مسرحية quot;كما لو ان بيروت لم تكنquot; خطاب الحرب برؤية الجمال


عصام حسين مالمو (السويد): مرة أخرى تؤكد بيروت على بقائها رغم ما أنهال عليها من نيران الحرب، فعلى أحدى قاعات العرض المسرحي في مدينة مالمو السويدية، يجسد المخرج العراقي الدكتور حسين ألانصـــاري حضورها عبر مسرحيته الجديدة quot;كما لوان بيروت لم تكنquot; التي قدمتها فرقة فـرات المسرحيـة متنقلا ً بأختيارته الموفقة بين صـوت فيروزو سقوط القنابل وحب يوسف لمدينته التي غادرهــا ذات يوم ليعود أليها مع عائلته المتكونه من زوجته السويديه ـ آن ـ وطفلتهم ـ سابينا ـ لقضـــاءأجازتهم الصيفية تدفعه رغبته لحضور حفلة فيروز و حنينه الى اماكن شبابه وملتقى ذكرياته في الروشة واشتورا وبعلبك، فـبيروت مدينة يوسف التي عشق نهاراتها ولياليها.، أفراحها وأحزانها. إلا أن يوسف وعائلته يتفاجئون بالحرب التي بدأت عليها ودمرت اجمل ما فيها، وفي أحدى المرات وبينما كانت ـ سابينا ـ مع جدتها خارج الشقة تنقض الطائرات على جسد بيروت فيضطر يوسف وآن الاحتماء بالملجـأ تحت العمارة بينما تستمر القنابل الساقطة على احياء المدينة، الام والاب يزداد قلقهما حول وضع سابينا تحت هذه الظروف يحاول يوسف الاتصال لكن الخط سرعان ما ينقطع ولا يعرف اية اخبار عنها، لكنه يخفي هذه الحقيقة عن زوجته ويطمئنها انها بخير وينبغي ان لاتقلق بشأنها.

يبدأ العرض المسرحي مع اصوات من شوارع بيروت سرعان ما تتداخل مع كلمات المذيعة التي تعلن للمستمعين عن عودة فيروز لتحي اليوم حفلتها في بعلبك بعد انقطاع عشر سنوات ثم ينطلق صوت فيروز بعذوبته وجماله ولكن الغناء يتوقف ويعلو صوت الطائرات ليتبعه قصف شديد هز اركان المدينة، يوسف وأن ينزلان بسرعة من اعلى الصالة في اشارة اخراجية بأنها يقيمان في احدى طوابقها المخرج حسين الانصاري اختارالملجأ كمكان للواقعة، وبذكاء المتمرس في استقطاب المتفرج وشد انتباهه وضع المخرج الازمة شاخصة امام المتفرج منذ الوهلة الاولى بل واكثر من ذلك نجح في وضع المتفرج داخل اطار الازمة حاشرا أياهم في الملجأ مع ان ويوسف ليعيشوا الماساة سوية. وبمتوالية عكسية تبدأ من ماهو اعلى (الازمة) وتتعاقب تدريجيا ً مابين التوتر والانفراج وصولا الى النهاية التي تشير الى بيروت كوجود، تتجلى قدرة المخرج بوضوح بقدرته في التلاعب بعواطف المتفرج من خلال الانتقالات المكانية والزمانية عبر ذاكرة الشخصيات، فالتازم يعقبه مشهد كوميدي والمشهد الكوميدي يعقبه اصوات قصف بعيد لتذكرُنا دائما بحضور الازمة، حتى يجد المتفرج نفسه امام تعددية مشهدية تجسد الازمة بشكلها الحقيقي وقد ابدع الممثل كريم رشيد وبتناغم عال ٍ مع الممثلة تريسا ليندبري في تجسيد تلك التعددية المشهدية.

من المسرحية
لم يكن الملجأ ملاذا ليوسف وآن لدرأ حمم النيران التي أنهالت على بيروت فحسب، بل كانت الحقيقة التي تجردوا أمامها لتكشف بجلاء ذواتهم تجاه بعضهم البعض، فبعد علاقة زوجية دامت ستت عشر عاما أثمرت عن طفلة، يكتشف يوسف المهاجر الى بلد آن انه سيبقى غريبا مهما طال أمد بقائه هناك ومهما أستمرت العلاقة، وستبقى ـ آن ـ تلك الفتاة السويدية التي تنظرالى يوسف كغريب، فيتحول الملجأ الى حلبة صراع وتبادل أتهامات فبين هجوم يوسف ودفاع آن وبين هجوم آن ودفاع يوسف يكتشف المتلقي أن ّ الازمة الحقيقية لاتكمن في البحث عن منفذ للخلاص في ملجأ أًغلقت أبوابة بفعل الدمار الذي أحدثه سقوط القنابل، بل الازمة الحقيقية هي في تساؤلات يوسف عن حقيقة وجوده كإنسان في حياة آن من جهة وطبيعة علاقته بالمجتمع السويدي من جهة أخرى، للحد الذي يتصور معه المرء أن يوسف ومن خلال أتهاماته المتكررة لـ ـ آن ـ قد تواطئ مع الحرب لعقاب ـ آن ـ التي جاءت الى بيروت يدفعها فضولها لزيارتها والتمتع بشواطئها واثارها، وفي خضم هذا الصراع أصبح البحث عن منفذ لملجأ مغلق أمر ثانوي مقابل الأمر الذي يُخرج يوسف وآن منتصرين من تأزم العلاقة.

تمكن الدكتور حسين الانصاري كمخرج من تجسيد فضاءه الرؤيوي بأسلوب مواز ٍ لشكلانية النص الواقعية، فأطرَ الدلالة المسرحية بحدود أكتفائها بذاتها واضعا أياها في محيطها الواقعي بعيدا عن الانشغالات التأويلية خاصة اذا ما عرفنا أن المخرج قد وضع المتلقي ومنذ اللحظة الاولى في قلب الازمة مما اضطره ـ اي المتفرج ـ الى متابعة الحدث بأهتمام بالغ لمعرفة مصير الشخصيات دون الأنشغال بالمفردات الأخرى التي أصبح حضورها مكملا لبناء المشهدية، ومن خلال تعطيل فعالية العلامة التأويلة ارادالمخرج أن يضع الموت شاخصا أمام المتلقي لتاخذ الدلالة شكلا احادي المعنى ينصّب ُ في تحديد فضاء المتلقي بأتجاه الكارثة، مما أدى إلى أنْْ تكتفي الصورة المسرحية بالتقاط اللحظة الراهنة التي تعيشها الشخصيات دون التمادي اوالأسهاب بأنماط صورية اخرى، فتمكن المخرج بذلك من حبس أنفاس المتلقي والتحكم به واضعا أياه بين الأزمة كواقعة وبين الذاكرة كأنفراج.
ووفق المخرج في توظيف السينوغرافيا التي صممها الفنان السويدي ستيفان ايركسون والموثرات الصوتية والموسيقى التي أختارها مانويل كوكشا لخدمة العرض فكان للفضاء الضيق الذي حدد ملامح العرض تأثيرا ً واضحا ً بأستفزاز حواس المتلقي وأثارتها ضد الحرب، في الوقت الذي كانت فيه الموسيقى تـُذكر وبأستمرار على وجود بيروت في الجانب الأخر فلا أزيز الطائرات ولا سقوط القنابل يستطيع ان يُصمت صوت فيروز أو اجراس الكنائس او صوت الاذان.

أجتهد المخرج ايضا على أستثمار الترات العربي والسويدي وتوظيفة في العرض ليدفع بخطابة الإنساني الى المتلقي محاولا ً ألغاء الحدود التي تجعل من الأندماج مسألة صعبة، فجاءت الرقصات ـ الميجنه ـ الدبكة اللبنانية والسالسا الاسبانية والحوارات التي أختلطتْ فيها اللغات العربية والسويدية والانجليزية وكذلك قصائد ادورد سعيد وادونيس التي كانت انعكاسا لشخصية يوسف محاولة للتقريب بين كل ماهو إنساني والتأكيد على كونية الإنسان ايا كان هذا الإنسان وفي أي مكان، فالقنابل لاتسأل عن الهوية عند سقوطها.

يبقى الممثل في مسرحية كما لو لم تكن بيروت العلامة المتميزة فقد أجتهد المخرج والممثل على حد سواء في خلق أداء متميز نجح في نقل الخطاب الفكري والبصري الى المتلقي، وقد أبدى الممثل كريم رشيد مهارة فائقة في الأنتقال من حالة الى أخرى مما ساهم في خلق المتعة عند المتلقي خاصة في المشاهد الكوميدية التي أبعدته مؤقتا عن أجواء الازمة، فكان كريم رشيد مثالَ الممثل الموهوب الذي يمتلك القدرة على توظيف كل أمكانياته لصالح الشخصية اولا وفلسفة العرض ثانيا. وبنفس المستوى حققتْ الممثلة السويدية تريسا ليندبري حضورها على الخشبة حيث أظهرتْ تفوقا في الاداء في تجسيد شخصيتها وخلق تنويعات حركية وشعورية متناغمة مع كل لحظة من لحظات تطور الصراع وتأزمه
يُحسب للدكتور حسين الانصاري وفرقة ـ فرات المسرحية ـ هذا العمل فهو حرث َ في أرض ٍ وعرة، فليس َ من السهل على مخرج مغترب أنْ يحقق َحضورَه ُ ويتلمس َطريقة في فضاء مسرحي يزدحم بالنتاجات المسرحية سواء بتنوع الاساليب اوالامكانات التقنية الهائلة، إلا ّ أن ّ أصرار المخرج على العطاء والتواصل الابداعي جعله يتخطى الصعوبات التي تعترض طريقة مما أتاح له ذلك الظهور بشكل ملفت ٍ للأنتباه مدعوما بجهود فريقة الذي ساهم بنجاح العرض.