يقدر الإنتاج اللبناني من فاكهة الكرز بنحو 40 ألف طن، وهو من أجود الأنواع وفق شهادة مؤسسات بحثية زراعية عدة. وترى وزارة الزراعة اللبنانية أن شجرة الكرز مزروعة في مساحات تزيد على 4784 هكتاراً من الأراضي في الجبال اللبنانية التي ترتفع أكثر من 1000 متر عن سطح البحر، ويعتمد على مردود إنتاجها مئات العائلات اللبنانية، وهي لا تحتاج إلى الكثير من العناية كالري والرش كما في الأنواع الأخرى من الأشجار المثمرة، وموسمها يأتي قبل بداية الصيف بحيث تُجنى ثمارها سريعاً، وينصرف المزارعون إلى الاهتمام بأشغال أخرى بعد الانتهاء من قطاف الموسم خلال شهر حزيران (يونيو) من كل عام.

ضُرب موسم الكرز هذا العام في المرتفعات اللبنانية، ولم يتمكن المالكون من جني المحصول إلا بما كان أينع خلال العشرة أيام الأولى من الشهر. وبعد "شلهوبة" 10 – 16 حزيران (يونيو)، حيث ارتفعت الحرارة في الجبال إلى ما يزيد على 33 درجة على غير عادتها في مثل هذا الوقت من السنة، ظهر على ثمار الكرز في معظم المناطق "الدودة" داخل الثمرة، جعلت من الثمار غير صالحة للاستهلاك. وعبثاً حاول المزارعون المحترفون الذين يعتمدون على غلال هذه الفاكهة إنقاذها بالرش بمواد نصح بها مهندسون أو ذوو خبرة، لكن أياً من هذه المعالجات لم تأتِ بالنتيجة المرجوة، وحرارة الجو التي لا تتحملها ثمار الكرز اليانعة كانت أقوى من كل المعالجات.

عشرات الأطنان من الكرز بقيت على الشجر، وامتنع أصحابها عن قطافها، لأنها لم تعُد صالحة، وهي سببت مشكلات في البساتين التي تحتوي على أشجار فاكهة أخرى كالمشمش والتفاح وغيرهما، لأن عدوى "الدودة" قد تنتقل إلى ثمار هذه الأشجار أيضاً، والمزارعون يخافون من عقم المعالجات بواسطة رش المبيدات، لأنها غير نافعة أو لأنها مغشوشة وعلى العبوات التي تحتويها تواريخ صلاحية غير صحيحة، وهو ما يحصل على الدوام من جراء الفوضى الكبيرة التي يعيشها سوق تجارة المواد الزراعية، لأن بعضها مهرَّب من سوريا ولا تنطبق عليه مواصفات الجودة، والبعض الآخر يدخل إلى الأسواق بمعايير غير مطابقة، وبعض المبيدات أو الأسمدة ذات الجودة العالية مرتفع الثمن إلى حدٍ لا يستطيع المزارع دفع أكلافها من غلاله.

المرتفعات اللبنانية مثالية لزراعة الكرز، وقد دخلت الفاكهة إلى السوق بقوة، وهي مرغوبة ونافعة وفقاً لما تشير مختبرات التغذية، حيث تقول الدراسات إنها تفيد في توسيع الأوعية الدموية ومحاربة البقايا السرطانية في الجسم، وفي خفض ضغط الدم وتوليف التوازن في السكر ودرّ البول، والكرز يفيد أيضاً في تأدية وظائف الرأس والدماغ كما تقول هذه الدراسات، ويساعد في تأخير الشيخوخة والحدّ من ظهور التجاعيد باكراً.

تقول الإحصاءات المنشورة إن 90 في المئة من إنتاج الكرز في لبنان يُستهلك في الأسواق الداخلية، على الرغم من أن نوعية الكرز اللبناني جيدة جداً، وهي مرغوبة للتصدير. وباستثناء سوريا، فإن الدول العربية المحيطة بلبنان لا تنتج كميات كبيرة من الكرز، حيث لا جبال مرتفعة في هذه الدول صالحة لزراعة هذه الشجرة، وهي معروفة أنها لا تحب الحرّ، بل تحتاج إلى برودة وتتحمل العيش في درجات حرارة متدنية تصل إلى 12 درجة تحت الصفر، خلافاً للأشجار المثمرة الأخرى التي ترتاح للدفء في معظمها.

يقول مزارعون معمرون في إحدى قرى جبل لبنان المرتفعة، حيث كثرت زراعة الكرز في السنوات العشرين الأخيرة، إنهم لم يسبق أن لاحظوا هذا التلف المُبكر لثمرة الكرز في مثل هذا التوقيت في السنوات الماضية، وكانوا يجنون الموسم طيلة حزيران (يونيو) من دون أي وجود لمثل هذا الانتشار للدودة في ثمرة الكرز إلا نادراً، أو بعد انقضاء حزيران (يونيو). كما أن مزارعين آخرين لاحظوا أن الرش بالمبيدات التي كانوا يعتقدون أنها تحارب الدودة لم ينفع على الإطلاق في هذا العام. وعلى الرغم من مكافحتهم الدودة بالمبيدات، لم يحصلوا على نتيجة إيجابية، وكانت مواسم بساتينهم المرشوشة تشبه مواسم البساتين التي لم يتمّ رشها بالمبيدات، وغزت الدودة فاكهتهم بعد 10 حزيران (يونيو) هذا العام عن بكرة أبيها.

من الواضح، استناداً إلى المعطيات المتوافرة كما من معايشة موجة الحرّ التي حصلت في منتصف شهر حزيران (يونيو)، أن تغيّرات مناخية مهمة حصلت، ودرجة الحرارة التي ترافقت مع رطوبة عالية لم يسبق أن وصلت إلى هذا الحد في مثل هذا العام على المرتفعات التي تزيد على 1200 متر. والخوف يتزايد عند المزارعين على مواسمهم الأخرى، لا سيما التفاح وربما الزيتون والعنب، بحيث بدا الذبول باكراً على ورق هذه الأشجار، وقبل أن يبدأ موسم الري، كما أنهم لا يملكون كميات وافية من مياه الري تستطيع سدّ حاجة هذه الأشجار التي تعيش بعلاً بمعظمها.

المسؤولون في لبنان وفي الدول المعنية مطالبون بالتبصُّر لمواجهة موجات التصحُّر الجبلية غير المعتادة، حيث يبدو أن التغييرات المناخية أصبحت واقعاً معيشاً.