى، تظل هي الفاعلة والمؤثرة في خلق ذلك الأيقاع، وهذا ماأحسسنا به ونحن نبحر مع هذا العرض البهيج. لقد أظهرت عروض مسرحية كـ"اللصوص" و"دون كارلوس" وآخرها "ماري ستيوارت" على خشبات المسارح اللندنية، أن شيللر هو حقاً ليس فقط كان يعي كيفية كتابة درامات تأريخية، بل إن إختياره لموضوعات كتاباته كان وما زال يصّب في كل الأزمنة إن لم نقل في كل مكان.
التعليقات