والحاجة إلى النضال اللاعنفي لتغيير الأوضاع في سوريا سلميا

أعلن عن انتحار غازي كنعان وزير الداخلية السوري في رمضان والوقت توبة وتهجد. أعلن عن مصرعه بـ 39 كلمة بعد أن خدم الرفاق 39 سنة. وقد لا يكون بكى عليه 39 صديق وصاحب. فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين.... وتراوحت الآراء عن مصرعه في ثلاث احتمالات على الأقل: بين انتحار ونحر وهرب مدبر، فلم يقتل ولم يصلب بل شبه لهم، وما قتلوه يقينا. ولكن منكر ونكير الألماني (دتليف مليس) طلب نبش الجثة واستنطاقها هل هي جثته حقا؟ وهل انتحر صدقا وعدلا؟ فلم تنته القضية مع قتله على ما يبدو. وسواء انتحر أو نحر أو هرب فلا فرق كبير في عالم الثقافة، والفرق هائل في علم السياسة، كالفرق بين كذب السياسيين ونزاهة العلماء.
ومصرع كنعان في بعده الإنساني يحكي مأساة ثقافة متورطة في العنف فلا ترى سوى الغدارة والخنجر أسلوبا لتسوية المشاكل على طريقة شيخ الجبل سنان والحشاشين.
ولو ولد كنعان في ليون في فرنسا، أو هانوفر في ألمانيا لمات بمرض الشيخوخة، ولكن حظه كان سيئا فولد في مجتمع يفيض بالكراهية مشبع بالغدر، كما يتكاثر البعوض في المستنقعات الراكدة.
ومن نظر إلى المسألة من زاوية علم النفس التحليلي رثى لحالة كنعان فهو سلسل ثقافة مريضة، ومن ناصبه الانتقام وظف الآية القرآنية بالشماتة في موته فقال "ويشف صدور قوم مؤمنين"؛ كما اتصل بي أحدهم فرحا بالخبر. وصدم بتعليقي فأنا لا أفرح بموت أحد أو قتله أو اغتياله بل أحزن على اغتيال وانتحار ثقافة بكاملها.
والقرآن لم يتنزل للحقد بل لإزالة الحقد؛ وأهل الجنة ينزع من صدورهم الغل إخوانا على سرر متقابلين. فمن أراد أن يكون مهيئا لدخول الجنة فليغتسل من أدران الأحقاد والجريمة، وذروا ظاهر الإثم وباطنه..
وكنعان ولد عام 1942 م تماما في نفس السنة التي ولدت فيها زوجتي داعية اللاعنف (ليلى سعيد) ومات الاثنان بفارق شهر عن عمر 63 سنة، فأما ليلى سعيد فماتت في قمة لياقتها البدنية، مثل وردة البقوسيا التي تعيش يوما، وكتبت في وصيتها أنها جاهزة للموت وليس هناك ما يعرقل رحلتها إلى الله، وكل ما أرادته في بناتها الخمس إن لا يمارس عليهن أي تحكم بل يعاملن بالإقناع والحوار. فهي كانت ترى فلسفة الزواج مقعدة على أربع قوائم راسخة: (الحب) المطلق بدون حدود وشروط، و(الاحترام) للإنسان من ذكر وأنثى، و(الحرية) القائمة على الثقة المتبادلة، و(السلام) الداخلي مع زوج حليم كريم. وأما كنعان فحمل في الدنيا مسدسا أشهره على الضعفاء، وفضل أن يدخل في دين الجبارين والإكراه، وقضى نحبه مثل أي صعلوك إلى دار الحق بمليارات لا يستطيع حملها، وذنوب مجتمعه، وقصور السياسة، وعجز الثقافة العربية.
وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم إلا ساء ما يزرون.
وكل من يدلف إلى الأبدية لن يحمل معه شيء سوى الذاكرة، وهنالك تبلو كل نفس ما أسلفت، وردوا إلى الله مولاهم الحق، إلا له الحكم وهو أسرع الحاسبين.
ولو خاطبنا ليلى سعيد وهي ترانا لقالت يا أحبائي لا تخافوا علي وسوف أفرح بلقائكم فقد وجدت ما وعد ربي حقا. وأما كنعان فهو على الأعراف ينادون رجالا.. ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون...
وهناك من أصر على أن كنعان قتل ولم ينتحر، ولا فرق كبير، فالقتل عادة عربية ولم نسمع عن عرب منتحرين، كما فعل الإيديولوجي هتلر فانتحر مضاعفا بالسم والرصاص وحرقا بالنار فلم يعثروا له على أثر، ولم يفعل ذلك الانتهازي موسوليني وصدام؛ فأما الأول فعلق من كعبيه مثل الخاروف في المسلخ البلدي مع عشيقته كلارا ميتاتشي، وأما صدام فاصطيد من مجرور تحت الأرض. ويصدق في الجبارين "لتجدنهم أحرص الناس على حياة" واستخدم القرآن كلمة (حياة) نكرة فلم يعرفها بإدخال الألف عليها (الحياة) لتعني الرضا بأي لون من الحياة، ولو كانت ممزوجة بالذل مغموسة بالمهانة. والثقافة المدموغة بالعنف لا يختلف فيها القاتل عن المقتول إلا نقيرا. وهي مٍسألة من سبق إلى الفعل.
ويجب أن نحترم الموت لأي كان فنقول كما قال عيسى أمام السؤال الإلهي عن ارتكاب أعظم الذنوب: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
كنت في طريقي إلى العيادة حينما قابلني الطبيب الحمصي الأشيب هل سمعت الخبر؟ لقد انتحر غازي كنعان وزير الداخلية السوري قبل نصف ساعة.. تابع بفرح وشماتة يبدو أنهم يتساقطون؟
بعد أقل من نصف ساعة اتصل آخر فرح بالخبر، ولكنه فوجيء بتعليقي أنني لا أفرح بموت أحد يقتل أو ينحر أو ينتحر.
أجاب صاحبي وهو يوظف الآية القرآنية ألم يقل الله "ويشف صدور قوم مؤمنين" .. قلت له قناعتي راسخة بالعدل الإلهي يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء يود أن لو بينها وبينه أمدا بعيدا، ولكن ما أحزن عليه هو عجز الثقافة العربية والأنظمة السياسية أن لا تحل المشاكل إلا بهذه الطريقة. وهي تحكي عمق الأزمة البنيوية في العقل العربي الذي يعبد (القوة)، فهو إما بيد صدام وكنعان، وإما بيد الأمريكيين ويرجف من ملك الموت الألماني دتليف مليس.
قد يكون الرجل مستودع أسرار؟ وقد يكون كبشا يضحى به؟ وقد يكون وقد يكون؛ فــ (قد يكون) كثيرة في حسابات السياسيين، ولكن في ظل الموت تتهمش كل القضايا، وكما يقول الفلاسفة اثنان لا يمكن التحديق فيهما: الموت والشمس. وكفى بالموت واعظاً.
إن البشر يغفلون عن حقيقة الموت حتى يكشف الغطاء فبصرنا حديد، ونعيش حتى ننسى الموت ثم نصدم به فنخسر العزيز فنزلزل، وندرك كم الحياة هشة رقيقة ضعيفة، وقتل الناس في الزمن الكوني عبث فكل الأموات يدلفون إلى الأبدية في ومضة، والفرق بين موت القاتل والمقتول لحظة، وقتل الإنسان سهل، فقد خلق سريع العطب من صلصال كالفخار، ولكن الثقافة الإجرامية تحرص على التعجيل بروح الناس قتلا وسفكا للدماء...
إن أعظم مسألة وجودية افتتحت بعد إعلان خلق الإنسان اعتراض الملائكة على جدوى خلق الإنسان أنه يسفك الدماء.
إن من يتصور هذه النهاية الأسيفة للرجل يحضره أنه لو له قال قائل: أن يا كنعان سوف تنتهي حياتك على هذه الصورة، وعندك القدرة أن تبقى في بيتك بدون وزارة وحقائب ومال ونفوذ وسلطة، وتعيش لمعنى عظيم من السلام، أظن أنه كان سيقبل بدون تردد راحة البال والتخلي عن كل هذا الزخرف الذي طوقه، فلم يحمل إلى الآخرة المليارات بل ذنوب السياسة وعيوب مجتمعه.
أليس حزينا أن نفرح بموت الناس؟ أليس أسيفا أن تنقل صورتنا إلى العالم الخارجي على صورة ناحر ومنحور ومنتحر وصدام ومصدوم؟
أي ثقافة مريضة نعيشها اليوم؟ فلا نعرف حل مشاكلنا إلا بالقتل؟ أليس بالإمكان أن ندخل مرحلة القانون؛ فلا يقتل أحد أو يدفع للهرب أو الانتحار بل (القضاء) الذي يفصل بين العباد.
إن الدماء تولد الدماء، والأحقاد تفجر الأحقاد، والكراهيات تولد نظيرها، وليس مثل الحب قوة ناعمة قاهرة، والحب مشاركة ونمو، والكراهية ارتداد على الذات وانتحار. كما في قصة الشمس والريح اللتان تبارتا في دفع رجل ملتحف بمعطف أيهما أقوى، فكان الرجل يزيد من إحكام ملابسه مع كل زمجرة ريح، حتى أرسلت الشمس خيوطها الذهبية الناعمة بالتدريج فخلع ملابسه وذهب يستحم.
فلماذا غابت عنا ثقافة الحب والسلام مع أن القرآن كله نشيد وقصيدة عن الحب ومعرفة الله واليوم الآخر.
في الواقع وأنا أكتب هذه الأسطر أشعر بالحزن من أخبار تبث عن مصارع العباد في أرض العرب: انتحار وقتل وقطع رؤوس، فإذا المذيعة اللبنانية تصبح بنصف جسم، وإذا الكاتب ينسف فيتناثر لحمه في الأفق، وأما الأقوياء من نموذج كنعان فإما قتلوا أو انتحروا، فأي بؤس وظلمات يعيشها العرب هذه الأيام.
أليس بالإمكان أن نتعامل بالرحمة؟؟ هل نزعت الرحمة من قلوبنا فعدنا إلى الجاهلية الأولى؟؟ بل وتجند الآيات القرآنية في تعميق الكراهية في الوقت الغلط للهدف الغلط في المكان الغلط للشخص الغلط كما جاء في التحدي الأرسطي.
إن كنعان مسكين اغتالته يد الثقافة المريضة على أي نحو، وهو وليد مجتمع الكراهية والفساد والحقد وعدم التسامح.
لماذا يقتل الزعبي قبل خمس سنوات ثم يلحقه كنعان وآخرون؟ لماذا لا نعرف حل المشاكل إلا بالقتل والنحر والانتحار؟؟ هل هذه فلسفة بؤس ؟ هل هي قدر إلهي أم صناعة بشرية ونتاج ثقافي؟ إن أبشع ما في الخبر فرح عدد غير قليل من الناس بالخبر في دلالة على وباء العنف والغدر والكراهية.
قالت صديقتنا العراقية لا أظنه انتحر بل قتل؟ أما الشاب القريب مني فقال ربما هرب فلا يعقل أن من يملك المليارات يقضي نحبه بهذه الطريقة فأصبح نموذجه مثل اختفاء الإمام وصلب المسيح. وأما الموظف الذي كان يسمع خبر مصرعه فقال لا أظن أن مثل هذا ينتحر، فهو كما وصفهم القرآن "ولتجدنهم أحرص على حياة"، وكذلك عثر على صدام في مجرور تحت أرضي. أما هتلر فانتحر فلم يكن فاسدا بل إيديولوجي متعصب. ونحن لم يبق عندنا سوى صنف فاسد حريص على (حياة).. أي حياة.
وسواء انتحر الرجل أو نحر أو هرب فهو خبر سيء وحزين عن وضع العرب، وعمق الأزمة البنيوية في التركيبة السياسية في مربعات العالم العربي من روح الغدر وعبادة القوة.
وخبر كنعان ليس جديدا ووحيدا ففي كل بقعة من عالم العروبة حصل نفس الشيء من طلفاح في العراق، وعامر في مصر، حتى أوفقير في المغرب، فالكل نحر أو انتحر ولا فرق كبير بين الأمرين.
في هذا العام ماتت زوجتي ليلى سعيد داعية اللاعنف وهي تفيض بالحب والسلام لكل الكائنات، فقامت ملائكة السماء باستقبال روحها الطاهرة، ومات غازي كنعان وهو من نفس مواليد العام 1942 فأصبح في دار الحق يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وتوفى كل نفس ما كسبت، وهم لا يظلمون، وهو سوف يدافع عن نفسه ولا شك، وسيقوم له القتلى بالسؤال كما في عالم الأوديسة، ولكنه سيبكي على كل الرحلة السياسية وسخافتها، وعبثية المنصب وعبادة المال والبطر والرئاء والنفوذ، كما جاء في كتاب المريض الإنجليزي عن أولئك الرجال القساة الذين يرسمون خرائط البلاد ومصائر العباد. فهل يتعظ يا ترى السياسيون؟
إن غازي كنعان يحتاج إلى رحمة ربه الآن فلندعو له الله بالغفران، وأن يتماسك للحساب فهو عبد من عباد الله، وشمس الله تشرق على الأشرار والأخيار، وهو نتاج ثقافة مريضة إجرامية، لا تفهم وتتعامل إلا بمعادلة من علاقات القوة بين المستكبرين والمستضعفين، ولو ولد في بافاريا في ألمانيا أو مونبولييه في فرنسا لما انتهت حياته السياسية على هذه الصورة. فهذا قانون إنساني...
والبلد الطيب يخرج نباته والذي خبث لا يخرج إلا نكدا.
كانت زوجتي تشهد فلم المسيح فقالت لبناتها تأملوا هذه الفقرة والمسيح يخاطب الحواريين: "فليعرفكم العالم بحب بعضكم البعض". وقام في ليلة العشاء الرباني يغسل أقدام تلاميذه.. وقال الكبير فيكم صغير...ثم قسم الخبز والماء وقالوا كلوا من هذا المائدة وكونوا شهداء بالحق في العالم.
وآخر سورة نزلت من القرآن كانت قصة العشاء الرباني ربنا انزل علينا (مائدة) من السماء تكون عيدا لنا لأولنا وآخرنا.
رحمة الله على جميع عباده ومن دلف إلى الأبدية هو في أمس الحاجة إلى رب وسعت رحمته كل شيء.
العالم العربي برمته يحتاج للتغيير مثل أي بيت عتيق متهالك فإن لم يصلحوه سقط على رؤوس الناس، والتغيير آت مثل تبدل المناخ في الطبيعة فهو قدر مقدور لا يرد، وسوريا لا تخرج عن هذه القاعدة، ومن لا يغير ما بنفسه فإن قوانين التاريخ جاهزة لتغييره. ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه.
وينفع في هذا الصدد تذكر دروس التاريخ فشاوسسكو حاكم رومانيا السابق كان في زيارة لطهران وكان إعصار التغيير يجتاح كل أوربا الشرقية؛ فبعد خرق سد برلين تدفقت الحريات مثل يأجوج ومأجوج فهم من كل حدب ينسلون. وسأله صحافي يومها عن احتمالات التغيير في رومانيا فأجاب: نعم هنالك تغيرات فيما حولنا ولكن من يجهل رومانيا يظن أن التغيير قادم إلينا، وأنا أقول لهؤلاء أن النظام في رومانيا لن يهتز وإذا أنبتت شجرة الحسك تينا فقد يتغير النظام عندنا.. كان الرجل يتحدث بوثوقية وصلابة عقائدية كعادته.. وبعد هذا الكلام بأسبوع كان شاوسسكو قد رحل عن الدنيا قتيلا ولم يعثر له على قبر.
وما حدث في رومانيا مصبوغاً بالدم لم يكن كذلك في تشيكوسلوفاكيا التي انفصلت في عملية قيصرية بدون قطرة دم واحدة. ولا في أوكرانيا، وكان أعجبها صربيا حيث تعاون الضغط العالمي الخارجي مع المظاهرات السلمية الداخلية في فك النظام وإرسال سلوبودان إلى العدالة.
وهذه الحمى انتقلت مثل نسيم الربيع العليل على مناطق شتى في العالم حتى داعبت أرز لبنان، بعد أن مضى الحريري إلى ربه وجاء ملك الموت الألماني (دتليف ميلس) فقبض روح غازي كنعان كوجبة أولى.
وهذا التغير السلمي يلف بجناحه كل العالم اليوم، ويزداد أتباع جيش اللاعنف بدون توقف وينتصرون بأيدي عارية بدون سلاح، وينهزم جيش العنفيون مع كل السلاح على مدار الكرة الأرضية.
وأذكر من كتابي (في النقد الذاتي ـ ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية) الذي نشرته قبل 23 سنة عام 1982م كيف أنني أثرت الموضوع من تبني اللاعنف وسيلة للتغيير، وفصل هذا الموضوع عن الجهاد المسلح وبكلمة أدق القتال في سبيل الله، وأن الأخير هو دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان، فهذا هو حلف الفضول العالمي الذي قال عنه رسول الرحمة لو دعيت له في الإسلام لأجبت.
أمام السوريين ثلاث نماذج على الأقل في طريقهم إلى المستقبل فليختاروا: فإما كانت العراق والفوضى حتى حين ورؤية صدام يعرض على الشاشات العالمية في عزة وشقاق، وإما مذابح راوندا والتوتسي والهوتو، وإما كانت الطريقة الحضارية على النموذج التشيكي فلم يخسر أحد وربح الجميع.. وإما رحلة إلى المجهول ..
إن الأنبياء الذين كانوا يخاطبون أقوامهم كانوا يكررون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، ونموذج النبي يونس يقول أنه رجع إليهم ورفع عنهم العذاب، فلا يشترط في القدر السوري أن يكون حافلا بالدماء مثل المصير العراقي، وربما كانت سيكولوجية الشعبين متباينة على الطريقة التي شرحها عالم الاجتماع العراقي الوردي.
أقول هذا الكلام وربما نُبش قبر كنعان على يد ملك الموت الألماني ميلس، وربما خرج تقريره مع هذه المقالة، بإدانة أو براءة، أو تلفيقة سياسية، كل هذا ليس مهما وليست المشكلة هنا، ولكن المشكلة أن سوريا تعيش وضع النظام الشمولي، الذي انتهت صلاحيته مثل المعلبات منذ أيام ستالين وبريجينيف، ومن لم يغير نفسه فإن قوانين التاريخ كفيلة بذلك. كان ذلك في الكتاب مسطورا.
إن كل المؤشرات تقول بحدوث التغيير مثل اخضرار الطبيعة وتفتح البراعم في الشجر وظهور الزهور وشقائق النعمان في الجولان وطيران النحل، فالقنوات الفضائية تنقل، والناس تجرأت على الحديث وينكسر حاجز الخوف والصمت كل يوم في مؤشر صحي، وليس المهم أن نتكلم فاحشاً من القول وزورا ونفرغ شحنة الكراهية التي في صدورنا، بل أن نقول القول المسئول بكل حب وحرص كما كان يقول الأنبياء لأقوامهم: يا قوم إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم.
وما يحتاجه المجتمع السوري هو الحب الذي يبني ويرمم فليس مثل الحب قوة قاهرة ناعمة كما يقول ذلك ابن حزم الأندلسي في كتابه طوق الحمامة في الألف والإيلاف فالحب قوة تدمج كل حبيبات الكون وتتجمع كل الجزيئات دون الذرية.
ومن الضروري على السوريين الاتعاظ بنماذج التاريخ، وشق طريق سلمي للمستقبل فهو خير وأبقى، ويبدو أن الجو تخمر ما فيه الكفاية عند كل الأطراف لهذا التغير، فلا يستأثر بالأمر فريق دون غيره، والمعارضة في سوريا بسبب الكساح الطويل والاضطهاد المعمق المتلاحق هي حاليا مثل الكسيح الذي يتعلم المشي أو المصاب بسكتة دماغية فهو يتمرن على النطق، فيتاتأ ويتعثر في المشي.
وعدم نضج المعارضة يحمل خطرا على التغيير السريع المفاجيء مثل المشلول الذي يريد ممارسة الجمباز ويدخل مباريات الأولمبياد، والتاريخ يعمل وفق قوانينه، ولينين فوجيء باندلاع ثورة بطرسبورغ، وموت عشيقته الفرنسية عجل بموته ووقوع تفاحة السلطة في يد رجل لا يرقب في أحد إلا ولاذمة فأدخل روسيا في نفق طال سبعين سنة، وسوريا دخلت نفقا دام أربعين سنة فتراجعت عن المركبة العالمية أربعين سنة، ودراسات باول كيندي في كتابه التحضير للقرن الواحد والعشرين تظهر ارتفاع دخل الفرد في كوريا الشمالية 13 ضعفا في ثلاثين عاما، وبقاء ذلك للفرد الغاني في حدود 300 دولار لم يتزحزح في ثلاثين سنة، وهي النكبة العارمة التي أصابت السوريين أيضا، يعرف ذلك السوريون من دخل الفرد في الستينات والآن من القوة الشرائية لكيلو غرام الواحد من اللحم.
وعلينا نحن من يدعو إلى اللاعنف أن ندعو إلى دار السلام وليس إلى الانتقام، فدورات العنف مغلقة، ودورات الحب مفتوحة، والعنف مدمر، والحب يبني، والكراهية نفي للآخر وتسميما للذات، والحب حرص على الآخر واندماج فيه وحزن كبير على فقده.
وأنا أكتب هذه الأسطر أشعر بالحزن العميق لموت داعية اللاعنف ليلى سعيد زوجتي التي مضت إلى ربها وقلبها يفيض بالسلام والحب لكل الخلائق، وكانت تقول: هل تريد أن تتحرر من الخوف ؟ عليك إذن بالسلام. فمن امتلأ قلبه بالحب لم يعد يخاف قط، ومن آمن كانت له الأبدية، وهذه المشاعر ليست أوهاماً بل هي أعظم العواطف عند الإنسان، والعقل لا يتحرك بدون وقود، والوقود هو العواطف، وهي الدورة المخية التي كشفها جوزيف دي لو كما أشار إليها صاحب كتاب الذكاء العاطفي دانييل جولمان.
يذكر التاريخ أن الملك آشوكا (آشوكا فارذانا) اعتلى عرش الهند عام 273 قبل الميلاد كان في غاية القسوة والبطش وكانت الهند مملكة عريضة تضم كل الهند الحالية ماعدا مناطق التاميل في الجنوب بالإضافة إلى بلوشستان وأفغانستان. وكان ملكاً جباراً يحكم بالحديد والنار مثل سائر الطغاة في التاريخ. ومما فعله أن بنى سجناً رهيباً شمال العاصمة أطلق عليه الناس (جحيم آشوكا). وكانت تعاليمه أن من دخله لم يخرج حياً. وفي يوم أخبره السجان أن راهباً بوذياً ألقي في القدر المغلي فلم يصب بأذى. هكذا تقول الأسطورة فهرع الإمبراطور ليطلع على أمر الراهب فوجد ذلك حقيقة. فلما أراد الانصراف منعه السجان بقوله تعليماتك يا سيدي ننفذها حرفياً فمن دخل خرج ميتاً ولن تشذ أنت عن القانون. نظر آشوكا إلى السجان بعجب وغضب ثم أمر أن يلقى في القدر المغلي فمات مسلوقاً مثل الدجاج. هكذا تقول الرواية ويجب أن نعمل الخيال حتى ننزل بالوقائع إلى عالم الحقيقة. ولكن الأساطير تحرك الخيال والشعوب وتصنع المثال؟ وتقول الرواية أن الملك رجع إلى قصره في ذلك اليوم وهو يعصر دماغه لفهم ما رأى فلم ينم ولم يخرج عليه الصبح ألا وقد انقلب على عقبيه وسيطرت عليه الرحمة للعباد. فأمر أول شيء بهدم سجن الجحيم كما فعلت الثورة الفرنسية مع سجن الباستيل. ثم أصدر أوامره بالكف عن الحرب. وبدأ في حملة بناء المدارس والمشافي بما فيها مستشفيات للحيوانات. وهكذا كفت طبول الحرب عن القرع ونطق القانون كما يقول المؤرخ الأمريكي (ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة). واعتنق مبدأ الطريق ذو الحكم أو (المراحل الثمانية) التي تقول كما جاء في كتاب (الحكماء الثلاثة) لـ (أحمد الشنتاوي) إن هذا الطريق يتألف من المراحل التالية:(الآراء القويمة والأهداف الصحيحة والقول السديد والأفعال الصالحة والمعيشة الصحية والمجهود المكافيء والذاكرة بتركيز ملائم والتأمل الباطني) وهذه المراحل تؤدي إلى التنوير الكامل. وبدأ يعيش ببساطة وبنى 48 ألف مركز ثقافي للبوذيين وأرسل اعتذارا عجيباً لقبيلة (كالنجا) عن الحرب والسلب معهم. وأعاد إليهم أراضيهم وعوضهم عن خسائرهم. وأنا أتعجب من هوليوود وسخفها في إنتاج الأفلام لماذا لا تنتج أفلاماً من هذا النوع أو كما جاء في قصة مليكة بنت أوفقير فيجمعون بين الحكمة والتاريخ والواقع وتهذيب الأخلاق والأسطورة والمغامرة. ولكن أفلام هوليوود هي نتاج ثقافة مريضة. وأمريكا اليوم مريضة كفاية وإنتاجها الأفلامي في معظمه سخف وتضيع وقت اختلط فيه العنف بالجنس والخيانة الزوجية. والمهم فالناس لم تصدق ما ترى وكيف تحول الوحش إلى ملاك؟ وفي الواقع كان آشوكا قد أنقلب جذرياً وآمن بالسلم وسيلة لحل المشاكل بين البشر وكف عن شن أية غارة أو حرب مع الجيران أو داخل بلده. وبدلاً عن ذلك بدأ بنشر تعاليم الرحمة وأوصى موظفيه أن يعاملوا الناس بالحب والمرحمة وأن يعاملوهم مثل أبناءهم. تقول الرواية أن الرجل في النهاية حصل معه كما حصل مع الإمبراطور الفيلسوف (ماركوس أوريليوس) أو قبل ألفي عام مع الفرعون المصري (إخناتون) حيث انهدم كل أثر بعده ورجعت الدولة كما كانت تمارس لعبة السيف والدم. إلى حين ولادة دولة عالمية تمسك مقادير البشر وينضج الجنس البشري ما فيه الكفاية لينعم الناس بالسلام. وأبرز ما ترك هذا الرجل الذكرى العطرة في التاريخ كما أن الفضل في نشر البوذية من سيلان إلى اليابان كانت من أثر هذا الرجل الصالح شاهداً على أثر السياسة في المذاهب. والله أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب؟
فهل تستفيد الطبقة الحاكمة في سوريا من هذا الدرس؟ فتبيض السجون وتسرح الجيوش الأمنية وتفكك الحزب القائد كما فعل بوريس يلتسين مع الحزب الشيوعي الروسي، فيصبح خلقا من خلق الله وليس الحزب القائد؟ هل تتصالح القيادة مع نفسها والمواطن؟ وتبني التعددية وتعلن موت الحزب القائد، وتفتح البلد للتعددية والعالمية والبنوك ودخول العصر وبناء طرق قياسية وتشكيل لجان (التأهيل والمصالحة) كما حصل في جنوب أفريقيا؟ هل يتم الاعتذار لأهل حماة والبكاء على ضحايا تدمر فيرفع نصب كبير بأسماء عشرات الآلاف من الذين قضوا نحبهم هناك في عمق الصحراء لم يشهد على عذابهم ومعاناتهم إلا غربان السماء، ويكتب تحت النصب كما كتبت بلدية هيروشيما عن ضحايا القنبلة النووية: لن نعيد هذا الشر أبدا.. أو كما يردد الجيل الألماني الجديد: لن تنطلق حرب جديدة من الأرض الألمانية مطلقا. هل يشكل برلمان فعلي وتعددية سياسية فعلية ويقسم الجميع أن لاعنف .. لاعنف بعد اليوم بل الحب والمصالحة واحترام الإنسان والأرض والمراة والحيوان والوقت والعلم ..
وفي كل هذا خير للجميع ولن يخسر أحد شيئا إلا سموم السلطة والمحسوبية والفساد والرشوة وما يتم لها بنسب، ولا ينكل بأحد ولا نسمع عن أحد قتل أو انتحر أو نحر.. ويدخل البلد في ظل القانون أخيرا بعد هذه الأوديسة السيئة لمدة أربعين سنة مثل تيه بني إسرائيل..
هل تتجرأ القيادة السورية أن تكسب التاريخ فيسجل اسمها في الخالدين ؟؟
إن هذا الكلام ليس طوباوياً، بل ضرورة، وهو تغير قادم مثل حقيقة الشمس والقمر والموت، ومن لايتغير هو الموت فقط، لأن الحياة مبنية على التغير وهي الفكرة المحورية في البوذية عن الصيرورة، فالحياة تدفق مستمر وتحول دائم وانتقال متواصل من حال إلى حال وكل يوم هو في شان فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام..