لم تبلغ البشرية عبر تاريخها الطويل، ما بلغته في الآونة الأخيرة من الارتفاع الكبير في عدد السكان، رغم الحروب والأوبئة التي اجتاحت العالم، والمجاعات، فالأرقام الصادرة عن المؤسسات الدولية المعنية، تشير إلى أن عدد سكان العالم بلغ 8 مليارات نسمة العام الماضي، بعدما كان يقدّر بنحو 2.5 مليار نسمة قبل سبعين عاماً.

هذا الرقم ربما لا يمثل عامل ضغط، إن أُحسن استغلاله، من خلال غزو الصحراء والأراضي البور، وإقامة مجتمعات عمرانية وزراعية جديدة، تمد البشرية بالطاقات اللازمة من العقول المفكرة، والأيدي العاملة الماهرة؛ ما يُسهم في القضاء على مشاكل التصحر، ويعزز استكشاف خيرات الأرض الباطنية من المعادن المختلفة، وتحويل ظاهرها إلى رئة خضراء من خلال ملايين الهكتارات الخضراء، حيث تشكل الصحاري نسبة تقارب 35% من مساحة الكرة الأرضية، لكن هذا الرقم من البشر يمثل عامل ضغط كبيراً على موارد الأرض التي باتت تضيق، بسبب الظروف المناخية كالتصحر، والهجرات الداخلية، وغيرها من العوامل الاقتصادية.

وتزداد المشكلة تعقيداً، حيث إن عدد السكان سيستمر في الازدياد، على الرغم من انخفاض المواليد في غالبية دول العالم، خاصة في الدول المتقدمة، والسبب في الزيادة السكانية تعود إلى تطور الطب، وقلة الأوبئة عن ذي قبل، وانتشار الأدوية والعلاجات على نطاق واسع؛ حيث لم تعد هناك قرية نائية في أي مكان من الكرة الأرضية، إلا ودخل إليها الطب وأساليب العلاج الحديثة، وانتشار الوعي، نظراً لانتشار التعليم في أماكن متفرقة من العالم، خاصة العالم النامي.

وتتوقع مؤسسات الإحصاء والتعداد السكاني أن يبلغ عدد سكان العالم نحو 9 مليارات إنسان عند منتصف هذا القرن. وترسم المؤسسات الدولية المعنية صورة قاتمة للمستقبل، حيث تتوقع أن يزيد عدد سكان العالم الذين يعانون الجوع عن مليار إنسان في غضون عشر سنوات، مع احتمال شديد لارتفاع هذا العدد في حال حدوث كوارث طبيعية كبيرة، أو تغيرات مناخية شديدة، أو أزمات تؤدي إلى تراجع الإنتاج الزراعي والغذائي، وانخفاض القدرة الشرائية عند السكان.

وللأسف فإن هذا الكلام يتناقض مع الأهداف الإنمائية للأمم المتحدة التي تم تبنيها من قبل الدول الأعضاء في المنظمة الدولية. وتنطلق تلك الأهداف من إعلان الأمم المتحدة للألفية الجديدة، والذي يُلزم الدول الأعضاء بمكافحة الفقر والجوع والمرض والأمية والتمييز ضد المرأة، وتم جعل عام 2030 هو عام القضاء على الجوع في العالم، غير أن وقائع العالم الآن تشير إلى صعوبة تحقيق هذا الهدف في الموعد المحدد، بل صعوبة تحقيق ذلك على الإطلاق، بسبب جائحة كورونا أولاً، وما خلّفته من تراجع اقتصادي في مختلف الدول، ومن ثم بسبب التغيرات السياسية وانقسام العالم إلى محورين متصارعين: روسيا والصين وبعض الدول المؤيدة لهما من جهة، ودول التحالف الغربي والدول الأخرى المؤيدة لها من جهة أخرى. وقد تجلى هذا الصراع والانقسام بشكل واضح في العملية العسكرية التي شنتها روسيا في أوكرانيا، والتي تحولت إلى حرب غير مباشرة بين روسيا من جهة، ومن خلفها الصين، والغرب والولايات المتحدة من جهة أخرى، وقد عمل المحوران المتصارعان على فرض العقوبات المتبادلة، ما أدى إلى تعطل سلاسل التوريد، وتدهور الاقتصاد العالمي، وتراجع الفرص، وانهيار الأسواق المالية.

فوفق تقرير لوكالة بلومبيرغ الاقتصادية، فإن أغنى 500 شخص في العالم قد خسروا ما مجموعه 1,4 تريليون دولار خلال العام الماضي، وهذا يدل دلالة قاطعة على حجم الخسائر الاقتصادية التي حدثت في عام واحد من جراء الصراع بين القطبين. ومن المتوقع أن تدخل الدول الرئيسية في الغرب والعالم في كساد اقتصادي كبير هذا العام، مع ازدياد الصراع وصعوبة العودة إلى نهج السلام.

إن ما يحدث اليوم يشبه إلى حد بعيد ما حدث قبل الحرب العالمية الثانية من كساد اقتصادي كبير، بسبب اشتداد الصراع بين الدول الكبرى المتصارعة آنذاك في أوروبا، ولم ينته ذلك الكساد إلا بانتهاء الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى ظهور قوى دولية جديدة، وبالتالي إلى حدوث تفاهمات جديدة حددت مسار النمو الاقتصادي في العالم على مدى الفترة الطويلة الماضية، لكن اليوم ورغم تصاعد زخم الحرب في أوكرانيا، وتصاعد التهديدات المتبادلة في شبه الجزيرة الكورية والصين واليابان، لكن من غير المتوقع ألّا تحدث حرب عالمية، بسبب وجود السلاح النووي لدى الدول المتصارعة.

غير أن انسداد الأفق أمام الحرب الكبرى قد يضع الدول المتصارعة أمام خيارات محدودة، فإلغاء الخصم أو تحطيم وجوده لم يعد أمراً واقعياً، بل بات الواقع يتمثل في ظهور عالم متعدد الأقطاب، لا يكون فيه الاقتصاد الأمريكي هو قاطرة الاقتصاد العالمي، بل يكون هناك دول كبرى كالصين، ومن خلفها دول البريكس، لديها توجهات اقتصادية مستقلة تستطيع أن تتعامل بعملاتها الخاصة في معاملات المقاصة مع الدول الأخرى، ما سيؤدي إلى إنهاء السيطرة الأمريكية على الاقتصاد العالمي. وبالتالي استقرار هذا الاقتصاد، وعودته إلى مواصلة النمو من جديد.