في أيار/ مايو من عام 2023 لبت ممثلة الأفلام الإباحية المعتزلة مايا خليفة دعوة جامعة أكسفورد البريطانية لإلقاء محاضرة عامة. أثارت تلك الدعوة من الجامعة المعروفة موجة عالمية من السخرية، ورأى فيها كثيرون إهانة للعلم ولاسم الجامعة. عكس ما يظهر من أن خليفة ليس لديها ما تقوله وأن تجربتها لا تستحق أن تكون موضع اهتمام أكاديمية مرموقة، فإن الحقيقة كانت أن لتلك الفتاة، التي تبلغ اليوم الحادية والثلاثين من عمرها، ما تحكيه، وما يمكنها أن تقدمه للجيل الجديد، سواء من أبناء الغرب أو للشباب من مختلف أنحاء العالم.

يتعلق درس خليفة الأهم بالتحذير من الانزلاق خلف وهم الشهرة، فالشهرة والبحث عن المال كانا الدافع، الذي سهّل على الفتاة، التي كانت قد دخلت للتو سن الرشد، الاقتناع بخوض هذا المجال سيئ السمعة. تحدثت خليفة عن شيء مهم، فمن ناحية يقوم الأمر على التراضي، وعلى موافقة المنخرطين في عالم الإباحية على كل شيء، ومن ناحية أخرى، فإن الحقيقة التي عايشتها هي أن المنزلقين لهذا الطريق ليسوا مخيرين بالكامل، بل يبدو الأمر أقرب لكونهم واقعين تحت تأثير ضغط كبير بسبب عقود الإذعان، التي يمنح فيها «الرعاة» الحق القانوني في استغلال أجساد من لا تتجاوز أعمار كثيرات منهن العشرين عاماً. هذه العقود المذلة، التي تذكر بالعقود المشابهة، التي يفرضها المتاجرون بأجساد النساء، تقيد الجميع وتجعلهم مجبرين على المتابعة في طريق لا إمكانية للرجوع منه. على سبيل المثال تذكر خليفة أنها لم تستطع الاعتراض على ارتداء الحجاب في أفلامها، ربما لم تكن الفتاة اليافعة تدرك كل خفايا وأبعاد ذلك التنميط الاستشراقي، إلا أنها كانت تعي أن ذلك يمثل إهانة لمشاعر الملايين، حتى إنها ذكرت أنها قالت للمنتجين، إن ذلك قد يشكل تهديداً لحياتها. صحيح أن خليفة لا تمتلك شهادات عليا تؤهلها لإلقاء محاضرة تقليدية لطلاب من النخبة الجامعية، إلا أنها تمتلك ما هو أهم من ذلك، وهو التجربة التي يحتاجها الشباب، ففي تلك المجتمعات المادية ما تزال الفكرة التي تقول، إن كل وسيلة توفر المال هي وسيلة جيدة مقنعة للكثيرين. تميز خليفة هو أنها تناقش هذا المنطق، لا من ناحية الوعظ الأخلاقي الرتيب، ولكن من خلال منطق الربح والخسارة نفسه، حيث تخبر أن الربح، الذي يمكنه أن يتوفر من خلال هذا المجال، تقابله خسائر أكبر لا يشعر بها إلا أعضاء ذلك النادي، الذين سبق بعضهم خليفة في التحدث عن تجربته والتحذير من مخاطر هذه الصناعة المسمومة. مع خصوصية المجتمعات الغربية المفتوحة، إلا أن الدرس، الذي قدمته خليفة، لا يخص الغربيين وحدهم، حيث يمكن لنظرة إلى موقع «التيك توك»، وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي ذات المحتوى العربي، أن تخبرنا كيف أن الكثير من الفتيات والنساء، وبحثاً عن الشهرة أو عن المال السهل، باتوا يقدمون مواد مليئة بالرقص الخليع أو التعري. في منطقتنا لا يجرؤ الناس بعد على تقديم محتوى إباحي مكشوف، لكن البعض يتحايل على ذلك بمقاطع يكسبونها جرأة، معتمدين على لفت الانتباه، وعلى أن هناك الملايين ممن يمكن أن تستوقفهم هذه المشاهد. الحقيقة، التي لا يمكن الاختباء منها، هي أنه لا يكاد بلد عربي اليوم سوى تلك، التي ما تزال تتعامل بصرامة أخلاقية مع هذه المواقع وتخضعها لسيطرتها، يخلو من موجة «المؤثرين» الجدد، الذين يعتمد محتواهم على صدمة المجتمعات المحافظة، سواء بالتعري، أو بفتح موضوعات جنسية، أو بالاحتفاء بالمثليين.

ميَا خليفة ً كانت كذلك تبحث عن المال السهل، وعن تحقيق الذات عبر «المشاهدات»، إلا أن الفارق هو أنها مضت إلى ما هو أبعد، حين قبلت أن تتحول لنجمة «بورنو» وأن يتم استغلال ملامحها الشرق أوسطية، التي رأى أصحاب هذه الصناعة أنها قد تكون مفيدة ومغرية للمشاهدة. للإعلام الجديد سلطة توهم بارتباط الشهرة بالمال والسعادة، هذا الوهم سهل الانتشار، لأنه مبني على واقع بائس يعاني فيه أصحاب الشهادات العالية من البطالة والتهميش، في حين يتربع على هرم المجتمع مؤثرون محتالون وشخصيات عرفت بتقديم فن هابط أو محتوى خادش للحياء. إلا أن نظرة للحياة الشخصية لأولئك المشاهير يمكن أن تخبر بحقيقة ذلك الوهم، وبأن الشهرة المبنية على التخلي عن المبادئ والأخلاق لا توفر، كما يمكن أن نظن، السعادة المطلوبة، بقدر ما تولد بؤساً وتعاسة قد تقود، بل قادت البعض بالفعل، إلى الانتحار. في لقاء عرض قبل أسابيع، صدمت الممثلة المصرية غادة عبد الرازق المذيعة لميس الحديدي وجمهورها على حد سواء، بقولها إنها تفتقد الاستقرار النفسي والعاطفي، وإنها تخضع للعلاج منذ سنوات طويلة، ربما منذ بدئها التمثيل. غادة، التي اشتهرت بأدوار ولغة جريئة، كانت جريئة أيضاً في إجاباتها، حين اعتبرت أن التمثيل والشهرة كانا هما من تسبب لها بهذه الحالة من فقدان التوازن. الغرض من دخول هذا المجال كان النجاح فيه و»الماديات»، وفق تعبيرها، وهو ما حصلت عليه بالفعل، لكن مقابل ذلك فإنه كان هناك ما أُخذ منها أيضاً. تلك المقابلة مع غادة عبد الرازق كانت مهمة، فلك أن تتخيل أن الشخصية، التي ربما تكون ملهمة للكثيرات من الذين يتمنون الوصول لمكانتها قالت، إنها لا تتحرج من أن تقول إنها تحسد الناس الذي يمتلكون أشياء بسيطة كالاستقرار والبيت والعائلة. رأت غادة أن سعيها خلف المال والشهرة بأي ثمن لم يدمر حياتها فقط، بل حياة أشخاص حولها، ربما تكون ابنتها من بينهم، وختمت حديثها بالقول، إن الحلال والحرام بيّن، وأن الذي يحدث هو أننا «نضلل أنفسنا».

يرى البعض أن المحتوى الهابط مصنوع بقصد «إفساد» الشباب والمجتمعات، في حين يرى آخرون، أن في الأمر مبالغة مبنية على نظرية المؤامرة. بغض النظر عن هذا الجدل، فإن ما يهم هو أن أولئك المؤثرين، الذين يتم فرضهم على المساحات العامة، ما يصل منح بعضهم جوائز وتقديرا، ليسوا في حقيقتهم سوى أداة بيد آخرين.

محاضرة خليفة في أكسفورد لم يكن الغرض منها بأي حال التشجيع على دخول مجال الإباحية، أو اعتبار المشاركين فيه نجوماً، بل على العكس كانت أقرب للمحاضرة التوعوية، التي تأتي من شخص دخل إلى عمق تلك العوالم المظلمة، قبل أن ينجح في الهروب منها. على الرغم من اعتزالها، فإن اسم ميا خليفة، ذات الأصول العربية، ما يزال يرتبط بعوالم الإباحية، خاصة أن أفلامها ما تزال متاحة وصعبة الحذف من مواقع ومنصات متعددة. مع كل هذا، فإن ما يجب أن يعرفه، الذين يعتبرون أن خليفة غير مؤهلة أخلاقياً للتحدث في أي موضوع، هو أنها استخدمت شهرتها للتضامن مع الفلسطينيين، وإدانة جرائم الاحتلال، بل إن الأمر وصل لوصف المقاومين، عقب عملية «طوفان الأقصى»، بالمقاتلين من أجل الحرية. هذا الموقف الشجاع كلف ميا خليفة الكثير، ودفع شركات وعلامات تجارية عالمية كانت تبرم عقوداً معها لإلغاء هذه العقود. على الأقل، فإن هذا الموقف، الذي يخشى أكاديميون وناشطون وسياسيون اليوم احتمال تبعاته، يستحق الاحترام.