في مطلع القرن العشرين والعقود التي تلته،تغيرت الحساسية والذائقية الفنية، فقد طرأ تبدل في عقلية الملقي والمتلقي وفقاً لتطور الفكر الانساني وأبداعات العاملين في مجال العلوم والفكر والفنون،حيث شمل الانقلاب في موضوع العمل الفني وقصده وهدفه العام، وهذا التبدل الشامل في المنظور الفني ولَدَ حركات وأتجاهات معاصرة ليست بالقليلة، حيث وجد الدارسون والمختصون في مجال الادب والفن عجز المذاهب والاتجاهات السائدة في الاجابة على اسئلة العصر، ففي الرومانسية، المبالغة في تصوير المشاعر وعجز

من مسرحية البدوي تأليف وأخراج عقيل مهدي في نيسان 2006
ل المشاكل التي تواجه الانسان، وفي الواقعية أهمالها الفكر الانساني واستفزاز ذهنية المتلقي وأكتفائها بأستنساخ الوقائع اليقينية ومغالاتها في الاعتداد بالواقع المحسوس وبالظواهر الطبيعية والنفسية للانسان،ومن ثم صُعِقَ الدارسين والفنانين بالحروب العالمية حيث خيبت امالهم،وكرد فعل جاء المسرح الوجودي الذي حاول اظهار التناقض بين القيم والمبادئ والواقع المرير، وسرعان ما أفَلَ امام مسرح جديد أتخذ ايديلوجيا مسرح الوجودي ليسمي نفسه مسرح العبث واللامعقول. وجد بعض المفكرون في مجال الادب والفن، عجز المذهب السريالي عن تسليط الضوء على السلوك الانساني وتفسيره، ومن ثم إمكانية السيطرة عليه حتى أخذوا برفع راية الفلسفية الوجودية وجعلوا مفاهيمها تسير دفة الادب والفن بعد ان كانت مجرد افكار فلسفية بحتة يؤمن بها نفر قليل من الفلاسفة ورجال الفكر، امثال: البير كامو و جان بول سارتر.

نشأت الفلسفية الوجودية من ذرات الشك في القيم والمبادئ الانسانية والتمرد عليها ففي أسطورة (سيزيف) ل(البير كامو) ظهر موقف الانسان المعاصر من عالم انتفت منه كل المعايير، حتى أخذ الانسان يعيش العزلة والاحساس بالغربة، وأخذ يتقوقع في عالم اشبه بالمنفي الذي لا مفرَ منه فقدَ فيه الانسان ادواته ولا يقوى حتى على الامل، وفي ذلك أظهرت الوجودية التناقض بين الانسان ومجتمعه، وأنبثق المسرح الوجودي من اعمال جان بول ساتر: الذباب، الحلقة المفرغة، المومس الفاضلة، موتى بلا قبور، ومسرحيات البير كامو: كاليجولا، سوء تفاهم، حالة حصار، كلها تقدم موقف الانسان من لامنطقية الوضع الانساني وعبثية حياة الانسان وخوائها وعدميتهِ، الا ان ذلك في المضمون العام، بينما أ تخذ الشكل الفني عندهم بمنطقية الطرح، والحوار والشخصيات تنطق بعبارات سلسلة تقرع الحجة بالحجة، انتهل كتاب العبث واللامعقول هذه المضامين التي روجوا لها فيما بعد والتي تمثل عبثية الوجود وخوائهِ وتجميد قوالب العادات والقوانين وكذلك عجز اللغة عن الاتصال بالعالم الخارجي لذا يبقى في عزله عنه، وكذلك ليس ثمة طبيعة انسانية، فالانسان يوجد بافعاله ولا توجد طبائع ثابتة انما يوجد الانسان في موقف معين.
لذا اخذ مسرح العبث بعكس واقع الانسان الاجتماعي المؤلم وفرديته وانعزاليتهِ. ظهر مسرح اللامعقول (العبث) كأتجاه جديد يسعى الى التجديد والتخلص من العالم البرجوازي ومن قيود المذهب الواقعي والطبيعي ومن الحضارة الآلية الجديدة محاولة وضع تفسير جديد للأنسان المعاصر وانتشالهِ من تفسخ الانظمة والقوانين التي تربطه به صلات متعددة، وكتب (مارتن اسلن) في كتابه (تعريف مسرح العبث) ذاكراً بان ظاهرة مثل مسرح العبث لا تعكس اليأس والرجوع الى قوى سوداوية غير عقلانية ولكنها تفسر محاولة الانسان المعاصر للتواصل الى عرى ترابط بينه وبين عالمهُ الذي يعيش فيه، بينما يعرفها المفكر المسرحي (ادوارد البي) بأنها محاولات الانسان لأن يجد لنفسهِ وهو في مكان لا معنى له في عالم لا قيمة له لأن المبادئ الاخلاقية والدينية والسياسية والجتماعية التي شيدها لينقض نفسه بها قد تداعت،ولذا فهو لا يتجرد من العقلانية بل انه يتجرد من القوانين العقلية المسماة بالمنطق، ولذا فهو يخضع للعقل العام واحيانا أخرى يتناول الحقيقة بأسلوب المزج بين المعقول واللامعقول وبتماسك سبل الايحاء وسبل الادراك، فهو يهدف الى إعادة الثقة بالانسان ونقده الى الانفاق والآلية التي تحيط الانسان المعاصر وتحجيم الواقع الموضوع الذي يحاول ان يسخر من عبثية الحياة المزيفة، حيث ان مسرح العبث حركة قامت انعكاسا عن واقع معين، ولذلك فأن بقائه مشروط بوجود المبرر الموضوعي له، والعبثية المزعومة وغياب المعنى الحقيقي للواقع الآلي المتكرر ومعنى الوضعية البشرية الذي يتغلف بالإحساس بالعزلة، هذا المبرر الموضوعي جعل كتاب مسرح اللامعقول من امثال: بيكيت ويونسكو وارتوادموف وجان جينيه وجورج شحاته وغيرهم، من ان يرفضوا الاسس الثقافية والسياسية للعالم القديم العالم البرجوازي: عالم الحروب والمنافسات الدموية واوهام المجد الكاذب وسيطرة الاشياء وشحوب الروح والعقل وانسحاق فردية الانسان في مواجهة المؤسسات القوية التي تقوم بوظائف الحكم والاستثمار وتغذية ارواح الناس وعقولهم بالخرافات أو الثقافات الكاذبة وتجنيدهم للدفاع عن مكاسب نفس المؤسسات غير الانسانية،فاخذ مسرح العبث من تقديم صورة اكثر صدقاً للواقع من خلال استخدام الصورة الشعرية لما تتسم به من غموض وتداخل الصور الجزئية وافتراض الاشياء في غير موضعها لتجرد الواقع من اطار المألوف بأستعمالهم اسلوب التهكم والسخرية، كونه موقفاً اخلاقياً معبراً عنه بالتمرد مستعينا بالحلم الذي هو أحد اساليب اللامعقول للنزول الى اعماق النفس البشرية، واتخاذهم للحلم كونه يُبنى بغرائبية خاصة لا تخضع الى قوانين المنطق مثيراً بذك الاحساس بالقلق نحو الوجود لعكس ذات الانسان المعاصر،ومعظم الموضوعات التي يركزون عليها في مسرحياتهم كانت تتخذ من القلق أشكالا خيالية وأسطورية عند شخصيات هذا المسرح،وعادة ما تنتهي المسرحية عندما تبلغ التساؤلات الميتافيزيقية عن الانسان، الزمن والحياة والموت ذروتها، وكونهم لمحوا العجز التعبيري للأشكال الفنية والادبية التي كانت تخضع الى قوالب القيم والمفاهيم الاجتماعية لذا ركزوا اهتمامهم على الذات والخيال الانساني.
كما تخلى كتاب مسرح العبث عن الشكل الدرامي السابق لهم تخلوا عن لغة السرد الواقعي كونها وسيلة اتصال الواقع الا أنها فقدت وظيفتها وأصبحت عقيمة تعكس عزلة الانسان ومشاكله، وغالبا ما تكون لغة مسرح العبث واللامعقول متعددة المعاني وليست كلغة المسرح التقليدي أحادية المعنى، فالكلام بالنسبة للمسرح التقليدي هو تعبير محض عن مضمون، وهو يعتبر توصيلاً شفافاً لمحمول مستقل عنه، والامر على العكس بالنسبة لمسرح الطليعة، اذ الكلام مُعطى غامق لا علاقة له بمحمول، لذا فهو مكتف بذاته، أُعِد لكي يستثير المتفرج ويمارس عليه مفعولاً فيزيائياً، لقد تحولت اللغة بأختصار من وسيلة الى غاية، والغاية هي تحفيز ذهنية المتلقي واستفزاز الذاكرة، والتقنيات الأسلوبية التي لجأ اليها كتاب مسرح اللامعقول حتى تظهر اللغة متفسخة،لأنها تلجأ الى المفارقات اللفظية الآلية الى التشدق باللغة وتكرار العبارات وغموضها واحتوائها على الصمت المتكرر والتشدق باللغة محاولاً لاستثارة المتلقي وارغامه بقوة الضجيج والصخب على الارتداد الى حالة ما قبل اللغة.... ووضع الحوار وضعا معاكسا للحركة الحادثة في المشهد أحيانا،وباحتوائها على فضاء متعدد المعاني من خلال توظيف عدة اساليب مثيرة للدهشة والتأمل، كالأداء الصامت والتكوين الصوتي والحركات الدالة والسكنات والتكرار والغموض،ومن وجهة نظر (رون بارت) فأن اشكال تحطيم اللغة، الاولى في تبريرهم للكلمة بعد أفراغها من كل معنى وكأنها نابعة من توليد ميكانيكي،أما الشكل الثاني فيكمن التعبير عنه، بأن النطق لا يؤسس كينونة الانسان وفي الشكل الثالث يتلخص في المحافظة على منطقية التركيب اللغوية والقواعد وفي نفس الوقت تفتيت منطقية المعنى.
ومثلما تَخلوا عن لغة السرد في الدراما التقليدية كذلك سعوا الى رسم الشخصيات مجردة من الابعاد المعروفة، فهم بذلك تخَلوا عن (الانسان النموذج) البطل، وعن القيم الثابتة والاخلاق والطباع، والاكتفاء بتصور (شخص) لا شخصية له، يواجه موقفاً معارضاً، لا يعيش أي (زمن) لأن مفهوم (الزمن) اذا ارتبط بشخصيات يقتضي التسليم بوجود (تاريخ) ومستقبل مليء بالتوقعات التي يمكن بالمنطق والعلم التنبؤ بها، ومن ذلك تدور معظم الشخصيات العبثية في دائرة مفرغة ولا تتطور إلا عن طريق تكثيف الموقف الدرامي، وهي غالبا ما تتسم بالروح التشاؤمية وبالقلق الروحي والانغلاق الذاتي.
فآلية التمثيل لمثل هذه الشخصات تنحاز الى التهويل بصفة عامة دافعة بكل شيء الى حد من الهوس يكمن فيها اصل المأساة فيندمج المتفرج بقوة الفن في العمل الخيالي، الذي تدور أحداثه أمامه رغم أنه إذا استفتى عقله لقال له أن ما يجري أمامه لا معقول، ولكن ما يشد المتلقي هو خلق جو متصل مع الصالة، والشخصيات تكون مجازية مستعارة اكثر منها كائنات حية وأسلوب تجسيد هذه الشخصيات على خشبة المسرح تقدم بشكل تراجيكوميدي في آن واحد، وشخصية الممثل تصبح امتداداً لميكانيكية جسده لتتحقق من أفتراضات قائمة في التندر المأساوي- أو الضحك الاسود القائم لإنسان هذا العصر، فالممثل يقوم بخلق عالم مفترض يتصف بالاغتراب، وأن اغترابه هذا هو عبارة عن منفى عضال يعيش فيه مجرداً من ذكرياته...ان هذا الطلاق بين الانسان وحياته وبين الممثل ومكان وزمان مشهده، يولد الشعور بالعبث،ومحاولاً خلق انعكاس بين الفعل والصورة وربما بين الحوار والحركة، ويظهر قانون الانعكاس هذا هو الذي يحكم نظرية الممثل في مسرح الطلليعة، فالممثل يمكنه ان يكون كل شيء إلا طبيعياً، يمكنه ان يكون سلبياً كجثة أو مملوكاً كالمسحور فينسجم الأداء من حيث كونه خلقاً إبداعياً خاصا يتحرر من الانتماءات الاجتماعية وتشييد عالم مستقل بمنطقه وتماسكه الداخلي.
أما الشكل الفني والتقني للمسرح العبثي، فهو يدين في تقنيته الى التمثيل الصامت وأدب الأحلام والمسرح الرمزي، إلا انه من خلال التجديد بقطع صلته بأغلب المعايير السائدة منها: الحبكة والحدث والزمان والمكان والدراسة النفسية رغم أنه في جانب معين ظلت الاشكال والوسائل للمنظور المسرحي تقليدية نوعا ما، إلا أن الحبكة وأزمة الحدث تسير بخط دائري تبدأ من حيث تنتهي والتسلسل المنطقي للأحداث يتآكل فتصبح صورة تتركز على قوة الايحاء دون أن نلمح حلا في الازمة، وغالباً ما تكون مفتوحة وأحيانا تكون كما هي ومن ثم أنه لا يسعى الى بث الترقب في قلب المتفرج ذلك الترقب الذي ينبثق من الآتيان بحل موقف لمشكلة اجتماعية،أن المتفرج في مسرح اللامعقول يواجه بحركات يعوزها التقليل وبشخصيات في تقلب مستمر وعلى ذلك فأن الترقب في مسرح اللامعقول ينحصر في أنتظار الاكتمال التدريجي للصورة الشعرية. وعندما تتجمع خيوط هذه الصورة وذلك عند إسدال الستار النهائي يمكن للمتفرج أن يبدأ في سبر أغوار العمل الذي يقدم له،لأن المتلقي في مسرح اللامعقول يتصل بمنظومة معلومات متعددة المعاني، كون المسرح العبثي يهتم بالأصوات والصرخات والاغاني ونبرات الصوت والحركات والاشياء الخاصة..اشياء عندهم تغزو المكان... ولا يتخذ من الواقعية مبدأ ينطلق منه العرض.
من الوسائل الفنية المستخدمة للتعبير عن العناصر المرئية الملموسة للإيحاء باتجاه ميتافيريقي، المنظور على خشبة المسرح، قصِد به ان يعبر عن شيء من الديكور، الشجرة في(في أنتظار غودو) والنافذتين في (لعبة النهاية) والابواب الكثيرة في (الكراسي) والساعة غير ذات العقارب في (التقليد الساخر) الى الملابس والقبعات والأحذية في (في أنتظار غودو) والملابس الخشبية والعتيقة الطراز، وأيضاً الاضواء والظلال كلها تعمل على خلق جو ملائم لموضوع المسرحية، فالمكان في مسرح العبث هو الأخر يتسم بالسوداوية والضيق والمحدودية والضبابية ففي (في أنتظار كودو) أتسم بحدود ضيقة جداً متمثلة بالشجرة، وفي مسرحية (الغرفة) بضيق الغرفة نفسها وعادةً ما تكون مظلمة وموحشة او باردة ورطبة، وقد ينحصر المكان في كرسي فقط، كما في مسرحية (الكرسي)، واحياناً يكون المكان في مسرح العبث غير محدود الملامح، وكذلك عنصر (الزمن) عندهم غير ذو أهمية او غير واضح الملامح.
وعُدَ الايرلندي (صموئيل بيكيت 1906-1989) من رواد مسرح العبث واللامعقول لما يمتاز بإثارة الخيال وبلغة درامية اتصفت بتكرار المفردات وفقدان المنطقية في العلاقة بين السؤال والجواب وأستعمال الأصوات ذات المعنى والإكثار من استعمال الصمت، بل أن الشك في قدرة الكلمة على التعبير قد جعل بكيت يستعيض عن بعض الكلمات بالبنتوميم، او الحركة الصامتة، ويعتمد بكيت على روئ العقل الباطن ومنطقية الحلم وامتازت شخصياته بالروح السوداوية والتشاؤمية وبخلق جو جنائزي بائس كثيراً ما تتخلله لحظات طويلة من الصمت، وكون الشخصيات أغلبها من المتشردين والتعساء كما تخلو مسرحيات بيكيت من الأزمة الدرامية التي ينتظر المتفرج إنفراجها، ومن مسرحياته (في أنتظار كودو 1952م)، (لعبة النهاية 1957م)، (الشريط الاخير 1958م) و (الايام السعيدة 1961م) ومن رواد مسرح العبث واللامعقول يوجين يونسكو (1912 -1969)الذي كانت موضوعات مسرحياته تتسم بعزلة الانسان وانهيار أسس التفكير البشري، وبلغت لغته الدرامية أحيانا حدود اللامعنى فهي تتكون من التناقض اللغوي وتكرار المفردات، وتتحول شخصياته الى الآت خاوية، ومن مسرحياته (المغنية الصلعاء - 1948م)، (الدرس - 1951م) و (قاتل بلا أجر 1959 م).
ومن الكتاب الآخرين (جان جينيه) (1910- 1972م) والذي امتاز أسلوبه بكشف عناصر الزيف والتصنع وإثارة موضوعات الشذوذ الجنسي ومن مسرحياته (الخادمتان - 1974م)، الشُرفة - 1965م) و (السود - 1959م). وكذلك الكاتب الروسي ارتوادموف (1908- 1970م) الذي تحول فيما بعد الى الالتزام بالمسرح السياسي والأجتماعي ومسرحياته في مسرح العبث واللامعقول لا تقود طبيعتها الدرامية الى أية لحظة حاسمة وشخصياته التي تتحول الى رموز يرمز اليها بالحروف أحياناً او بأسماء الجنس مث: الأم، الأخت.... الخ ومن مسرحياته (الخدعة 1947 م)، (الغزو 1949م) وغيرهم.... ومن الكتاب الآخرين البناني (جورج شحاته) الذي كتب (السيد بولو 1951م) و (غصة فاسكو -1956م) وآخرين أمثال اودبيرتي، تارديو وفوتييه.
لقد كان للمخرجين أمثال (جان لوي باروة)، (جان فيلار)ا، (روجيه بلان) و (جان ماري سيروه) الفضل في أنتشار أسماء (بيكيت، يونسكو، ارتوادموف، وجان جينيه).

[email protected]

هذه الصور