ما يبقى يحكيه المسرحيون المغاربة من التّاريخ إلى الحبّ!

1

تابع جمهور الفنّ والأدب بمدينة مكناس، في بحر هذا الصّيف، أقوى الأعْمال المسرحية التي اجْترحتْها مخيِّلة المسرح المغربي هذا العام، وهي تلخّص مجمل التجارب الجمالية والفكرية التي ترهن مظاهرها ومكوّناتها بمعالجة الواقع الإنساني في تفاصيله اليومية وأبعاده النفسية والمأساوية بين الحقيقة والأسطورة، التاريخ والفنطازيا. وقد قدمت الفرق المسرحية، ذات الميول الإحترافية في غالبها، من مختلف تضاريس الوطن يحمل بعضها تراثه الحكائي والغنائي العامّي والأمازيغي، وآخر ينهل من تاريخ الأندلس وفلسطين الجريح في إيحاءاته القومية، وثالث ينفتح على أسئلة الكائن الإنساني عبر استلهام شخصيات من الموروث المشترك لذاكرةالمسرح{شكسبير، سيربانطيس، ممدوح عدوان، توفيق الحكيم ..}.
ولهذا السبب، جاء الريبرتوار الفرجوي متنوّعاً وخصيباً في مضامينه وموضوعاته [الحرب، السلطة والجشع، الحب والخيانة، الهجرة والسّفر، الإعتقال، السخرية ونقد الواقع]، وفي اتجاهاته الأسلوبية [التاريخ والفنطازيا، المأساة والكوميديا، السخريةوالباروديا، العبث، الخرافة الشعبية]، عدا نوعيّة الرؤى الإخراجيّة والسينوغرافية بحسب طبيعة المسرحيّات التي تنبع منْها [إحتفالية، فرديّة، تجريبيّة، واقعيّة]، ولغاتها ورطاناتها اللّهجيّة[العربية الفُصحى، العامّية المغْربيّة، الأمازيغيّة، الفرنْسيّة].
منْ هُنا، وترْتيباً عليْه، كانت المنافسة بين الفرق المشاركة، التي زادت عن عشر، قوية في فعاليات المهرجان التي دامت أسبوعاً{من 20 يوليوز إلى 27 يوليوز}، ولا سيما بين تلك التي تحمل نزوعات تجريبية في مغامرة البحث عن أشكال جديدة داخل المسرح المغربي الذي تجاوز، بالكاد، خبرة نصف القرن .وقد فجّرت لجنة التحكيم التي ضمّت في عضويّتها نقاداً وأكاديميين وممثّلين من المغرب والعراق والجزائر المفاجأة بمنح الجائزة الكبرى للمهرجان لمسرحيةquot;لبسايطيةquot; التي عرضتها فرقةquot;ورشة الإبداع دراماquot; القادمة من مرّاكش ومعها مفردات الإنبساط والنكتة واللّذوعية الّي اشْتهر بها أهلُ هذه المدينة السّاحرة.وإذا كانت المسرحيةلا تخلو منْ فُرجة، وأتتْ في قالبٍ فنّي يسند محكيّاتها الشّعبية التّراثية على شكْل البساط بوصفه أحد الأشكال ماقبل المسرحية التي عرفها المغاربة كشأن الحلْقة وسلطان الطلبة وغيرهما، إلّا أنّها كرّستْ التّقليد بدل المغايرة في التّجديد الذي ذهبتْ في اجْتراحه بعْضٌ من الفرق الأخْرى، وهو ما قدْ يفسّره البعْض إكراماً لروح المسرحيّ الرّاحل، إثْر حادث مروريّ فاجع، عبد السّلام الشرايبي الّذي ارْتبط اسْمه بهذه المدينة ومسْرحها في عددٍ من الرّوائع مثل quot;الحرّازquot;وquot;سيدي قدّور العلميquot;وquot;بنت الخرّازquot;وquot;اللّيل والدّيجورquot;، عدا أنّ الدّورة حملتْ إسْمه.

2.
لعلّ أهمّ هذه الفرق المجدّدة الّتي لفتت الأنْظار إليْها، وقدّمت عروضاً وسمتها المغايرة في القلب والقالب نذكر، على الأقلّ، ثلاثَة أعمال:
أ.في عملهاquot;نوسطالجياquot; قدّمتْ فرقة مسرح أفروديت عرْضاً يطْفح بمشاعر الحبّ، ولذاذات الموسيقى والشّعر عبر اللّيالي التسع التي أشاعت، مع نهايتها، الإحساس بحجم المتخيّل الذي كان يشدّ الشّخصية الخفيفة اللّامرئية في عزلتها إلى عوالم يغمرها الضّوء حتّى تقبض على المرأة ـ الحياة رغم ما يحيط بها من أسرار الموت، الّتي مثّلتْها السينوغرافيا الّتي تتحوّل، رغم ثباتها، في سيرورة الألوان الفصيحة.
ب.وعن رواية quot;المخطوط القرمزيquot; للكاتب الإسباني أنطونيو كالا قدّم مسرح سيتي يوميات الأمير الأندلسي أبي عبداللّه الصغير في عملهquot;رماد أمجادquot;، التي شخّصها، بمقدرته ومنهوكيّة جسده النّحيف، المسرحيّ عبد الحقّ الزروالي. ّتكشف المسرحيّة الوجه المستعاد لأحزان أبي عبد اللّه في تعبيراته المأساوية.ولا تكف، في رؤية إخراجيّة وسينوغرافيّة تمزج بين المعيش والمتخيّل، عن لملمة الجراح الأندلسية الّتي لا تزال الذّات العربية تتأثّر لمُصابها.وهكذا ينتقل بنا الممثّل من الماضي إلى الحاضر الذي يتوجّس بمستقبل غامض تنبئ به الأوضاع الكارثية الّتي يلخّصها السّقوط المدوّي للمدائن العربية، من غرناطة إلى بغداد.وقد استطاعت هذه الرؤية أنْ تنقذ المسرحية من رتابة quot;المسرح الفرديquot; لمّا يتحوّل الممثّل الفرد إلى حشْدٍ من الأصوات والذّكريات والآلام واللّذاذات والإستيهامات من الأمّ والأب إلى الرعية قبل الحبيبة مريم، وهي جميعها في الحقيقة كانتْ تحاكم أبا عبداللّه، وتدفعه إلى ندمٍ لا يشفى منه.ولعلّ أكثر المشاهد تأثيراً في المسرحية هو ذاك الّذي بدا فيه أبو عبداللّه يسحب، بتثاقلٍ مريع، التابوت الذي ترقد فيه حبيبته مريم بين دروب فاس وأزقّتهاالمعتمة، وكأنّه يحيل على خطوات الموت الأليفة التي تداهمنا في مشاريع حياتنا، وبه انْتهى العرض تصاحبه الصّيحات الموجعة التي يردّدهما الأمير بالخيبة والنّدم:وداعاً غرناطة، وداعاً إشبيلية، وداعاًبغداد، وداعاًالقدس، وداعاًغزّة، وداعاّبيروت...وقد جاءت السينوغرافيا معبّرةً عن خصوصية المسرحية حيثُ تحوّلتْ إلى كُتلٍ حجميّةٍ محنّطةٍ توحي إلى مكانٍ أثريّ يعبق برائحة التّاريخ، وأحياناً أخرى إلى فضاء الرّحيل والموت بل والعدم، وهو ما يفسّر حضور اللّون الأبيض واكْتساحه الخشبة .
ج. أمّا فرقة مسرح نون التّجريبية الّتي يقودها، بإبداعه وعطائه المسْتمرّ، المسرحيّ كريم لفحل الشرقاوي فقدْ نقلت الجمهور إلى أجواء الحرْب التي تطْفح بالمفارقات السّاخرة في مسرحية quot;الحذاءquot;المقتبسة عن نصquot;أمادوquot; للْمسرحيّ العراقيّ ناهض الرّمضاني، الذي أُعيد بناؤه دراماتورجياً ممّا يكشف مفارقات الحرْب من جهة، وصراع السلطة و المصالح والأهواء من جهة ثانية، والإخلاص لروحيّة التّجريب في مقاربة الموضوع واسْتشكاله من جهة أخرى.إنّ قصّة الجنديّ الذي خرج إلى الحرب دفاعاً عن الوطن وجد نفسه معزولاً في جزيرة يحمل بندقيّته ويلازم خندقه ويجرّ حذاءه الثّقيل والمثقوب بعد أنْ ظنّ أنّ الحرْب لاتزال قائمة منذ عشْرين سنة، إلى أنْ جاءه الجنرال، ببدلته البيضاء الأنيقة، يخبره أنّ الحرب انْتهتْ، وأنّ رسالته التي حملها البحر في قارورة قد اسْتغلّها خصومُه السياسيون في الحمْلة الإنْتخابية، وأنّ عودته تشرّفه بقدرما تنقذ المستقبل السياسي للْجنرال.هنا تنتهي القصّة لتبدأ من جديد في معالجتين مغايرتين عبر أستثمار تقنية التشظّي التي تعصف بالمسار الخطّي للْحبكة، وتأخذ البنية الدراماتورجية إلى ضفاف جديدة :في المعالجة الأولى يتمّ تبادل الأدوار بين الجنديّ والجنرال في قالبٍ ساخرٍ تكثر مفارقاته و مقالبه في المشاهدات الّتي تحبك بين راقصة حسناء تاه بها مركبها إلى شاطئ الجزيرة، وجنوذٍ ثلاثةٍ بُعثوا من موتهم لإضحاك من يبكي فيهم سوءة الهزيمة. وفي المعالجة الثّانية يسم الطّابع اللّعبي والفوْضويّ المسرحيّة، بحيْثُ تتحوّل الجزيرة إلى مُجرّد quot;ماكيتquot; يخْتزل رمزيّة المنْفى بكُلّ أبْعادِها، ويتحوّل الجُنْديّ إلى رجُلٍ في كامل أناقته يزوره الجنرال ليُخبره بأنّ وجوده في الجزيرة كان لغرض تجريب هذه الأخيرة كمشْروعٍ لمنْفى إجباريّ.إنّ المسْرحيّة، بإجمالٍ، تجعلُ الجزيرةَ مُعادلاً للْوطن المهْدُور الّذي يتحوّل، بفعْل السجلّ الموصُوم لعديمي المسؤولية من أبْنائه الذي خسروا حُرُوباً لمْ يدْخُلوها، إلى مرْقصٍ ومُنتجعٍ سياحيّ .هذا التحوّل الدراماتيكي يطبع، قبل ذلك، الشخوص والفضاء المتشظي بين واجهةٍ تعرض حُطام الكلمات والأشياء، وبين خلْفيّة تحتلّها شاشة عاكسة للمُجرّد والرّمزي في تحوّلات العرض، وهو ما لمْ منه حتّى الجُمْهور الّذي كانتْ انْطباعاته و مشاهداته رهْن اسْتمزاج مسْتفزّ لطمأنينته واسْترخائه حين طُلِب منه تغيير مقاعده أوّلاً، وزوايا نظره ثانياً.وإذا كان التشظّي بؤرة تكْشفُ نزوع النصّ الدراماتورجي إلى التّجريب قلْباً وقالباً، فإنّ التّحوّل لمْ يكنْ، فيما يبْدو، إلّا اسْتراتيجيةً تُناقض مُحتوى النصّ الّذي حكمتْهُ الفوْضى والعبث نتيجةً مناخ الحقيقة الثابتة والرّأي الواحد بدل التعدّد والإختلاف. المفارقة السّاخرة، التشظّي والتحوّل هي أهمّ ملامح التّجريب في مسرحيّةquot;الحذاءquot;الّتي أكّدتْ، مرّةً أُخْرى، الخيار التّجريبيّ للْمسرحيّ كريم لفحل الشّرقاوي بعْد عمليْه quot;أهْل المخابئquot;وquot;عُرْس العنْكبوتquot; الّذيْن مثّل بهما المغْرب في مهرجان القاهرة الدّولي للتّجريب المسرحيّ خلال العاميْن المنصرميْن.
إلى ذلك، يجب التنْويه بقيمة أعْمالٍ أُخْرى وتنْويعاتها مثْل quot;ماشاف ماراquot;لفرقة العرْض الحُرّ، وquot;أنا وجُولييتquot; لفرْقة بصمات الفنّ القادمة من مدينة أغادير، جنوب المغرب.

3.
للإشارة فإنّ هذه الفرق المشاركة في المهرجان الوطني كانتْ قد اسْتفادتْ من الدّعم المسْرحيّ الّذي ترعاه وزارة الثّقافة المغْربيّة في كلّ موْسم من السّنة بعْد أنْ وضعتْ برْنامجه منذ عام 1998، وإنْ كانتْ هناك من الفرق التّي شملها الدّعْم لمْ تشارك، وأخرى لا هي اسْتفادتْ ولا هي شاركتْ رغم تاريخها ورصيدها الفنّي لأسْباب سياسيّة وحسابات شخْصيّة ناتجة عن الصراع الحادّ الدّائر بيْن أوساط الوزارة المذكورة وجمعيّات نقابيّة وائتلافيّة تردّدت أصْداؤه في الصحف المغربيّة، وهو ما لا يخدم الحركة المسرحيّة بالمغرب، الّتي يعوّل عليْها المهْتمّون في الرّفْع من مستوى الذّائقة الفنّيّة، والتّعبير عن قضايا الواقع، وتقريبها من التمثيل الجماعيّ، في ظلّ انْحسار تعبيرات أخْرى، وتراجع مهول في الإهتمام بالْكتاب الثّقافي بيْن شرائح عريضةٍ من المُجْتمع.
*شاعر وناقد من المغرب .