بداية يجدر بنا التأكيد على أنّ المثقف العربي في هذا الزمن المتغيّر يستمد مكانته من مطابقته للقيم العقلانية والإنسانية دائما، ومن عمق قراءته للظواهر الجديدة. بما يحرره من الأوهام التي تجعله أسير ماضٍ يستحيل أن يعود كما كان عليه، وتخلصه في الآن نفسه من الطوباويات التي تغرقه في أوهام مستقبل لا ينفك يبتعد.
وتكمن أهمية وجود مثل هذا المثقف في ظل ما تشهده المجتمعات المعاصرة من تحديات وتحوّلات في هذا الزمن المتغيّر : فمن جهة، هناك الانهيارات السياسية والأيديولوجية التي أصابت العديد من الأفكار والنظم والمشاريع. ومن جهة ثانية، هناك الطفرات المعرفية التي شهدتها الفلسفة وعلوم الإنسان، والتي أسفرت عن انبثاق قراءات جديدة للحداثة وشعاراتها حول العقل والحرية والتقدم. ومن جهة ثالثة، هناك الثورات العلمية والتقنية والمعلوماتية التي ندخل معها في طور حضاري جديد.
ولعل أحد أهم ملامح هذه التحوّلات تكمن في محاولة التعرف على عناصر ومكوّنات ثقافة العولمة وأدواتها الوظيفية، وكذلك ما تنطوي عليه من قضايا : الثقافة الوطنية، والهوية الحضارية، والخصوصية القومية. فإزاء كل ذلك، يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره، بما يمكّنه من فهم وتشخيص هذه التحوّلات العميقة بداية، ومن ثم الانخراط في تغيير الواقع الثقافي العربي في اتجاه التكيّف الإيجابي مع معطيات وتحوّلات هذا الزمن المتغيّر.
ويبدو أنّ منبع تجدد الإشكال الثقافي اليوم راجع إلى تصادم حقيقتين بارزتين : أولهما، الالتزام بمقتضيات الكونية الناتجة عن مسار توحد البشرية واقتران مصائر أبنائها، من خلال الثورة الاتصالية والاندراج في الاقتصاد والمجتمع العالميين. وثانيهما، الإقرار بحق الثقافات في الاختلاف والتمايز وتماثلها من حيث القيمة والمشروعية. والواقع أنّ مكمن الإشكال عائد إلى صعوبة صياغة تأليفية لهاتين الحقيقتين. ولكن من المؤكد أنّ أيا من المجتمعات الإنسانية لم يعد رهين ثقافته الخاصة، ومن ثم لم يعد سلوك هذه المجتمعات، أو تفكيرها الجماعي، هما النتاج الطبيعي والضروري لثقافاتها الوطنية فقط.
وفي العالم العربي ساهم في طرح إشكاليات الثقافة العربية ومحاولة وضع الحلول لها كل رموز النهضة العربية الحديثة، ومع ذلك فإنّ النتائج كانت مخيبة للآمال : أمية متفشية بلغت 70 مليونا، وعدد الاختراعات والابتكارات محدود، والمراكز البحثية محدودة، والكتب المترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية قليلة بالمقارنة مع ترجمات دولة كاليونان، والكتب المؤلفة قليلة بالمقارنة بالكتب المؤلفة في دولة مثل قبرص.
لقد دخلنا بعد نهاية الحرب الباردة، وأكثر بعد جريمة سبتمبر/أيلول 2001، وخاصة بعد سقوط بغداد، في مرحلة جديدة تماما لم تعد أنساق التفكير النظامية تساعد في فهمها. إذ ثمة ثقافة بكاملها تحتاج إلى المساءلة، بمرجعياتها ومؤسساتها ونماذجها ورموزها وإعلامها وخبرائها، هي ثقافة المكابرة وتبجيل الذات والثبات على الخطأ والتستر على الآفات والهروب من المحاسبة، فضلا عن القفز فوق الوقائع والخوف من المتغيّرات والتعاطي مع المستجدات بالقديم المستهلك، بل بالأقدم أو الأسوأ من المفاهيم والتقاليد أو الوسائل والأدوات والمؤسسـات.
وإذا كنا قد تخلّفنا وتأخرنا كثيرا، فالأمر لم يعد يحتمل المزيد على الإطلاق، وذلك لأسباب عديدة : أولها، أننا غادرنا قرنا مليئا بالإنجازات والإحباطات، ودخلنا قرنا جديدا حاسما في تاريخ البشرية كما لم يحدث من قبل. وثانيها، أنّ القرن الراحل قد سلّم القرن الجديد آخر تحدياته ليحسمها، ألا وهي العولمة ومجتمع المعرفة. وثالثها، أنّ تحدي مجتمع المعرفة هو استمرار لتحد أسبق في مجالات الحداثة والتقدم العلمي والتكنولوجي. ورابعها، إذا كان العرب قد تأخروا عن غيرهم، فالواجب عليهم أن يبحثوا لهم عن مكان معقول في القرن الواحد والعشرين.

أهم خصائص الزمن الثقافي المعاصر
يشهد العالم مرحلة إعادة نظر جذرية في قضية الثقافة، بل إعادة اعتبار لها من زاوية استراتيجيات المستقبل، خاصة وأنّ التطورات الجارية تبشر بمستقبل جديد على مستوى الإنجاز المادي والتقدم التكنولوجي، ومراكز البث الإلكتروني، وبرامج التنفيذ في مجالات الإدارة والعمل الوظيفي، ناهيك عن المؤسسات التي تقتضي طبيعة عملها صرامة متناهية في التنفيذ.
لقد أصبح مصطلح ثورة المعلومات وغيره من المفاهيم، كالمجتمع المعلوماتي ومجتمع المعرفة ومجتمع الحاسوب ومجتمع ما بعد الصناعة ومجتمع ما بعد الحداثة، ومجتمع اقتصاد المعرفة والمجتمع الرقمي وغيرها من المصطلحات، المميّز الرئيسي لحقبة تاريخية هامة من تاريخ البشرية. بما ينطوي على عدة أبعاد، أهمها :
(1) - البعد الاقتصادي، إذ تعتبر المعلومة في مجتمع المعرفة هي السلعة أو الخدمة الرئيسية والمصدر الأساسي للقيمة المضافة وخلق فرص العمل وترشيد الاقتصاد، وهذا يعني أنّ المجتمع الذي ينتج المعلومة ويستعملها في مختلف شرايين اقتصاده ونشاطاته المختلفة هو المجتمع الذي يستطيع أن ينافس ويفرض نفسه.
(2) - البعد التكنولوجي، إذ أنّ مجتمع المعرفة يعني انتشار وسيادة تكنولوجيا المعلومات وتطبيقها في مختلف مجالات الحياة : المصنع و المزرعة والمكتب والمدرسة والبيت..
(3) - البعد الاجتماعي، إذ يعني مجتمع المعرفة سيادة درجة معينة من الثقافة المعلوماتية في المجتمع وزيادة مستوى الوعي بتكنولوجيا المعلومات وأهمية المعلومة ودورها في الحياة اليومية للإنسان. ولذا سنشهد ولادة فاعل بشري جديد هو الإنسان الذي ينتمي إلى عمال المعرفة ( ذوي الياقات البيضاء ) الذين يردمون الهوة بين العمل الذهني والعمل اليدوي، إذ لا فاعلية في العمل من غير معرفة قوامها الاختصاص والقدرة على قراءة رموز الشاشات، مما سيطرح إطارا مفهوميا جديدا هو " العمالة المعرفية ".
(4) - البعد الثقافي، إذ يعني مجتمع المعرفة إعطاء أهمية معتبرة للمعلومة والمعرفة والاهتمام بالقدرات الإبداعية للأشخاص وتوفير إمكانية حرية التفكير والإبداع والعدالة في توزيع العلم والمعرفة والخدمات بين الطبقات المختلفة في المجتمع، كما يعني نشر الوعي والثقافة في الحياة اليومية للفرد والمؤسسة والمجتمع ككل.
(5) - البعد السياسي، إذ يعني مجتمع المعرفة إشراك الجماهير في اتخاذ القرارات بطريقة رشيدة وعقلانية أي مبنية على استعمال المعلومة، وهذا بطبيعة الحال لا يحدث إلا بتوسيع حرية تداول المعلومات وتوفير مناخ سياسي مبني على الديمقراطية والعدالة والمساواة وإقحام الجماهير في عملية اتخاذ القرار والمشاركة السياسية الفعالة.
ومهما كان الأمر فإنّ ما سوف يميّز الزمن الراهن هو زيادة الانفتاح الثقافي والاجتماعي الذي سيشمل الاقتصاد والسياسة وأساليب التفكير، بحيث تتصل كل مجتمعات العالم بعضها ببعض بما يحقق التبادل الثقافي على أوسع نطاق. وسوف يساعد هذا الانفتاح والاتصال على معرفة الثقافات المختلفة في العالم، وإدراك كنهها ومعرفة رموزها ومعاني هذه الرموز، مما يؤدي إلى احترام ثقافة الآخرين والنظر إلى كل ثقافة منها على أنها منظومة واحدة تتفق، في مبادئها العامة، مع المنظومات الثقافية الأخرى رغم اختلاف العناصر الجزئية التي تدخل في تكوينها. وسوف تزداد المطالبة بالحقوق المدنية لكل بني البشر، وإعادة صياغة وتأويل الثوابت التقليدية المتوارثة في الاجتماع والأخلاق والسياسة والاقتصاد. ورغم سقوط الحواجز الثقافية بين مجتمعات العالم، وازدياد التقارب الثقافي بين مختلف الشعوب، فسوف تظهر الرغبة في إبراز وتأكيد التمايز والاختلاف والاستقلال للتعاطي المجدي مع محاولات الهيمنة الثقافية الغربية.
وبذلك سيشهد العالم درجة أكبر من التسامح بين الثقافات، وهو تسامح يقوم على أساس المعرفة والفهم لتلك الثقافات ومبررات وجودها، ومعاني رموزها، والسلوكيات المرتبطة بها، والقيم التي تكمن وراءها. وهو الأمر الذي سيجعل التسامح قيمة من قيم المستقبل، رغم اختلاف النظرة والفكرة والسلوك والمعتقد. وهذا من المؤشرات الهامة على أنّ قيم المستقبل ستكون قيما إيجابية فاعلة أكثر منها مواقف سلبية انفعالية، حيث سيجري الاهتمام بالمستقبل والنظر إلى الأمام، واحترام قوى التقدم والنجاح والإنجاز أكثر من النظر إلى الوراء وتمجيد الماضي والارتباط به أو الاستكانة للأمر الواقع، ومحاولة إيجاد مبررات لقبوله. وإن كان هذا لا يعني التنكر للتراث الثقافي، وإنما يعني مراجعته وإحياءه من خلال إبراز الجوانب الإيجابية فيه التي تضيف إلى الحضارة الإنسانية.
ومن أجل ذلك، فلنجرؤ على توكيد وجود مشتركات إنسانية، هي تلك التي ألهمت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948. فعلى العكس من مزاعم أعداء الحرية والأصوليين من كل حدب وصوب، ليست هذه المشتركات نموذجا غربيا، بل إنها ميّزة إنسانية. وهي ميّزة كل الشعوب، وكل الأمم، وكل الديانات.
والحال أنّ مختلف المنظومات الثقافية العالمية تتحسس الحاجة الموضوعية إلى صياغة وتقنين مقتضايات الكونية، حتى ولو اختلفت، جزئيا، في ضبط معايير ومحددات هذه الكونية. بيد أنّ الاعتراض لا يصل إلى قاعدتها القِيَمِيّة : تفعيل لحقوق الإنسان، وضمان للحريات العامة، وتكريس لأخلاقيات التسامح، والدفاع عن مبادئ السلم والتضامن الإنساني.
إنّ أشد ما يقلق البعض في القضايا التي يثيرها مجتمع المعرفة هو ما لها من آثار على الهوية والخصوصيات الثقافية، وهو قلق له ما يبرره في ظل ما نراه من محاولات قوى الهيمنة الاقتصادية تنميط سلوكيات البشر وثقافتهم في المجتمعات كافة وإخضاعها لنظام قيم وأنماط سلوك سائدة في المجتمع الأمريكي، إذ يحمل فيض الأفكار والمعلومات والصور والقيم القادمة إلى كثير من المجتمعات إمكانية تفجّر أزمة الهوية، التي أصبحت من المسائل الرئيسية التي تواجه التفكير الإنساني على المستوى العالمي. وفي سياق هذه الأزمة تنبعث العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية والقومية الضيقة، وتزداد الرغبة في البحث عن الجذور وحماية الخصوصية.

أهم إشكاليات الثقافة العربية المعاصرة
بالنسبة للعالم العربي، تنطوي الثورات المعرفية والتكنولوجية والمعلوماتية المعاصرة على تحديات وأخطار وفرص تمس الكيان العميق للأمة العربية، وتعرّضها لما يسمى بـ " صدمة المستقبل ". وتزداد الأخطار تأثيرا بسبب ما يعانيه الكيان العربي نفسه من عوامل الضعف المتمثلة في : انتشار الأمية، وتخلّف برامج التربية والتعليم عن حاجات المجتمعات العربية ومتطلبات العصر، ونقص الحريات، وعدم شمولية السياسات الثقافية، وضعف الصناعات الثقافية، وسيادة الإعلام السطحي.
ومع العصر الرقمي والانفجار المعلوماتي ومجتمع المعرفة يبدو أنّ إشكاليات اليوم تتجاوز النهضة إلى ما بعدها، ولذا لا غنى عن تجديد المصطلحات وإعادة صياغة الإشكاليات. فليست المسألة الآن كيف ننهض من السبات أو كيف نجدد النهضة، أو كيف نندرج في الحداثة، بالرغم من أهمية كل ذلك، بل التكيّف الإيجابي مع عالم اليوم الذي يكاد يتحول إلى عالم جديد من فرط انكشافه وفيض معلوماته وفائق أدواته.
المسألة أننا لم نحسن الخروج من عجزنا وقصورنا لكي نتحول إلى مشاركين في صياغة حاضر ومستقبل العالم بصورة غنية وخلاقة. ولعل ما أعاقنا عن ذلك هو الحمولات الأيديولوجية والمسبقات الدوغمائية التي منعتنا من استثمار طاقاتنا على الخلق والتحوّل، بقدر ما حملتنا على أن لا نعترف بإنجازات الغرب والتعلم منه، أو التي جعلتنا نتعامل مع هذه الإنجازات بعقلية تقليدية شعاراتية عقيمة وغير منتجة.
أما الآن، فمن أجل تجسيد خروجنا من حالة العجز بات من التبسيط والتضليل مقاربة إشكاليات الثقافة العربية من خلال فكر أحادي الجانب والمستوى، فالعالم هو في بناه ونظامه وصيرورته من التعقيد والتشابك والتحوّل، بحيث لا تفي بفهمه نظرية واحدة ولا ينجح في تغييره نموذج أوحد. الأجدى أن تتضافر المقاربات والمعالجات، عبر استثمار نتائج الدراسات العلمية والإبداعات المعرفية في مختلف الاختصاصات، وبما يؤول إلى صياغة الاستراتيجيات وإبداع الآليات والوسائل التي تسهم في بلورة رؤى ثقافية مستقبلية.
إنّ واقع الثقافة العربية المعاصرة يسمح لنا بأن نطرح السؤال المقلق الذي أثاره الأمير شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين : لماذا تراجع العرب وتقدم غيرهم ؟. وتفسير عبدالله العروي لأزمة الثقافة العربية المعاصرة بأنها اختلال العلاقة بين الوعي والفعل، بين الوعي المنقوص والفعل العاجز، بين التوفيقية الملتبسة وافتقاد القدرة على الحسم ؟!.
وهكذا، نعتقد أنّ أهم إشكاليات الثقافة العربية في هذا الزمن المتغيّر هي :
(1) – إنّ الثقافة العربية السائدة تمر في مرحلة انحطاط وردة واضحين، فهناك تراجع عن الفكر العلمي لفائدة الفكر الخرافي، وهناك استفحال ظاهرة الخطاب الماضوي الذي يجهد في محاولة إرجاع العالم العربي إلى العصور المظلمة، ويحفّزه على التشبث بمرجعية ماضوية، وكأن الماضي ينبغي أن يحكم الحاضر والمستقبل.
مما يجعلنا نميّز بين نوعين من الوعي الثقافي حسبما أورد الدكتور جابر عصفور : وعي ماضوي تقليدي، ووعي مستقبلي استشرافي. الوعي الأول وعي أصولي، نقلي، يحاول أن يشد حياتنا إلى الوراء، وذلك على نحو يغدو معه سؤال المستقبل سؤالا غائبا في حياتنا وليس عنصرا تكوينيا من عناصرها الحيوية.
وأما الوعي الثاني فهو نقيض الوعي الأول، لأنه وعي يقيس على الحاضر في حركته إلى المستقبل، ولا ينشغل بالماضي إلا بوصفه عنصرا من عناصر الحاضر الذي يقبل التحوّل والتطور والمساءلة. ولذلك فهو وعي حداثي بالضرورة، لا يعرف الحلول الجاهزة أو الإجابات المسبقة، ولا يؤمن بالمطلقات الإنسانية التي تشل الحركة، أو الدوائر المغلقة للفكر. وسؤال المستقبل عنصر تكويني في هذا الوعي وعلامة عليه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أو الانتقال بالمجتمع من وهاد التأخر إلى ذرى التقدم.
(2) - أدى الخطاب الماضوي إلى تصاعد نزعات التعصب والتطرف، وتزايد عمليات الإرهاب التي تتمسح بالدين الحنيف، وارتفاع درجة العنف الذي صاحب الدعوة إلى الدولة الدينية، أو صاحب الاتجاهات التقليدية الجامدة التي تصف التحديث ببدعة الضلالة المفضية إلى النار. هكذا، رأينا الاعتداء على المواطنين الأبرياء، ورموز السلطة المدنية، وتهديد المثقفين المستنيرين بكل وسيلة ممكنة. وأضيف إلى ذلك تحوّل هذا الإرهاب إلى إرهاب دولي، إضافة إلى كونه إرهاب داخلي، وذلك في سياق متصاعد وصل إلى ذروته في جريمة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، وهي الجريمة التي فرضت أوضاعا جديدة تماما، وجعلت العالم كله يرى أبشع وجه للإرهاب.
ومن المؤكد أنّ أصحاب نزعة التعصب والعنف لم يدركوا التراث العربي - الإسلامي في كماله وصراعاته واختلافاته وتعدده في تنوعه، ولم يدركوا لماذا كان هناك المعتزلة والأشاعرة، ولكنهم أخذوه كما هو في مظهره السطحي وتضاريسه الخارجية. بسبب غلبة الوعي الأصولي النقلي على تفكيرهم، وذلك على نحو يغدو معه سؤال المستقبل سؤالا غائبا عن حياتهم وليس عنصرا تكوينيا من عناصرها الحيوية. والنتيجة هي قياس كل شيء على الماضي، والعودة بكل جديد إلى أصل يبرره من القديم، والنظر إلى التغيير في ريبة، وإلى التجديد بعين الاتهام.
في حين أنّ الثقافة التراثية ثقافة متنوعة لا ينبغي أن نأخذها في مظهرها السطحي، وعلينا نحن أبناء القرن الواحد والعشرين ألا نتبنى هذا التراث بطريقة مطلقة، وإنما نتعقله في سياقه التاريخي، وكيف ظهر وانتهى في زمنه، ثم بعد ذلك نضيف إليه بحسب عصرنا وظروفه، وبرؤية عقلانية نقدية، وبذلك يصبح التراث قيمة متحركة، ويخرج عن إطار الجمود أو أن يكون مجرد ماضٍ.
(3) - إنّ الخطاب الثقافي العربي المعاصر الذي ينظر، في بعض أنماطه المرجعية، للحضارة الغربية باعتبارها حضارة مادية لا يجوز الاقتباس من أفكارها، هو خطاب مأزوم مضاد لعملية حوار الثقافات التي دارت طوال التاريخ. فكما أنّ تلك النظرة إلى الثقافة الغربية، بحسبانها كتلة واحدة صماء، تعجز عن التفرقة الواجبة بين تياراتها المتعددة المتنوعة، فإنّ الثقافات التي تظن أنها مكتفية بذاتها ولا تستمع إلى الثقافات الأخرى ولا تتعلم منها ولا تقتبس الصالح من أفكارها وإبداعاتها ولا تتأثر برؤيتها، هي ثقافات مقضي عليها بالجمود والفناء.
(4) - من الشواهد البارزة على وجود الأزمة على المستوى الثقافي العربي أنّ المجتمعات العربية لم تصبح بعد مجالا لإنتاج العلوم النظرية والمعارف العملية، كما كان الحال ماضيا في عصور الازدهار التي شهدتها الحضارة العربية – الإسلامية، وكما هي الحال في المجتمعات الحديثة التي تحولت إلى مصدر للإنتاج الفكري في مختلف فروع المعرفة والثقافة، بقدر ما اشتغلت على نفسها بالدرس والتحليل العلمي وبالنقد والفحص العقلاني.
(5) - لا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة أنّ العجز العربي الذي بدا واضحا في السنوات الأخيرة يعود إلى أسباب عديدة تغور في أعماق الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية العربية، ويبدو أنّ من أهم هذه الأسباب العلاقة الخاطئة بين المستويين الثقافي والسياسي، أو القطيعة العميقة بين أصحاب الرأي وأصحاب القرار. ويعكس هذا الوضع أزمة خطيرة في الحياة العامة، فهو لا يشير إلى انعدام التواصل بين النخب العربية المختلفة التي يتوقف على تفاهمها تحقيق الأهداف الرئيسية للمجتمعات وصوغ الرأي العام فحسب، ولكنه يطرح أسئلة كثيرة حول أسلوب بناء السياسات العربية ذاتها. فهو يعكس إلى أي حد يؤدي عدم التواصل بين النخب الثقافية والنخب السياسية إلى تفريغ السياسة ذاتها من محتواها، مما يعني أنها سياسات تقتصر على التلمس الذاتي الإرادوي للأوضاع والمشاكل والحلول ولا تقوم على أسس سليمة من التأمل النظري والتفكير الموضوعي، وتفتقر بالتالي للرؤية البعيدة والشاملة.

مجالات التغيير المطلوبة للتكيّف الإيجابي مع العصر
يبدو أننا بحاجة ماسة إلى أن نحلل قضايانا الثقافية الكبرى، التي تعودنا على طرحها بشكل هلامي، إلى مكوناتها الأصغر، أو لنقل المتوسطة، القابلة للتناول العلمي، أي لصياغة أطروحات مؤسسة على معطيات حولها، ولتجريب تلك الأطروحات في أمد مرئي ولتقويمها وتصحيحها كلما اقتضى الأمر.
وللخروج من الحالة الموصوفة للثقافة العربية، خاصة في ظل ثقافة العولمة، لابد من التأكيد على مجموعة جوانب مترابطة للتغيير الثقافي، الذي يمكّننا من القطيعة مع التأخر والانطلاق إلى مسارات النمو والتنمية الذاتية، والتحرر من المحنة العربية :
(1) - مبدأ الحرية والاختيار، لأنّ الحرية ترتبط بالمسؤولية وتنفي الحتمية أو الجبرية، وتجعل من الضروري إلقاء الضوء على فعل الاختيارات الممكنة تاريخيا، وصنع الاختيار انطلاقا من الوعي بمعطيات الواقع والذات.
(2) - النسبية والتنوع والاعتراف بالآخر، فكل حقيقة نسبية، ولكل فكرة تجلياتها الجزئية، ومن حق المجتمع أن يطّلع على كل الاختيارات المتاحة، التي تبلورت بحرية، وأن يختار من بينها. وهنا يجدر بنا أن نقلع عن تحميل مسؤولية عجزنا وتأخرنا على الآخر الغربي، فإذا نسبنا مسؤولية كل ما نتعرض له من إجحاف وظلم قومي إلى الآخرين، فلن يكون من الممكن أن نحدد لأنفسنا مهاما ثقافية خاصة بنا، وسنظل أسرى منطق دائري يجعلنا نعكف على انتظار الخلاص بالصدفة. بينما المطلوب أن نتحرر من هذه النزعة، وأن نجري تغيّرات ثقافية جوهرية، تتضمن - قبل كل شيء - الاعتراف بمسؤوليتنا المباشرة عن أوضاعنا الراهنة وعن مصائرنا، ومن ثم عن المعطيات الأساسية لمستقبلنا في الإطار العالمي.
(3) - ثقافة حسن الاختيار، إذ يترتب على القول بنسبية كل حقيقة أنّ أي اختيار يكون صائبا بقدر ما يتفق مع معطيات الواقع، ويحل بعض أهم معضلاته بالنسبة للأمة في مرحلة تاريخية ما.
(4) - ثقافة الدور أو الواجب الحضاري، أي إحياء فكرة الإعمار التي هي من أهم الأرصدة الثقافية للحضارة العربية - الإسلامية، بما هي واجب الإنسان في الكون. خاصة وأنّ القول قد حل محل الفعل في أداء رسالة الدور الحضاري في ثقافتنا العربية، حين اطمأن العرب إلى دورهم في الماضي، فعكفوا على تمجيده، دون الإضافة إليه. إنّ الواجب الحضاري ليس خطبة فارغة، وليس عظة أخلاقية مجردة، كما أنها ليست فرضا للرأي بالعنف، ولا ادّعاء صارخا بالتفوق، إنها الإضافة الحقيقية إلى رصيد الإنسان من المعارف ودوافع الخير ووسائل الإعمار.
وفي هذا السياق، يبدو أنّ هاجس الخصوصية الثقافية هو نفسه هاجس الأصالة والمعاصرة معا، إذ يخطئ من يعتقد أنّ حماية الذات الثقافية تكمن في عزلها عن العالم الخارجي وحمايتها من مؤثرات الثقافة الكونية. فغني عن التوكيد أنّ الذات الثقافية المطلوب حمايتها من الاغتراب هي ثقافة التغيير الشامل وليست ثقافة الجمود والاحتماء بالسلف الصالح، ثقافة الوحدة القومية بأفقها الإنساني الحضاري لا ثقافة الأجزاء المفككة التي يعتبر كل منها أنه بديل للأمة.
على أنّ بعض الدراسات تحاول التركيز على تاريخية ونسبية الهوية وعدم الإقرار بثباتها، مما يجعلها مرنة قد تتعايش أو تقتبس من ثقافات أخرى، بل قد تساعدها عوامل التقارب وسقوط الحواجز على تفاعل إيجابي وخلاق مع مجتمع المعرفة. كما أنّ بعض المقاربات ترى أنّ هذه الثقافة لا تهدد الهوية بالفناء أو التذويب، بل تعيد تشكيلها أو حتى تطويرها لتتكيّف مع الحاضر، فالإنسان يتجه نحو إمكانية أن يعيش بهويات متعددة، دون أن يفقد أصالته القومية.
إنّ الثقافات الإنسانية، مهما أغرقت في تفردها وأصالتها، هي ثقافات مولَّدة، وهي حصيلة تلاقح وتفاعل مع الآخر أكثر مما هي ناجمة عن عبقرية خالصة صافية. ومعنى هذا أنّ أحدا لا يستطيع أن يزعم اليوم أنّ ثقافة ما، مهما كانت منزلتها في نظر أصحابها، تستطيع أن تدّعي لنفسها مكانة متميزة تستأثر بها دون سائر الثقافات، أو أن تنظر إلى نفسها نظرة السيد وتنظر إلى غيرها نظرة العبد.
وفي الواقع هناك ما هو مشترك إنساني في ثقافة العصر، لا سبيل إلى تجاهله، وإلا كنا كمن يتجاهل التراث الإنساني الذي أسهم تراثنا العربي - الإسلامي في صياغته، وكان معنى ذلك أيضا تكريس تخلفنا، وبالتالي تبعيتنا. ومن أجل تدارك ذلك يجدر بثقافتنا أن تُبنى وتنمو وتتطور بالاستيعاب النقدي لتراثنا العربي - الإسلامي القديم، والتراث الغربي الراهن، ليس هذا فحسب وإنما بتجديد حياتنا وتحديثها ودمقرطتها وتحريرها، وتوحيدها، والمشاركة الفاعلة في معارك الحضارة في عصرنا الراهن من غير تبعية أو تقليد أو استعلاء.
(5) - ثقافة الامتياز والإنجاز، إذ أنّ الفائزين في المنافسة الحضارية هم مَنْ يسعون لتحقيق أعلى معدلات وأرقى مستويات الأداء في مجالات الحضارة المختلفة، وبخاصة مجالات الإنتاج والاقتصاد والثقافة. وفي زمن ثقافة العولمة، فإنّ طبيعة المخاطر المهددة للثقافة العربية لا تتعلق بعمليات العولمة وتداعياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، بقدر ما تتعلق بمدى قدرتها على تجاوز أزمتها، خاصة ما يتعلق منها بالتنمية الشاملة وتوسيع إطار الديمقراطية، وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل قيم الحوار والتعددية، وقبول الرأي والرأي الآخر، وتوفير حرية البحث العلمي، وإنشاء منظومة تربوية تقوم على تأهيل وإعداد كوادر تعليم عالية المهارات، واحترام عقل المتلقي، وتوفير وسائل تمكينه من الاستيعاب الناقد للمعلومات والآراء وإبداع الأفكار، واختصار الزمن في مناهجنا التعليمية، وإطلاق العنان للطاقات الشابة في كل المجالات لكي تفكر وتبدع وتعزز ثقتها بإمكاناتها.
ومن المؤكد أنّ تنمية منظومة تكنولوجيا المعلومات ودمجها العضوي في مؤسساتنا التعليمية ومجتمعاتنا تشكل حاجة ملحة في عصر مجتمع المعرفة. مع العلم أنّ هذه المنظومة تحمل في طياتها قيما معرفية وثقافية هامة، إنها القيم المتصلة بالحاضر والمستقبل، إنها الروح الوثابة والمنهج النقدي الذي يستفز ركوننا إلى المسلمات الموجودة، ويحثنا على مراجعتها وإعادة النظر فيها.
هكذا، لم يعد مستقبل الثقافة العربية محصورا في التعليم رغم أهميته، أو مقتصرا على مشكلة الكتاب رغم تصاعد دوره وتنوع وسائل تيسيره وإشاعته، وإنما أصبح المستقبل أفقا من الإمكانات المتعددة التي تتعدد فيها وسائط التثقيف التي وصلت إلى درجة هائلة من الانتشار الإعلامي الجماهيري بواسطة التلفاز، على وجه الخصوص، وظهر الدور المتصاعد للمواقع الثقافية على الإنترنت. وكان من نتيجة التعقد اللافت في علاقات العمل الثقافي وأدوات إنتاجه أن اتسع معنى التثقيف العام ليشمل جهود وزارات : التعليم، والثقافة، والإعلام، والشباب، والعمل، والأوقاف، والاتصالات، وغيرها. وتتناغم في هذه الجهود أدوار المؤسسات الحكومية وتنظيمات المجتمع المدني، بالقدر الذي تتشابك وتتقاطع فيه مصالح متعددة من الداخل والخارج، تستعين بأحدث منجزات الثورة المعلوماتية.
(6) - الانفتاح والمبادرة الإيجابية، حيث أنّ الانكماش واتخاذ موقف الدفاع حيال ما يسميه البعض بـ " الغزو الثقافي " هو استراتيجية بائسة وفاشلة تماما، إذ صار الأمل الحقيقي في الصمود رهنا بالتعلم واستيعاب وإتقان ما لدى الآخرين من رصيد المعارف وفنون الإنتاج، ثم في الثقة بالذات والشعور بالواجب الحضاري، وإصلاح شؤوننا الداخلية بعدما فسدت وتدهورت، بدءا من أنظمة الحكم ومرورا بنظام الجامعات ومواقع الإنتاج والخدمات.
ومما لاشك فيه أنّ كل ثقافة يمكنها أن تكون فخورة بما حققته وقدمته للعالم، ولكن يجب أن تعي كذلك نواحيها المظلمة. وفي هذا المجال الأساسي، الذي هو مجال الطريقة التي ننظر بواسطتها إلى أنفسنا، ثمة الكثير الذي لم يتحقق حتى الآن. فالخطوة المنطقية الأولى يجب أن تكون حوار الذات، بروح نقدية، وبرؤية عميقة وبعيدة لسياق التطور العالمي ومعالم دورنا الحضاري الممكن ومقوّمات تحقيقه وعناصر الإعاقة في الوصول إليه. مسلحين في كل ذلك بشجاعة المصلحين مما يعيد للعقل سلطانه وللمنهج التاريخي النقدي مكانته، ثم معرفة عميقة بالغير وبمصالحه، وبنظام تفكيره وأولوياته إزاء ما يهمنا من قضايا، وبرغبة صادقة وأمينة في التفاعل البنّاء القائم على الثقة والصدق في بناء وخدمة المصالح المشتركة من منطلق الاحترام المتبادل وروح الشراكة العادلة والأخوة الإنسانية الناضجة.
وانطلاقا من المعطيات، الموصوفة أعلاه، ثمة أهمية كبرى لصياغة استراتيجية عربية للحوار والشراكة مع الثقافات الأخرى، مما يستدعي القيام بدور نقدي مزدوج : أولا، الاستيعاب النقدي لفكر الآخر، بمعنى المتابعة الدقيقة للحوار الفكري العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبرى. وثانيا، النقد الذاتي للأنا العربية، بما يعنيه ذلك من ضرورة أن نمارس النقد الذاتي لممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عقود مرحلة استقلالاتنا الوطنية على الأقل.
(7) - المؤسساتية، إذ تحتاج الثقافة العربية احتياجا أساسيا وعميقا لاستيعاب أهم منجزات الحداثة وهي المأسسة، بما تنطوي عليه من : تمييز الخط الفاصل بين الشخصي والعام فيما يتعلق بالدور والملكية والسلطة، والاتصال والديمومة في أداء الوظائف، والدقة البالغة في تعيين الاختصاص والتمييز بين الأدوار، وتقسيم العمل، وإحداث التكامل بين الوظائف والاختصاصات عبر آليات مستقلة – نسبيا - عن الأشخاص. وهنا تبرز مهمة المثففين بالتوجه إلى الحداثة كهدف وككل متكامل، بما ينطوي عليه ذلك من تبنّي لسلطان العقل على النقل، والفصل بين الخطابين الديني والسياسي، والتخلّي عن الشعارات والأوهام، وفهم اتجاه الحقبة التاريخية المعاصرة، والدعوة إلى التحديث السياسي باعتباره المدخل الحقيقي لأي تحديث آخر، والدفاع عن المواطنة التي قوامها المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والتمسك باحترام الحق في الاختلاف انطلاقا من نسبية المعتقدات والقناعات حسب قول المفكر الجزائري مالك بن نبي : " رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأيهم خطأ يحتمل الصواب ".
(8) - التصحيح المستمر والنظر للمستقبل، فبسبب المساحة المهيمنة للمطلقات، والتعلق الشديد بالماضي، لا يحتل المستقبل المساحة الجديرة به في الثقافة العربية، فالمستقبل " ليس سوى مجرد استمرار للماضي، بل أنّ أفضل مستقبل هو ما يتقيد بأفضل ما في الماضي "، وكأن الزمن لا يفعل سوى إعادة إنتاج نفسه في نموذج مثالي سرمدي مطلق الصلاحية والحضور. ومن ثم، فإنّ الركود الممتد لأكثر من سبعة قرون له أساس قوي في ثقافتنا، والتحرر من الركود مرهون بتغيير وتجديد نظرتنا للمستقبل. إنّ المستقبل يحمل جديدا وليس مجرد إعادة إنتاج متواصل للماضي، ولذلك يجب أن نصحح - باستمرار - ما نعرفه وما نملكه وما نصنعه، وهو ما يعيدنا للقول بنسبية كل حقيقة بشرية وإخضاعها للنقد والتمحيص.
(9) - استعادة ثقافة المساواة والحق، فمثلا لم ينجح العرب في إقرار حق المرأة في المساواة، وما زالت تلك الضرورة والحتمية متعثرة في الوعي وفي الممارسة على السواء، ونعتقد أنّ تحرير المرأة والإقرار بحقها في المساواة هو شرط مهم لتحرير عقولنا جميعا، بل ولتحرير تاريخنا القومي من الركود.
(10) - جدلية التعاون والتنافس، إذ يجب أن نغرس في الثقافة العربية فكرة أنّ التطور رهن بالتنافس والتعاون معا، ومن ثم أولوية النضال السلمي من أجل حل التناقضات حلا عادلا، ودون إخلال بالحق.
ومن أجل الاستجابة إلى متطلبات التغيير الثقافي في العالم العربي لابد من جملة إجراءات عملية، في مقدمتها :
- تكوين السوق الثقافية العربية المفتوحة، وتوقيع الاتفاقات القانونية الضرورية لضمان حرية انتقال المعلومات والمنشورات والأفكار والإبداعات المختلفة، وإزالة القيود الجمركية عنها.
- زيادة الاستثمار في ميدان الثقافة، بغية توفير الموارد اللازمة لبناء المؤسسات المشتركة، الضرورية، لسد النقص الذي تعاني منه الثقافة العربية في كثير من قطاعاتها.
- وضع سياسات موحدة لضبط استخدامات الأدوات المشتركة والمتداولة على مستوى الأقطار العربية، وفي مقدمتها اللغة العربية عبر بناء أكاديمية عربية واحدة لهذه اللغة، تكون بمثابة القلب المحرك لها، سواء فيما يتعلق برصد مفرداتها الجديدة، أو ضبط استخدامها، أو تنمية طرق تعليمها.
- توحيد برامج التعليم العلمية والتقنية، وإقامة مراكز بحثية، بجانب بناء مجلس علمي مستقل، يحدد خططه واستراتيجية عمله في كل المجالات.
- إقامة مؤسسة عربية للترجمة، بهدف تنسيق الترجمة، وتكوين المعاجم، وبلورة استراتيجية لنقل المعارف العلمية والتقنية بالسرعة المطلوبة والمستوى اللائق.
- إعادة بناء وحدة التاريخ العربي في الوعي والتربية الفردية والجماعية معا، لتجاوز الانقسام بين ثقافة الأمة وثقافة الدولة.
إنّ أول خطوة أمام بناء هذا النظام الثقافي العربي يكمن في التوقف عن استخدام الثقافة بوصفها جهازا من أجهزة السيطرة والمراقبة وتشكيل النفسية والعقلية القابلة للخضوع والإذعان، بغية الانتقال من ثقافة تصنع في خدمة السلطة إلى ثقافة تكون في خدمة التغيير، تغيير الإنسان أولا، وتغيير شروط حياته المادية والاجتماعية والسياسية، والارتقاء بها إلى مستوى الحياة الإنسانية ثانيا، كي لا يجعل من العربي نسخة مشوهة ومترهلة من إنسان النظم الشمولية، التي قضت وأصبحت في ذمة التاريخ !.

كاتب المقال باحث سوري مقيم في تونس

المقال هذافي الأصل ورقة قُدمت في إطار ندوة " الثقافة العربية والتحديات الراهنة " التي دعا إليها المكتب الإعلامي الكويتي بتونس بالتعاون مع الجمعية التونسية للدراسات الدولية في 10 مايو/أيار 2005.