في وثيقته الشهيرة المرسلة لزعيميه أسامة بن لادن و أيمن الظواهري والمنشورة بجريدة الحياة quot; العدد 14930، الخميس 12 شباط (فبراير) 2004 quot; يشير أبو مصعب الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة في العراق للخطر الداهم الذي يتهدد quot;أهل الإسلامquot; في العراق جراء الحلف الشيطاني الذي تم عقده بين quot;أعداءquot; الأمة الخارجيين ndash; أي الأمريكيين ndash; وأعدائها الداخليين السبئيين الباطنيين ndash; أي الشيعة ndash; فيقول: quot; ثم تعالت وتيرة العمليات و كان ذلك في المثلث السني إن صحت التسمية مما جعل الأميركان يضطرون إلى عقد صفقةٍ مع الرافضة شر الورى وقد تمت الصفقة على أن يحوز الرافضة ثلثي الغنيمة في سبيل الوقوف في صف الصليبيين في وجه المجاهدينquot;، ثم ينبري الزرقاوي لتبرير الفظائع التي ارتكبت في العراق خلال العهد الماضي في استخفافٍ ضمنيٍ بالعوامل الداخلية التي أدت لسقوط النظام السابق فيقول: quot; العراق في الجملة فسيفساء سياسية و خلطة عرقية و تباينات مذهبية طائفية متناثرة لا تنقاد إلا لسلطةٍ مركزيةٍ قوية و سلطانٍ قاهر بدءاً من زياد بن أبيه و انتهاءً بصدام quot; و يخلص الزرقاوي لحصر أعداء quot;أهل الإسلامquot; في العراق بأربع طوائف: الأمريكان، الأكراد، الجنود والشرطة والعملاء، وquot;الرافضةquot;.
بعيداً عن البحث في ما يدفع أصولياً كالزرقاوي للدفاع عن نظامٍ لا يتوافق معه ايديولوجياً كالنظام العراقي السابق، وبغض النظر عن الألفاظ العنصرية والأفكار الرجعية التي امتلأت بها هذه الوثيقة، فإن لهجة الشك المرضي أو البارانويا التي تفوح رائحتها من كلمات وثيقة الزرقاوي تثير تساؤلاتٍ عدة حول الأسباب التي تدفع كثيراً من الحركات الأصولية لتحميل أوزار الإخفاقات السياسية والاقتصادية التي تعيشها الأمة على كاهل أعداء الأمة المفترضين، الداخلي منهم و الخارجي، كما أنها تطرح الكثير من علامات الاستفهام حول الغرض الذي من أجله تسعى هكذا حركات لتبني هكذا أساليب في تحليل المعضلات التي تواجهها شعوب المنطقة.
فبخطبهم الحماسية و تصريحاتهم النارية و فتاويهم المتطفلة على ما يفقهون وما لا يفقهون، يشبه بعض رموز التيار الأصولي في العالم العربي لاعبي السيرك و مهرجيه و استعراضييه.. لايريد الجمهور من لاعبي السيرك تلقينه المبادىء الأساسية لحقوق الإنسان، كما أنه لايتوقع منهم إلقاء المواعظ حول ضرورة خلق البيئة المثالية للمجتمع المدني الحديث، و لا البحث عن حلولٍ سريعةٍ و عاجلة لمشاكله الاقتصادية الخانقة.. كل ما يحتاجه الجمهور من لاعبي السيرك هو تماماً كل ما يستطيع أؤلئكم تقديمه لجمهورهم: الإلهاء ولا شيء غير الإلهاء. و بالتالي، فإن التفوق الحتمي للحضارة العربية و الإسلامية على نظيراتها ndash; و في مقدمتهم الحضارة الغربية ndash; هو حقيقة ثابتة تتردد على لسان كل خطيب، كما يمثل الهروب الوشيك لليهود خلف الشجر و الحجر اتقاء هجمات الجيوش الإسلامية ركناً أساسياً من أركان التعليم الديني في بعض البلاد العربية، و أما العداء الأبدي بين المسلمين و الكفار فهو مسلمةُ غير قابلةٍ للنقاش.. و فيما لو طرحت التساؤلات حول حقيقة ما جرى بين المسلمين الأوائل من نزاعاتٍ و حروبٍ أهلية في عصر صدر الإسلام، فما على السائل إلا اللجوء لفضيلة الشيخ (سلمان العودة)-أحد منظري التيار الأصولي من quot;الصحويينquot;- كيما يعاجله بالجواب الأفيوني الشافي، المثلج للصدور، المطمئن للأفئدة، والذي يؤكد ويندد فيه بالدور الخبيث الدنيء ل(عبدالله بن سبأ) ndash; اليهودي بالطبع ndash; و الذي مارس من خلاله أبشع المكائد و المؤامرات ضد الإسلام و أهله !
ولكي يلهي انصاره واتباعه, فإنه ليس على فضيلة الشيخ (سلمان العودة) التوقف عن إصدار quot;فرماناتهquot; البابوية العابرة للمحيطات والقارات المنددة بما يعتقده مضايقةً للمسلمات المحجبات في المدارس الفرنسية، كما أن من لزوم مالايلزم أن يتجنب إشهار فتاويه quot;المعولمةquot; الموجهة نحو العراق تارة و نحو فرنسا تارةً أخرى.
يجد الشيخ (سلمان العودة) والعديد من رموز التيار quot;الإلهائيquot; الأصولي إن صح التعبير في كثيرٍ من كتب التراث الإسلامي مادةً خصبةً لاستلهام أساليب الإلهاء وصرف الأنظار التي يمارسونها مع عموم الجماهير الإسلامية، يشير العلامة (ابن القيم) في كتابه quot;مدارج السالكينquot; (ابن القيم: 1/347) تعليقاً على الآيات القرآنية التي نزلت في المنافقين إلى الخطر الداهم الذي تشكله هذه الفئة على ديار الإسلام حيث يقول: quot; كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم quot; أي المنافقين.. لا يحتاج القارىء الحصيف للكثير من المجهود ليقدر حجم المبالغة و التهويل اللذين وصف بهما العلامة ابن القيم خطر ظاهرة النفاق في الإسلام، آخذين في الاعتبار أن السور المكية ndash; وهي التي نزلت على النبي محمد (ص) قبل هجرته للمدينة و مجابهته لمكائد المنافقين فيها ndash; تشكل قسماً ليس باليسير من آيات القرآن الكريم، فضلاً عن أن السور المدنية قد تصدت للكثير من القضايا التي لا علاقة لها بالنفاق و المنافقين. ولذا، فإن من المرجح أن يكون العلامة ابن القيم قد سعى من خلال التهويل في تصوير خطر المنافقين ndash; و هو خطر كان قائماً في ذلك الوقت بلا شك ndash; إلى ابتكار أو تكريس أسلوبٍ إلهائيٍ يمكنه من تفسير الكثير من المشكلات والأزمات التي واجهها المسلمون حتى ذلك الحين دون الاضطرار للبحث عن الأسباب الكامنة وراء هكذا أزمات. وعليه, فانه ليس من المستغرب أن يستوحي الشيخ سلمان العودة أسلوباً إلهائياً آخراً لا يركز على الخطر الداخلي الذي يهدد به المنافقون الإسلام كما فعل العلامة ابن القيم، وإنما يشدد فيه على الخطر الخارجي الذي يمثله اليهود.. يقول سلمان العودة في كتابه (المعركة الفاصلة مع اليهود) ص60: quot; هذه المعركة حق، و كل مسلمٍ يصدق رسول الله ndash; صلى الله عليه و سلم ndash; عليه أن يؤمن بها، و أن يعلم أنها قادمة لا محالة، على رغم كل العقبات و الظلمات والحواجز، فهذا غيب أخبر عنه الصادق المصدوق عليه الصلاة و السلام quot;. فوفقاً للشيخ العودة، فإنه على كل مسلمٍ حقيقي أن يكون على أتم الأهبة والاستعداد النفسي والذهني للحرب المستقبلية القادمة مما يعني بالضرورة استنزافاً للطاقات وصرفاً للأنظار عن الأزمات الداخلية التي تعيشها البلدان الإسلامية وذلك من أجل التصدي لسراب الخطر اليهودي القادم.
وفي خضم الجدل الدائر والحوار المستمر حول مناهج التعليم في بعض البلدان العربية وما تحويه من أفكارٍ تحريضية وعبارات تكفيرية تجاه الآخر المخالف، استرعى انتباهي حوارأجري مع الأستاذ (صالح سليمان الوهيبي) في موقع (الإسلام اليوم) الإلكتروني والذي يديره الشيخ سلمان العودة، حيث تحدث الوهيبي في هذا الحوار بطريقةٍ نموذجيةٍ تعكس ذهنية التيار الذي ينتمي إليه.. يجيب الوهيبي على سؤالٍ طرح عليه حول مناهج التعليم فيقول: quot; إن كان عندنا شيء في مناهجنا أو في توجهاتنا ضد بني الإنسان فلا بد أن نعدلها، و لكننا متأكدون أننا ليس لدينا شيء من ذلك quot; , و قبل التساؤل عن الكيفية التي توصل من خلالها الأستاذ الوهيبي إلى تأكيد خلو مناهج التعليم من الأفكار التي تحث على كره و مقت الآخرين، يفاجئنا الأستاذ بلجوئه إلى الأسلوب الإلهائي العتيد الذي تتميز به المدرسة الفكرية التي تخرج منها فيقول: quot; نحن نعلم أن المناهج الإسرائيلية والغربية والأمريكية فيها تحيز ضد الإسلام...quot; ثم يضيف: quot; والأفضل أن ننظر في مناهجهم وقد بدأت بالفعل بعض الدراسات في المناهج الأمريكية والفرنسية والأوروبية لرصد التحيزات...quot; و في الوقت الذي تمتلىء فيه مناهج التربية الدينية في بعض البلدان الإسلامية باتهاماتٍ تصف اليهود بكونهم أحفاد القردة والخنازير، يعلق الأستاذ الوهيبي على مناهج التعليم الإسرائيلية فيقول: quot; ان من المعلوم أن مناهج التربية الصهيونية تساوي بين المسلم و الحيوان quot; !
تقف وراء لجوء العودة والوهيبي وغيرهم لأساليب التضليل والإلهاء في التعامل مع الجماهير العربية و الإسلامية حالةُ نفسية مرضيةُ جماعيةُ مزمنة من quot;النرجسيةquot; الأصولية والتي تتميز وفقاً لعلماء النفس بالصفات التالية:
1- تنتاب صاحب الشخصية النرجسية مشاعر العظمة حول أهمية ذاته. فهو يبالغ في مدى انجازاته و مواهبه، و يتوقع أن يتم الاعتراف بتفوقه، من دون أن يكون هناك في الواقع تفوق.
2- ينشغل صاحب الشخصية النرجسية بخيالاتٍ حول نجاحاتٍ و سلطةٍ لا حدود لها.
3- يتطلب إبداء الإعجاب المبالغ بشخصه.
4- ينتظر من الآخرين أن يوافقوا بشكلٍ فوريٍ على كل أفكاره و طلباته.
5- وأخيراً، يقوم النرجسي بسلوكياتٍ صلفةٍ و متعجرفة بشكلٍ لا عقلاني.
( الصفات الخمس السابقة للنرجسية مأخوذة من تقرير لquot;سعد محيوquot; في ملحق الوسط الأسبوعي التابع لجريدة الحياة، العدد quot;629quot; 16 شباط quot;فبرايرquot; 2004 )
على الرغم من التطابق الذي يبدو مذهلاً بالفعل بين سلوكيات الكثير من الأصوليين ومواصفات الشخصية النرجسية، إلا أن خير توصيفٍ لدرجة النرجسية التي يعاني منها بعض الأصوليين يكمن في مقالٍ للمحرر و الصحفي الباكستاني (حسين حقاني) بعنوان: quot;المغول الأمريكيونquot; والمنشور بمجلة (Foreign Policy) الأمريكية (مايو/ يونيو 2003)، يشير حقاني بصورةٍ غير مباشرة لهذه الحالة المرضية التي يعيشها الأصوليون فيقول فيما معناه إن العبرة، حسب الأصوليين، هي أن حتى هزيمة الأصوليين بحد ذاتها لها مكان في مشيئة الله بالتفوق النهائي لتيارهم الفكري في العالم.. ثم يعرض الصحفي الباكستاني مثالاً حياً و دقيقاً يوضح الأسلوب الإلهائي الذي ينتهجه الأصوليون و النابع من شخصيةٍ نرجسيةٍ مضطربة.. يقول حقاني: quot;يستوقف حديث واحد الأصوليين حالياً و هو أن النبي محمد (ص) قال: (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبلٍ من ذهب يقتتل الناس عليه) quot; , و بافتراض أن يكون جبل الذهب رمزاً لموردٍ طبيعي كالنفط , كما يجوز أن يشير الفرات إلى العراق حيث يجري هذا النهر، فإن من الممكن وفقاً لحقاني توقع الطريقة التي سيفسر بها بعض الأصوليين الإحتلال الأمريكي للعراق كتمهيدٍ لمعركةٍ نهائيةٍ تشن بين الخير و يقودها المهدي المنتظر والشر الذي يتمثل بالدجال، لا كهزيمةٍ مريرةٍ لفكرٍ وايديولوجيةٍ عتيقين.. ثم يخلص الكاتب لنتيجةٍ مفادها أن اللجوء إلى الإنتقام بدلاً من الشعور بالرغبة في التوصل إلى تسوية أو الخضوع للمنتصرين هو ردة فعلٍ تقليدية يواجه بها الأصوليون المتزمتون هزيمة الجيوش المسلمة , لا سيما و أن المعركة بالنسبة إليهم لا تقتصر على جبهةٍ محددة كما أنها ليست مرتبطةً بفترةٍ زمنيةٍ معينة إذ تنتقل من جيلٍ إلى جيل. و بإعتقادي، فإن ردة الفعل هذه التي أشار إليها حقاني هي ردة فعلٍ متوقعةُ من تيارٍ نخرت النرجسية عظامه حتى النخاع وبات الأسلوب الإلهائي جزءاً لا يتجزأ من شخصيته ومفرداته.
أهلاً وسهلاً بكم إذن أيها السادة في السيرك الأصولي الكبير حيث التهريج والخداع والإلهاء دون خجلٍ أو حياء...
تابعوا معنا أيها السادة أحداث السيرك المثيرة و التي لم تنته فصولاً بعد، حيث مازال في جعبة مهرجه الأبرز الهارب الكثير من المفاجآت وما على عشاقه و مريديه الممتدين من المحيط إلى الخليج إلا الانتظار و الصبر الجميل حتى يمن الله عليه وعليهم بquot;فتحٍquot; مبين أو quot;غزوةٍquot; بطوليةٍ أخرى تستهدف ديار quot;الكفرquot; الأمريكية..
لا تخطئن أيها السادة، و لا يعتقدن أحد منكم أن العالم الإسلامي يسير في الاتجاه الصحيح، ففي زمن النرجسية الأصولية مقدر و مكتوب أن تستمر الشعوب العربية و الإسلامية بالإلتهاء باستبشارٍ لنصرٍ مستقبليٍ وشيك و رثاءٍ لماضٍ تليدٍ فات و مات.
كاتب سعودي.
[email protected]
التعليقات