على مدى العقود الماضية، كان الصراع بين الدول الكبرى يأتي على شكل حروب عسكرية أو تجارية أو حتى أيديولوجية، لكن أحداً لم يكن يتصوَّر أن وقتنا الحالي يشهد حرباً تكنولوجية هي الأعتى والأشد اِحْتِدَامًا، لا سيما بين أكبر اقتصادين في العالم، وهما بالطبع الولايات المتحدة الأميركية والصين، تحت مسمى حرب الجيل الخامس، فمن يملك هذه التقنية يملك المعلومات، ومن يملك المعلومات والبيانات لا بد له أن يحكم العالم، والسؤال إلى أين ستذهب هذه الحرب ومن يمكنه التنبؤ بنتائجها والتي يمكن أن تكون كارثية على البشرية ولو انتصر أحد الطرفين في هذه الحرب.
في شهر شباط (فبراير) من عام 2019، قام وزير الخارجية الأميركي الأسبق مايك بومبيو بجولة شملت الكثير من الدول الأوروبية، وأصدر أثناءها تحذيراً شديد اللهجة للمسؤولين في كل محطة توقف بها على طول طريقه، هذا التحذير يتلخص في رفض التعامل مع الشركات الصينية لبناء شبكات اتصالات الجيل الخامس والمعروفة باسم G5 على الأراضي الأوروبية. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، ففي دراسة لمعهد ASPEN للدراسات الاستراتيجية، هدد وزير الخارجية الأميركي بعض الدول الأوروبية مثل المجر وبولندا بسحب القواعد العسكرية الأميركية من على أراضيها ورفض التعاون معها استخباراتياً في حال موافقتها على دخول الشركات الصينية إليها لتركيب شبكات الجيل الخامس.
وقد يسأل البعض ما هي بالضبط تقنية الجيل الخامس أو G5؟، حسب تقرير لشبكة BBC البريطانية، فإنَّ تقنية الجيل الخامس هي شبكة جديدة ومتطورة جداً من اتصال الإنترنت عبر الهاتف المحمول والذي يوفر سرعات تحميل وتنزيل للبيانات أسرع على الأقل بمئة مرة من شبكة الإنترنت التي نعمل بها حالياً، وليس هذا وحسب بل سيسمح إنترنت الجيل الخامس بربط جميع الأشياء التي تستخدم قطاعات الصحة والنفط والتعليم حتى السيارات ذاتية القيادة والبنى التحتية التي تتيح التواصل بين بعضها بعضاً وصولاً إلى إشارات المرور المنتشرة على الطرقات، لكن طالما إن شبكات الجيل الخامس من الاتصالات تتيح مزايا توفر من الوقت والجهد وتفتح آفاق جديدة للبشرية فلماذا تحاول الولايات المتحدة الأميركية إزاحة وإبعاد الصين وشركاتها العملاقة من نشر هذه التقنية عبر العالم؟ تشير صحيفة نيويورك تايمز إلى أن السر يكمن في شركة هواوي الصينية، التي تحولت خلال ثلاثين عاماً من بائع لهواتف رخيصة الثمن إلى المنافس لأكبر الشركات العالمية في مجال الاتصالات الخلوية والتي وصلت إلى أن أخذت حصتها من السوق العالمية منذ عام 2018، وإن شركات مثل إريكسون ونوكيا وآنتل لم تستطيع اللحاق بركب تكنولوجيا الجيل الخامس التي تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى الفوز في سباق التنافس عليها، وفق ما جاء على لسان الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب: "أميركا يجب أن تقود العالم في مجال تكنولوجيا الهواتف المحمولة، ويجب أن تكون شبكات الجيل الخامس آمنة وأن تكون قوية ويجب حراستها من الأعداء".
إقرأ أيضاً: هل يتجه العالم إلى حرب عالمية ثالثة؟
ليس من المستغرب أن تصبح شبكات G5 ساحة معركة سياسية حامية الوطيس، حيث أثارت هذه التقنية أحد أهم المخاوف الوجودية للولايات المتحدة الأميركية وهو أمن المعلومات، وهذا ما أشار إليه المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية في دراسة له حيث ورد في هذه الدراسة "أنه بمجرد أن تهيمن الصين على الاتصالات الرقمية في الغرب ستكون قادرة على تحويل حركة شبكات الإنترنت بحسب رغبتها، وبضغطة زر واحدة يمكنها إيقاف ملايين الأجهزة والمعاملات الرقمية حول العالم". والمخاوف الأمنية من نشر شبكات الجيل الخامس الصينية دفعت مدير المركز الوطني لمكافحة التجسس والأمن في أميركا وليم آر إفانينا إلى القول "إن للشركات الصينية وخاصة شركة هواوي علاقة وثيقة مع الحكومة الصينية"، مستشهداً بقانون الاستخبارات الصيني لعام 2017 والذي بموجبه يحق للسلطات الصينية الطلب من الشركات الصينية تقديم الدعم والمساندة والتعاون في أعمال الاستخبارات الوطنية الصينية أينما كانت وفي أي بقعة تعمل بها حول العالم، لكن مؤسس شركة هواوي الصينية ريند شانك فاي ينفي في أكثر من مناسبة أن تكون شركاته قد تجسست لصالح مخابرات الصين، مؤكداً وبالرغم من دعمه الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، أنه لن يستخدم الشركة للإساءة لأي دولة أخرى.
إقرأ أيضاً: إيران وعشائر سورية
وفيما يشتد الصراع للهيمنة على سوق الجيل الخامس بين العملاقين الاقتصاديين الأميركي والصيني، والذي من المتوقع أن يبلغ حجمه أكثر من 250 مليار دولار عالمياً بحلول العام 2025، يتبادر إلى الأذهان تساؤلات حول مدى أمن بيانات المستهلك العادي في حال استخدامه لهذه التقنية التي ستطرق أبوابنا في الشهور القليلة القادمة، وهذا ما عبر عنه فينت سيرف الملقب أبو الإنترنت، والذي شارك في تأسيس المعايير التقنية التي تدعم الإنترنت منذ سبعينيات القرن المنصرم؛ فسيرف يخشى أن تسبب شبكات الجيل الخامس في الحد من خصوصية المستهلك لأنها وبكل بساطة مصممة لمنح مزودي خدمة الاتصالات مزيداً من التحكم في كيفية استخدام شبكة الإنترنت العالمية بحسب ما نقلته صحيفة التليغراف البريطانية.
لا شك في أن العالم منخرط في سباق تسلح جديد هو سباق يشمل التكنولوجيا وليس الأسلحة التقليدية لذلك فإن أي دولة تهيمن على تقنية الجيل الخامس ستكتسب ميزة الهيمنة الاقتصادية والاستخباراتية والعسكرية على العالم في جزء كبير من هذا القرن، وهذا ما جعل أطراف عديدة في سباق محموم على امتلاك أكثر قدر من التكنولوجيا لمنع الآخرين من تجاوزها وبالتالي السيطرة عليها وهذا ما يمكن أن نطلق عليه الاستعمار بشكله الجديد.
التعليقات