هو كالسهم الذي يحمل سُمًا فإن لم يكن قاتلاً في إصابته، سيكون سمه قاتلًا مع مرور الوقت. أُطلق ذلك السهم في الخريطة السورية مع صرخة السوريين بالحرية ليكون أول سهم خارجي إلى جانب الجزار وجيشه وأجهزته الأمنية التي واجهت الشعب السوري الثائر بالقتل والتعذيب، "فكُل ولِف على ولفِه يَلفي"، والمجرمون لا نصير لهم إلا أمثالهم من المجرمين، لأنَّ الطغاة على أشكالها تقع، فما هو ذلك السهم الذي غرس في صدر السوريين؟

إنه التدخل الإيراني السافر في سورية، والذي بات من الواضح أن هدفه الرئيسي سعي طهران لإقامة ممر بري من أجل الربط بينها وبين لبنان عبر العراق وسورية، بما يسمى مشروع الهلال الشيعي، من خلال تغيير البنية الاجتماعية والثقافية في تلك المناطق، حيث لمع نجم مشروع طهران بعد انحسار داعش وتوغلها في مناطق تواجد التنظيم سابقًا، وتحديدًا في مدينة دير الزور مرورًا بالميادين وصولًا إلى البوكمال، والتي تحولت اليوم إلى أهم معاقل النفوذ الإيراني في المنطقة، والذي دخل بقوة من بوابة العشائر العربية التي تعتبر أحد أهم مكونات الشعب السوري ومصدر قوته، حيث صنعت إيران وجهاء ومشايخ على مقاسها يأتمرون بأمرها وينفذون مخططاتها في المنطقة من حيث يعلمون أم لا يعلمون، ولهذا حرصت إيران منذ تدخلها في سورية على جعل العشائر السورية ورقة بيدها بهدف إقامة منطقة نفوذ دائمة لها في البلاد، وفي البداية لم يتكلل مشروعها بالنجاح كما كان مخططاً له، لتقوم بتصنيع وجهاء وشيوخ محليين لتتحكم بهم بشكل كامل ويتبعون رسميًا التعليمات التي تصدر عن طهران، إلا أن هؤلاء المشايخ الوهميين لم يحظوا بأي اعتراف شرعي من باقي أبناء عشائرهم في المناطق الخارجة عن سيطرة إيران، إلا أن إيران مضت في تنفيذ مخططها بخطى ثابتًة، بالاعتماد على هؤلاء الأدوات، وبدأت بتجنيد أبناء العشائر لصالح ميليشياتها، حيث شكل هؤلاء الوجهاء والمشايخ الوهميون بدعم مالي ولوجستي كبير ميليشيات في مناطق تواجدهم الخاضعة لسيطرة إيران بحجة حماية أنفسهم من خطر الإرهاب، إلا أن الهدف الحقيقي منها كان خدمة وتنفيذ مشاريع طهران، حيث أخذت تسير بشكل رتيب خطوة بخطوة مع التغلغل الإيراني على كافة الأصعدة العسكرية والاجتماعية والثقافية والدينية، لتكون تلك الميليشيات ذراعًا رسميًا لطهران في سورية تحت اسم الحشد الشعبي السوري، والذي يضم عدة ميليشيات أبرزها لواء الباقر بقيادة نواف البشير.

تجاوز التواجد الإيراني في سورية حماية نظام بشار الأسد، إذ وسعت هيمنتها على كافة الأصعدة وكان من بينها الهيمنة الفكرية والعقائدية وأغدقت الأموال الهائلة في سبيل تحقيق هدفها هذا عبر شخصيات العشائر التي صنعتها ومنحتها نفوذًا وسلطة، حيث بنت الحسينيات ومراكز التشيع وأقحمت المناهج الدراسية التي تكرس ثقافة التشيع ونشرت نشاطات اللطميات الشيعية بين الأطفال واستغلت حالة الفقر التي وصل إليها الأهالي عبر إغراءات مادية تصل إلى مئة وخمسين دولارًا لكل عائلة تُعلن تشيعها، كما عملت إيران على نشر منظمات خيرية وإنسانية هدفها تمزيق النسيج الاجتماعي في المنطقة.

لم يكن نشر التشيُّع في دير الزور أمرًا سهلًا بالنسبة الى إيران، حيث لقيت مجابهًة كبيرًة جدًا من قبل أبناء المنطقة ذات الغالبية السنية، ولم تستطع أن تستقطب سوى جزء بسيط من العشائر بسبب الاختلاف العقائدي والمذهبي، وشهدت المنطقة مظاهرات ترفض تمثيل بعض رؤساء العشائر المحسوبين على إيران لهم، كما رفض أجِلاء وأشراف عشائر المنطقة التعاون مع إيران ونظام الأسد وميليشيا قسد، ومنهم شيوخ البكارة والعكيدات والبوخابور والعبيد والجغايفه والمشاهده والجبور والمعامره وطي- البوعاصي، الذين يشددون على أنه لا مكان لإيران في سورية المستقبل، معتبرين أن مشروع إيران ساقط بمجرد سقوط نظام الأسد ويستغربون موقف ما سمي "شيوخ" الذين تستخدمهم طهران كأدوات في تنفيذ مشاريعها ويصفونهم بنكرات مجتمعية وشيوخ ووجهاء أزمة مزيفين سيسقطون بمجرد سقوط المشروع الإيراني في سورية.

لا شك في أنَّ إيران كانت سهمًا سامًا في خريطة ونسيج المجتمع السوري، لكن الجرح الذي سببه هذا السهم لا بد من أن تتم معالجته والتخلص من السم الذي تسلل في غفلة إلى دماء أبناء هذا الشعب الذي أثبت من خلال العشر سنوات المنصرمة أنه الأقوى بين شعوب العالم من حيث الإرادة والتصميم على التغيير واقتلاع القتلة ومن جلبهم مختار المهاجرين إلى بلادنا ليرتكبوا أبشع الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية بحق هذا الشعب الصامد الصابر أمام تآمر العالم كله أملًا في منعه من تحقيق أهدافه التي خرج من أجلها وضحى بخيرة شبابه شهداء على مذبح الحرية والكرامة التي رفع شعارها هذا الشعب البطل منذ اليوم الأول لثورته المجيدة، وأما شيوخ الأزمة الزائفون فهم إلى زوال، فما بني على باطل فهو باطل، ولن يستمر إلا من يعترف به أبناء العشائر كقادة وشيوخ حقيقيين لعشائرهم العربية الأصيلة الضاربة جذورها في عمق التراب السوري والمدافعة عن أرضها وشرف أبنائها ومصالحهم ووجودهم على مر العقود، وما يحصل الآن سوى سحابة صيف ستمضي بسرعة لتعود شمس الحقيقة تسطع من جديد على أرض سورية وشعبها الأصيل، الذي سطر في سجلات التاريخ بطولات أبنائه البررة، وستزهر دماء شهدائه الممزوج بترابها الطاهر ياسمينًا ستفوح رائحته في شوارع أزقة سورية لتغطي على رائحة الدم الذي سفكه مغول العصر الحديث.