الإهداء‮: ‬إلى العفيف الأخضر

حاول الدكتور محمد عبد المطلب الهوني‮ ‬في‮ ‬مقالة له نشرها في‮ "إيلاف‮" ‬قبل مدّة التطرُّق إلى مسألة الهوس العربي‮ ‬بالعنف‮. ‬لقد قام بطرح سؤال جوهري‮ ‬يجدر بنا أن ننظر فيه مرّة أخرى،‮ ‬لعلّنا نخلص منه إلى ترياق‮ ‬يخفّف من وقع هذا الوباء على نفسيّات الأجيال العربيّة القادمة‮. ‬يطرح الدكتور الهوني‮ ‬السؤال على الملأ،‮ ‬غير أنّه‮ ‬يتركه معلّقًا في‮ ‬الهواء دون أن‮ ‬يزوّدنا بإجابة على سؤاله،‮ ‬أو دون أن‮ ‬يهدينا إلى طريق للخلاص من هذا المأزق‮. ‬صحيح أنّ‮ ‬مجرّد طرح السؤال على الملأ هو قضيّة مهمّة،‮ ‬وقد‮ ‬يشكّل طرحه،‮ ‬على أيّ‮ ‬حال،‮ ‬الخطوة الأولى على طريق الوصول إلى مخرج من المأزق‮. ‬لكن،‮ ‬حريّ‮ ‬بنا جميعًا أن نحاول تلمّس سبل الإجابة عليه‮. ‬لأنّنا من خلال الإجابة‮ ‬يمكننا أن نضع اللّمسات الأولى لما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون برنامج عمل‮. ‬فنحن العرب،‮ ‬في‮ ‬هذا العصر المتأزّم،‮ ‬أكثر الأمم احتياجًا إلى برامج عمل‮. ‬لقد تحدّث الدكتور الهوني‮ ‬عن الهوس العربي‮ ‬بالعنف،‮ ‬ولكنّ‮ ‬السؤال الّذي‮ ‬يجب أن‮ ‬يطفو على السّطح هو‮: ‬لماذا الهوس العربي‮ ‬بالعنف؟‮ ‬إذ أنّه،‮ ‬كما قيل،‮ ‬لو عُرف السّبب بطل العجب‮.‬

أبدأ أوّلاً‮ ‬فأقول،‮ ‬إنّني‮ ‬لا أدّعي‮ ‬هنا في‮ ‬هذه المقالة أنّني‮ ‬أملك الحقيقة كلّها‮. ‬غير أنّني‮ ‬أجد نفسي‮ ‬مضطرًّا إلى طرح بعض الإجابات على التّساؤلات المطروحة والّتي‮ ‬قد تشكّل طرف خيط نمسك به من أجل الوصول إلى الغايةالمرجوّة‮. ‬ففي‮ ‬رأيي،‮ ‬هنالك وجهان لهذا الهوس العربي‮ ‬بالعنف،‮ ‬وإن لم نقم بتقصّي‮ ‬جذور هذين الوجهين فلن نصل إلى أيّ‮ ‬مكان‮. ‬والوجهان اللّذان أعنيهما هما‮: ‬وجه له علاقة بطبيعة وتركيبة المجتمع العربي،‮ ‬ووجه آخر‮ ‬يتعلّق بالجانب الثّقافي‮ ‬الّذي‮ ‬يتأسّس عليه هذا المجتمع‮.‬

أمّا فيما‮ ‬يتعلّق بالتّركيبة المجتمعيّة،‮ ‬فما من شكّ‮ ‬في‮ ‬أنّنا نحن العرب لم نعرف طوال تاريخنا القديم والمعاصر معنى‮ »‬الدّولة‮« ‬بما‮ ‬يعنيه هذا المصطلح‮. ‬جميعنا نعرف نعرف ما كانت عليه حال العرب في‮ ‬الجاهليّة من تناحر قبلي‮ ‬ووقعات اشتهرت لاحقًا بمصطلح‮ »‬أيّام العرب‮«‬،‮ ‬وهي‮ ‬أيّام لا زالت قائمة إلى‮ ‬يومنا هذا‮. ‬والأمر الأبرز في‮ ‬ما‮ ‬يتعلّق بهذا الجانب هو أنّه ما من شكّ‮ ‬في‮ ‬أنّ‮ ‬القبيلة في‮ ‬المجتمع العربي‮ ‬ماضيًا وحاضرًا كانت ولا تزال هي‮ ‬الوحدة السّياسيّة الّتي‮ ‬شكّلت المجال الّذي‮ ‬يتحرّك فيه الفرد العربي‮ ‬اجتماعيًّا وسياسيًّا‮. ‬وبكلمات أخرى،‮ ‬فإنّ‮ ‬نظام القبيلة هو ما‮ ‬يمكن أن نطلق عليه نظام‮ »‬المدينة الدّولة‮«‬،‮ ‬على‮ ‬غرار الـ‮ »‬پوليس‮« ‬الإغريقي‮. ‬وليست العلاقات الّتي‮ ‬تُقام بين القبائل العربيّة سوى شكل آخر من أشكال العلاقات الدپلوماسيّة بين الدّول المختلفة‮. ‬وهي‮ ‬دول قد تتكاتل في‮ ‬فترة معيّنة ثمّ‮ ‬ما تلبث أن تتقاتل،‮ ‬لأسباب كثيرة،‮ ‬كما هي‮ ‬الحال على مرّ‮ ‬التّاريخ‮. ‬

وحتّى الإسلام الّذي‮ ‬يدّعي‮ ‬كثيرون أنّه هدف إلى توحيد القبائل العربيّة،‮ ‬لم‮ ‬يكن كذلك بأيّ‮ ‬حال‮. ‬فلم‮ ‬يأت الإسلام من أجل صهر العرب في‮ ‬أتون مدنيّة عربيّة،‮ ‬وإنّما جاء لتوحيد بطون وأفخاذ قريش الّتي‮ ‬تشتّتت وتضعضع نفوذها في‮ ‬جزيرة العرب مقابل سائر القبائل العربيّة الّتي‮ ‬بدأت تتغلغل فيها النّصرانيّة واليهوديّة إضافة إلى النّفوذ الفارسي‮ ‬والحبشي‮. ‬ولهذا السّبب نجد أنّ‮ ‬الجدل الأوسع هو جدل مع النّصرانيّة واليهوديّة،‮ ‬ويحتلّ‮ ‬حيّزًا واسعًا في‮ ‬الأيديولوجيّة الإسلاميّة‮. ‬ولهذا السّبب أيضًا تمّ‮ ‬إجلاء النّصرانيّة واليهوديّة الّتي‮ ‬رفضت قبول هيمنة المسيحانيّة العربيّة القرشيّة في‮ ‬جزيرة العرب‮. ‬
ليس هذا فحسب،‮ ‬بل إنّ‮ ‬الإسلام قد بنى أيديولوجيّته على ذات الأيديولوجيّة القبليّة الّتي‮ ‬سادت في‮ ‬الجاهليّة‮: »‬خياركم في‮ ‬الجاهليّة خياركم في‮ ‬الإسلام‮«‬،‮ ‬مكرّسًا هذا المبدأ بإضافة تنويعة جديدة عليه من مثل‮ »‬إذا فقهوا‮«. ‬غير أنّ‮ ‬المبدأ القبلي‮ ‬هو ذاته لم‮ ‬يتغيّر‮. ‬وهكذا صارت مسألة النّسب في‮ ‬الخلافة الإسلاميّة هي‮ ‬المبدأ الّذي‮ ‬تنبني‮ ‬عليه الخلافة‮. ‬لقد وسّع الإسلام النّموذج القبلي‮ ‬إلى‮ »‬أمّة‮« ‬في‮ ‬مقابل سائر القبائل،‮ ‬أي‮ ‬شعوب العالم الأخرى‮. ‬ولذلك وبعد أن قويت شوكة الإسلام فقد قام بملاحقة سائر الملل والشّعوب إلى عقر دارها في‮ ‬عصر الفتوحات،‮ ‬وهي‮ ‬فتوحات على أيّ‮ ‬حال لا تختلف بشيء عن عصر الإستعمار الأوروبي،‮ ‬هذا إن لم نذهب إلى أبعد من ذلك في‮ ‬طرحنا‮. ‬فلو أنّ‮ ‬الإسلام قد جاء حقًّا لتوحيد العرب ضمن هويّة واحدة وبناء مجتمع جديد لما كان خرج خارج حدود العرب الجغرافيّة‮. ‬والحقيقة الّتي‮ ‬لا بدّ‮ ‬من طرحها هنا هي‮ ‬أنّ‮ ‬الإسلام،‮ ‬في‮ ‬جوهره،‮ ‬ليس سوى تحويل للنّعرة القبليّة المتفشّية بين العرب إلى نعرة عربيّة موحّدة بلباس أيديولوجي‮ ‬إسلامي‮ ‬من جهة،‮ ‬و تحويل الغزوات المتبادلة بين القبائل العربيّة إلى اتّحاد قبلي‮ ‬يغزو سائر الشّعوب المحيطة ببلاد العرب من جهة أخرى،‮ ‬وهذا ما حدث فعلاً‮. ‬وحتّى هذا التّوجّه لم‮ ‬يدم طويلاً،‮ ‬فالطّبع العربي‮ ‬يغلب التّطبُّع،‮ ‬إذ سرعان ما ثارت النّعرات القبليّة منذ نشوء الإسلام وبدأ الصّراع على الخلافة على أساس هذه النعرة القبليّة السّائدة في‮ ‬ذهنيّة العرب‮. ‬

وما النّظرة المتفشّية بين الإسلامويين اليوم إلى عصر الرّاشدين وكأنّه العصر الذّهبي‮ ‬للإسلام سوى شعار باطل لا‮ ‬يستند إلى أيّ‮ ‬حقائق تاريخيّة‮. ‬يكفي‮ ‬أن نعرض خبرًا واحدًا عن هذا الماضي‮ ‬الذّهبي‮ ‬الّذي‮ ‬يتشدّق به الأسلامويّون،‮ ‬وهو مجرّد خبر واحد عن مقتل الخليفة عثمان بن عفّان،‮ ‬وهو خير مثال على ما آل إليه التّاريخ العربي‮ ‬على مرّ‮ ‬التّاريخ‮. ‬فلنقرأ معًا بتمعّن ما رواه لنا الطّبري‮ ‬في‮ ‬الجزء الرّابع من تاريخه‮: »‬وأمّا عمرو بن الحمق فوثب على عثمان،‮ ‬فجلس على صدره وبه رمقٌ،‮ ‬فطعنه تسع طعنات‮. ‬قال عمرو‮: ‬فأمّا ثلاث منهنّ‮ ‬فإنّي‮ ‬طعنتهنّ‮ ‬إيّاه للّه،‮ ‬وأمّا ستّ‮ ‬فإنّي‮ ‬طعنتهنّ‮ ‬إيّاه لما كان في‮ ‬صدري‮ ‬عليه‮«.‬
وهكذا،‮ ‬وبعد مقتل عثمان،‮ ‬فقد ألقي،‮ ‬وهو الخليفة كما نعلم،‮ ‬في‮ ‬دمنة حتّى نهشت الكلاب قدمه،‮ ‬فلنقرأ أيضًا معًا ما‮ ‬يرويه لنا ابن أعثم الكوفي‮ ‬في‮ ‬الجزء الثّاني‮ ‬من كتاب الفتوح‮: »‬وبقي‮ ‬عثمان ثلاثة أيّام دون أن‮ ‬يدفن حتّى كاد أن‮ ‬يتغيّر‮. ‬وقال أحد كبار الخارجين من أهل مصر ويدعى عبدالله بن سحراد‮: ‬لن نرضى أبدًا بدفنه في‮ ‬مقابر المسلمين لأنّه ليس مسلمًا‮. ‬فقد سمع في‮ ‬أيّام خلافته حين عاد من المسجد إلى منزله وحوله بنو أميّة فقال أبو سفيان‮: ‬يا بني‮ ‬أميّة،‮ ‬تلقّفوها تلقّف الكرة،‮ ‬فوالّذي‮ ‬يحلف به أبو سفيان‮: ‬ما من عذاب ولا حساب،‮ ‬ولا جنّة ولا نار،‮ ‬ولا بعث ولا قيامة‮. ‬وأنّه بدلاً‮ ‬من أن‮ ‬يُقيم حدّ‮ ‬المرتدّ‮ ‬أعطاه مئتي‮ ‬ألف دينار من بين مال المسلمين‮«. ‬وهذا‮ ‬غيض من فيض ممّا‮ ‬ينضح به التّاريخ العربي،‮ ‬ومجلّدات التّاريخ العربيّ‮ ‬تكاد لا تحتوي‮ ‬سوى على هذا النّوع من القصص العنيف والقتل والسّحل،‮ ‬في‮ ‬السّاحات والقصور والمساجد‮. ‬

فهل هذا هو العصر‮ »‬الذّهبي‮« ‬الّذي‮ ‬يتشدّق به الإسلامويّون؟‮ ‬إنّه شعار جاء ليشلّ‮ ‬عقول العرب ويحجب عيونهم عن النّظر إلى المستقبل‮. ‬فإن كان هذا الماضي،‮ ‬على ما فيه من عنف،‮ ‬هو ذروة ما‮ ‬يصبو إليه العربي‮ ‬المسلم،‮ ‬فما شأنه إذن بالمستقبل وما فيه من علوم واكتشافات وتطوّرات على جميع الأصعدة؟‮ ‬الحقيقة‮ ‬يجب أن تُقال على الملأ،‮ ‬إذ‮ ‬يبدو أنّ‮ ‬هذه العصور‮ »‬الذّهبيّة‮« ‬الموهومة،‮ ‬وتلك الممارسات العربيّة لم‮ ‬يطرأ عليها أيّ‮ ‬تغيير منذ ذلك الحين وحتّى الآن‮. ‬والحقيقة المرّة أيضًا هي‮ ‬أنّ‮ ‬الإسلامويّين‮ ‬يعتاشون على الأميّة المتفشّية في‮ ‬صفوف عامّة الشّعوب العربيّة‮. ‬إنّهم‮ ‬يعتاشون على جهل الشّعوب العربيّة الّتي‮ ‬لا تقرأ هذا التّراث الدّموي،‮ ‬وإن قرأته فهي‮ ‬لا تفهمه،‮ ‬وإن لم تفهم ما تقرأ فإنّها تخجل أن تسأل،‮ ‬وإن سألت فليس لديها من تسأل سوى فقهاء الظّلام هؤلاء الّذين‮ ‬يزيّنون لها هذا التّاريخ‮.‬

والوجه الآخر للعنف العربي،‮ ‬كما أراه،‮ ‬له علاقة وثيقة بالموروث الأدبي،‮ ‬والشّعر الجاهلي‮ ‬وشبيه الجاهلي‮ ‬بصورة خاصّة،‮ ‬هذا الموروث الّذي‮ ‬تتربّى عليه الأجيال العربيّة من المحيط إلى الخليج‮. ‬إنّه تراث من شعر الحرب والقتل والسّحل والسّيوف والخيول وقطع الرّؤوس،‮ ‬إذ أنّ‮ »‬السّيف أصدق إنباءً‮ ‬من الكتب‮«‬،‮ ‬إلى آخر القائمة من هذه‮ »‬الدّرر‮« ‬الّتي‮ ‬عاثت فسادًا بذهنيّة العرب طوال قرون‮. ‬ويكفي‮ ‬أن نُعطي‮ ‬مثالاً‮ ‬على هذه العقليّة،‮ ‬وهو مثال لا‮ ‬يزال عالقًا في‮ ‬ذهنيّة من تربّوا على هذا تراث الغزوات الجاهليّة‮. ‬
فهذا بن لادن‮ ‬يقرأ شعرًا في‮ ‬بعض التّسجيلات المتلفزة،‮ ‬فماذا‮ ‬يقرأ على بن لادن على الملأ؟‮ ‬
لنقرأ معًا‮:‬
إن‭ ‬أطبقت‭ ‬سدفُ‭ ‬الظلام‭ ‬وعضّنا‭ ‬ناب‭ ‬أكولُ
وديارنا‭ ‬طفحت‭ ‬دما‭ ‬‮ ‬ومضى‭ ‬بها‭ ‬الباغي‭ ‬يصولُ
ومن‭ ‬الميادين‭ ‬اختفت‮ ‬‭ ‬لُمع‭ ‬الأسنة‭ ‬والخيولُ
وعلت‭ ‬على‭ ‬الأنات‭ ‬أنـغام‭ ‬المعازف‭ ‬والطبولُ
هبت‭ ‬عواصفهم‭ ‬تدك‭ ‬صروحه‭ ‬وله‭ ‬تقولُ
لن‭ ‬نوقف‭ ‬الغارات‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬مرابعنا‭ ‬تزولُ
وعندما هرب واختفى سفّاح العراق في‮ ‬جحوره،‮ ‬بدأ‮ ‬يبعث هو الآخر رسائله المتلفزة‮. ‬وهو أيضًا على‮ ‬غرار هذه العقليّة العربيّة المتكلّسة‮ ‬يقرأ الشّعر أيضًا‮. ‬فماذا‮ ‬يقرأ؟‮ ‬
لنقرأ معًا‮:‬
أطلقْ‭ ‬لها‭ ‬السّيف‭ ‬لا‭ ‬خوفٌ‭ ‬ولا‭ ‬وجلُ‭ ‬أطلق‭ ‬لها‭ ‬السيف‭ ‬وليشهدْ‭ ‬لها‭ ‬زحلُ
أسرجْ‭ ‬لها‭ ‬الخيلَ‭ ‬ولتطلقْ‭ ‬أعنّتها‭ ‬كما‭ ‬تشاء‭ ‬وفي‭ ‬أطرافها‭ ‬الأملُ
واقدحْ‭ ‬زنادَك‭ ‬وابْقِ‭ ‬النارَ‭ ‬لاهبةً‭ ‬يخافها‭ ‬الخاسئ‭ ‬المستعبد‭ ‬النّذلُ
أطلقْ‭ ‬لها‭ ‬السّيفَ‭ ‬جّردْهُ‭ ‬كبارقة‭ ‬ما‭ ‬فاز‭ ‬بالحقّ‭ ‬الا‭ ‬الحازمُ‭ ‬الرّجلُ
إنّها،‮ ‬إذن،‮ ‬الذّهنيّة ذاتها منذ عصر الجاهليّة وحتّى عصرنا هذا،‮ ‬لم‮ ‬يتغيّر في‮ ‬هذه الذّهنيّة شيء طوال كلّ‮ ‬هذه القرون‮. ‬

وبكلمات أخرى،‮ ‬يمكن القول إنّ‮ ‬الأصوليّة العربيّة تنهلُ‮ ‬من موردين،‮ ‬مورد ديني‮ ‬ومورد ثقافي،‮ ‬وكلاهما‮ ‬يربّي‮ ‬الأجيال على العنف القبلي‮ ‬وعلى العنصريّة تجاه الآخرين كلّ‮ ‬الآخرين‮. ‬بل ويجعل من كلّ‮ ‬هذا التّراث العنيف ومن هذه العنصريّة قيمة حضاريّة‮ ‬يتفاخر بها‮. ‬بالإضافة إلى ذلك،‮ ‬وبسبب الأميّة المتفشّية في‮ ‬صفوف الجماهير العربيّة منذ القدم،‮ ‬فقد تجذّر الإنسان العربي‮ ‬على مرّ‮ ‬التّاريخ في‮ ‬حالة بشريّة‮ ‬يمكن أن نطلق عليها حالة الإنسان السّماعي،‮ ‬بدلاً‮ ‬من أن‮ ‬يتحوّل مع الطّفرة التّربويّة والعلميّة المعاصرة إلى حالة الإنسان القارئ،‮ ‬أي‮ ‬إلى حالة الإنسان الواعي‮. ‬

بل ويمكن القول إنّ‮ ‬ثمّة جانب آخر‮ ‬يترافق مع هذه الأميّة المتفشّية،‮ ‬وهو الوضع المأساوي‮ ‬الّذي‮ ‬لحق باللّغة العربيّة وأصحابها على جميع الأصعدة‮. ‬فالنّظرة الأصوليّة إلى هذه اللّغة بوصفها لغة القرآن،‮ ‬أي‮ ‬لغة مقدّسة،‮ ‬وضع قيودًا عليها فانكفأت على ذاتها لا تواكب العصر الحديث على مافيه من طفرات علميّة‮. ‬لقد آل حال العربيّة إلى وضع صار فيه أهل هذه اللّغة‮ ‬يبتعدون عنها مفضّلين اللّغات الأخرى الّتي‮ ‬تُكتب وتُقرأ وتُلفظ دون فروق تذكر بين هذه الحالات،‮ ‬بخلاف اللّغة العربيّة الّتي‮ ‬إن كُتبت لا تُقرأ،‮ ‬وإن قُرئت لا تُلفظ في‮ ‬الشّارع ولا في‮ ‬الحديث اليومي‮ ‬فتكوّنت فجوة كبيرة بينها وبين حياة البشر اليوميّة على جميع مجالاتها‮.‬
وهكذا وصلنا إلى وضع‮ ‬يمكن أن نطلق عليه وضعًا من انعدام هذه اللّغة لدى عامّة الشّعوب العربيّة،‮ ‬أي‮ ‬أنّ‮ ‬اللّغة العربيّة في‮ ‬الحقيقة ليست لغة أمّ،‮ ‬وإنّما هي‮ ‬لغة مكتسبة بالدّراسة وموجودة في‮ ‬الكتب،‮ ‬وليست هي‮ ‬لغة التّخاطب في‮ ‬البيت والشّارع‮. ‬ولمّا كانت حال العرب من الأميّة على ما هي‮ ‬عليه،‮ ‬وانحسار القراءة وانتشار الكتب كما تشير جميع التّقارير،‮ ‬فإنّ‮ ‬هذا الوضع قد أوصل عامّة شعوب العرب إلى حال من الشّيزوفرينيا اللّغويّة‮. ‬وبكلمات أخرى،‮ ‬العرب بعامّة منوجدون في‮ ‬حالة من العجز اللغوي‮ ‬عن التّعبير االذّاتي،‮ ‬إذ أنّ‮ ‬اللّغة هي‮ ‬التّعبير الأقوى عمّا‮ ‬يفرزه العقل البشري‮. ‬ولو نظرنا إلى عالم الأطفال لوجدنا أن العنف‮ ‬يتولّد لديهم عندما‮ ‬يكونون‮ ‬يفتقرون إلى لغة التّعبير‮. ‬فكلّما كانت لغة الأطفال‮ ‬غنيّة كلّما كان بوسعهم التّعبير عن ذواتهم فيبتعدون عن لغة العنف الكلامي‮ ‬والجسدي‮. ‬

وما حال العرب في‮ ‬هذه الأيّام سوى حالة طفوليّة على جميع الأصعدة،‮ ‬فالعرب‮ ‬يفتقدون لغة التّعبير‮ ‬السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية،‮ ‬والعاطفيّة إلى آخر هذه القائمة‮. ‬وفي‮ ‬حال الطّفولة العربيّة هذه فإنّ‮ ‬التّعبير الوحيد الّذي‮ ‬يصدر عنها هو تعبير العنف بجميع أشكاله‮.‬

ما العمل،‮ ‬إذن؟
أوّلاً،‮ ‬هنالك ضرورة ملحّة إلى إعداد معاجم عربيّة معاصرة تحوي‮ ‬هذه اللّغة المكتوبة اليوم،‮ ‬والّتي‮ ‬أستطيع أن أجزم أنّ‮ ‬غالبيّة طلبة المدارس والجامعات لا‮ ‬يفهمونها،‮ ‬ويخجلون من الإفشاء بعدم الفهم هذا فتتولّد لديهم حال من فنتازيا الفهم،‮ ‬لا حال من الفهم الحقيقي‮. ‬كذلك،‮ ‬هنالك ضرورة ملحّة إلى إعداد مناهج تعليميّة عصريّة للمدارس العربيّة تُغلّب العقل على النّقل،‮ ‬كما أشار أكثر من مرّة‮ ‬وفي‮ ‬أكثر من مكان الأستاذ العفيف الأخضر‮. ‬وبكلمات أخرى،‮ ‬هنالك حاجة إلى مناهج تعليميّة تُغلّب الشّكّ‮ ‬على اليقين‮. ‬لأنّ‮ ‬الشكّ‮ ‬هو محرّك البحث عن الحقيقة،‮ ‬وهو رافعة العلوم،‮ ‬بينما اليقين،‮ ‬أي‮ ‬الإيمان الأعمى،‮ ‬هو الّذي‮ ‬أوصل الإنسان العربي‮ ‬طوال هذه القرون إلى هذه الحال من الشّلل‮. ‬

وثانيًا،‮ ‬العمل على إعداد مناهج تجديديّة فيما‮ ‬يخصّ‮ ‬اللّغة العربيّة تهدف إلى جسر الهوّة القائمة بين اللّهجات الدّارجة المحكيّة وبين لغة الكتابة،‮ ‬لأنّ‮ ‬لغة الكتابة هي‮ ‬لغة العقل،‮ ‬بينما اللّهجات المحكيّة،‮ ‬وهي‮ ‬لغة النّقل التّبسيطي،‮ ‬الّذي‮ ‬لا‮ ‬يمكن بأيّ‮ ‬حال أن‮ ‬يجاري‮ ‬العصر وعلومه المتطوّرة في‮ ‬جميع الأصعدة‮. ‬يجب أن تصل الأمّ‮ ‬العربيّة إلى وضع تكتب فيه وتقرأ وتتكلم في‮ ‬البيت والشارع ومكان العمل‮ ‬بنفس اللّغة‮. ‬فقط في‮ ‬حال كهذه‮ ‬يستطيع الطّفل العربي‮ ‬أن‮ ‬يقول إنّ‮ ‬العربيّة هي‮ ‬لغة أمّه‮. ‬
‮ ‬
وخلاصة القول،‮ ‬نحن منوجدون في‮ ‬حال من الشّيزوفرينيا الحضاريّة‮. ‬فمن جهة نحن في‮ ‬حال طفوليّة حضاريًّا من ناحية الإبداعات المعرفيّة في‮ ‬جميع المجالات واللّغوية على وجه الخصوص،‮ ‬ومن جهة أخرى نحن في‮ ‬حال من الشّيخوخة النّفسيّة نعيش على أمجاد ماضٍ‮ ‬متخيّل،‮ ‬نسمع به ولا نقرأه‮. ‬وفوق كلّ‮ ‬ذلك لا نملك ألسنة نتحدّث بها،‮ ‬إذ قامت السّلطات السّياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة وعلى مرّ‮ ‬العصور العربيّة بقطع ألسنة العرب‮. ‬وبذلك صار العنف هو السّبيل الوحيد للتّعبير العربي‮ ‬والإسلامي‮ ‬عن الذّات‮.‬

ملاحظة‮: ‬رغبت أن أعبّر بهذه المقالة عن تضامن من نوع آخر،‮ ‬وبهذه الصّورة،‮ ‬مع الأستاذ العفيف الأخضر في‮ ‬مواجهة قوى الظّلام‮.‬

[email protected]