أنديجان: ذروة أم بداية؟!

استخدمت السلطات الأوزبكية وسيلة كلاسيكية تماما لمحاصرة الأحداث التي اندلعت في وقت متأخر من مساء يوم الخميس 12 أيار (مايو) 2005 في منطقة أنديجان الواقعة في وادي فرغانة بشرق أوزبكستان، فضربت حصارا إعلاميا (ذهابا وإيابا) لكي تتمكن من فرض رقابة كاملة على حركة المتمردين، سواء المسلحين الذين استولوا على المباني الحكومية واحتجزوا رهائن أو المواطنين العاديين الذين خرجوا للمطالبة باستقالة الرئيس إسلام كريموف وبلقمة الخبز والحرية والديمقراطية.
وإمعانا في "الكلاسيكية" ذهب رئيس الدولة بنفسه ليقود عملية القضاء على "التمرد" من غرفة عمليات بمطار أنديجان. علما بأن الأحداث القيرغيزية بدأت أيضا في منطقة بعيدة عن العاصمة بشكيك. إلى ذلك الحد سارت الأحداث وفق السيناريو القيرغيزي تقريبا. وبالرغم من رفض إسلام كريموف فرض حالة الطوارئ، إلا أن قوات الأمن استخدمت السلاح، لأن المسلحون بدأوا باستخدامه أولا. من هنا بدأ السيناريو في اتخاذ طريق آخر. وهو ما عبر عنه كريموف بقوله "كان المشاركون في أحداث مدينة أنديجان يأملون في تكرار السيناريو القيرغيزي، وفي عدم اتخاذ السلطة لأية إجراءات حازمة، وفي تأييد السكان المحليين لهم، إلا أن خطتهم باءت بالفشل.. إن الأشخاص الذين حاولوا تنظيم الأحداث لم يأخذوا بعين الاعتبار أن الوضع في أوزبكستان وقبرغيزيا مختلف تماما، حيث اقترن احتجاج السكان في قيرغيزيا في عهد أوسكار أكايف بصمم الحكومة والرئيس نفسه، وضعف السلطة أو غيابها تقريبا". ومن الواضح أن تقديرات كريموف في غاية الدقة بشأن اختلاف الوضعين الأوزبكي والقيرغيزي.
ومع الحصار والشح الإعلاميين، بدأت جميع دول العالم تتعامل بحذر مع الأحداث الأوزبكية. غير أن غالبية الآراء، وذلك ليس مصادفة، اتفقت بأشكال مختلفة على رواية في غاية الخطورة، ألا وهي أن المعارضة الراديكالية الإسلامية المرتبطة بطالبان والقاعدة، والتي تتمثل في حزب التحرير الإسلامي الممنوع وما ينبثق عنه من حركات مسلحة خارجة على القانون هي التي تقف وراء تلك الأحداث! وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى كلمة كريموف الخطيرة بشأن اختلاف الوضعين في قيرغيزيا وأوزبكستان.
في الحقيقة كانت قيرغيزيا، بشهادة جميع الخبراء والمراقبين، الدولة الوحيدة في آسيا الوسطي التي تتمتع، بالمقارنة طبعا، بقدر هائل من الديمقراطية. غير أن الرئيس الأوزبكي يرى في ذلك ضعفا!
ومع ذلك فليس هناك أي شك في أن القوى الدينية المعارضة والمقموعة (بجميع فصائلها المعتدلة والمتطرفة) وراء تلك الأحداث بدرجة أو بأخرى. إذن، يبرز تساؤل منطقي: هل هناك أية معارضة من أي نوع آخر في أوزبكستان؟ والإجابة لا تحتاج إلى ذكاء مفرط. فالنظام السياسي الأوزبكي بقيادة كريموف قضى على أي نوع من المعارضة العلمانية، وترك المعارضة الدينية خارج إطار القانون. والسبب واضح تماما: فالنظام يعرف جيدا أنه يمتلك بذلك ورقة رابحة، لأن العالم كله سيعلن خوفه وفزعه من استيلاء هذه المعارضة على السلطة، خاصة وأن الجميع يتمترسون حاليا خلف راية مكافحة الإرهاب، ويواصلون حربهم الضروس ضد القاعدة وطالبان، وبقية التنظيمات الإرهابية الدولية والمحلية على حد سواء.
وعلى الرغم من اختلاف الكثيرين على مفهوم الإرهاب، ووجود خلافات بين القوى الكبرى في هذا الصدد، إلا أن هناك إجماع على التصدي له أينما كان. ولكن أن يتم القضاء على المعارضة الديمقراطية والليبرالية والإصلاحية، والإبقاء على "خافيش الظلام" خارج القانون، أمر جدير بالتفكير!
المحور الآخر والذي ينزع نحو نظرية المؤامرة، هذا إذا اتفقنا مع الجزء السابق من الحديث، هو أن عضو البرلمان الروسي مدير معهد بلدان رابطة الدول المستقلة قنسطنطين زاتولين أعلن، قبيل اندلاع الأحداث في أوزبكستان بعدة أيام عقب لقاء قمة منظمة "جووام" في مولدافيا" وإعلان أوزبكستان الانسحاب منها، بأن هذه الخطوة لن تمر بسلام، وعلى طشقند الاستعداد للانتقام الأميركي. ولكن ما شأن أميركا هنا؟! الموضوع ببساطة يتلخص في أن منظمة "جووام" تتألف من 5 جمهوريات سوفياتية سابقة هي جورجيا وأوكرانيا وأوزبكستان وأذربيجان ومولدافيا. وفي لقاء القمة، تعمد إسلام كريموف عدم المشاركة، وكلف سفيره في كشينيوف بتمثيل أوزبكستان. وخلال اللقاء دعا الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي إلى الخروج من تحت المعطف الروسي والتوجه مباشرة إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. بل وطالب بنزوح الاحتلال الروسي عن أراضي الدول الأعضاء في منظمة "جووام". وعلى الفور أعلن كريموف انسحاب بلاده من المنظمة التي بدأت "تلعب" في السياسة، وتحاول نشر "الثورات الملونة" في بقية جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. وبالتالي اتجه حديث البرلماني الروسي قنسطنطين زاتولين نحو نظرية المؤامرة في إشارة واضحة إلى أن خروج أوزبكستان من المنظمة سيضعفها من ناحية، وسيعطل انطلاقة "الثورات الملونة" التي تقودها القيادتين الجورجية والأوكرانية من ناحية أخرى. الأمر الذي سيضع بدوره بعض العراقيل أمام المشروع الأميركي لدمقرطة هذه المنطقة، أو كما يصفه البعض بـ "انتزاع هذه المنطقة من سيطرة النفوذ الروسي وتحديثها وفقا للمشروع الأميركي الأكبر، ألا وهو بناء النظام العالمي الجديد".
أما المحور الثالث، فيتعلق بالدرجة الأولى بالأوضاع الداخلية في أوزبكستان. وإذا كان قنسطنطين زاتولين لجأ إلى نظرية المؤامرة في جانب من تحليله، وذهب أيضا إلى أن العامل الإسلامي رئيسي في اندلاع الأحداث، لم ينكر في الوقت نفسه أن العامل الداخلي لعب دورا خطيرا، وسيظل بلعب هذا الدور. أما مدير المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية يفجيني كوجوكين فقد رأى أن أوزبكستان تتميز بثروتها البشرية وفي الوقت نفسه فإنها تعاني من مشاكل اجتماعية عويصة. وتوجيه انتقادات لنظام إسلام كريموف أمر يسير في حين أن اقتراح بديل واقعي لسياسته أمر صعب جدا! إذ لم يطرح أحد حلا واقعيا من شأنه أن يساهم في تحقيق الاستقرار في هذا البلد حتى الآن. غير أنه يغفل هنا دور النظام السياسي نفسه في القضاء على جميع البدائل أمام الناس.
ومن جانبها رأت كبيرة الباحثين العلميين في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التابع لأكاديمية العلوم الروسية دينا ماليشيفا أن "الاضطرابات في أوزبكستان لها أسباب كثيرة من بينها الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي فجر الأحداث. فلا توجد أي حلول للمشاكل التي حاولت الحكومة معالجتها والتي تتمثل في البطالة الجماعية والإجحاف الاجتماعي وعدم توفر سبل الحياة إلى الشباب، وتنامي تجارة وتهريب المخدرات. ومن الطبيعي أن تبقى هذه المشاكل حتى إذا ما تسنى للسلطات إخماد الانتفاضة في المدينة. إن اندلاع السخط في أنديجان وغيرها من المناطق قد يحدث مرة أخرى. ولهذا ينبغي على السلطات أن تركز الاهتمام على حل المشاكل الاجتماعية وإجراء الإصلاحات الاقتصادية".
وإذا كانت الباحثة، كغيرها، لجأت إلى الرواية الأسهل بشأن القوى الإسلامية الراديكالية، إلا أنها نصحت بعدم جواز إهمال النظر إلى الأحداث في أنديجان "بمعزل عن موجة الثورات المخملية التي بدأت في هذه المنطقة في قيرغيزيا. إذ أن خطر حدوث الثورات يرغم السلطات في هذه المنطقة على التعامل مع كافة مظاهر السخط بيقظة وبقسوة شديدة. حتى وإن كان لا يقف وراءها الثوريون أو الإسلاميون".
هذه اللوحة المؤلفة من ثلاثة محاور دفعت المراقبين إلى التحذير من أنه وحتى إذا نجح نظام إسلام كريموف في قمع هذه الانتفاضة، فإن ذلك لن يكون الدواء الشافي، خاصة وأن أحداث قيرغيزيا أثبتت بما لا يدع مجالا للشك بأنه كان من الممكن حل مشاكل الناس بسهولة. بل وذهب البعض إلى أن ما جرى في أوزبكستان لا يخصها وحدها، وإنما يخص المنطقة كلها، وهو ما يثير قلق الجميع، بما فيهم روسيا والولايات المتحدة والصين. ويبرز تساؤل بسيط للغاية: هل الأحداث التي لم تنه بعد في
أوزبكستان هي "ذروة" لممارسات النظام السياسي الأوزبكي وستعود الأمور بعدها إلى سابق عهدها، أم أنها بداية لأحداث أخرى ستكون مقدمة لإشعال المنطقة كلها، وإحداث تغييرات جذرية فيها؟ وفي هذه الحالة تصبح "أنديجان" آخر فرصة لإسلام كريموف!