لعل من إعجاز القرآن الكريم أنه "حَمّال ذو وجوه." ومن حكمة الله أن لا يتسلط بشر على بشر باسمه، أو عن طريق رسالاته. بمعنى أنه لا ينزل إلى مستوى السياسة اليومية والدساتير الاجتماعية، التي ليس لها غير وجه واحد، يصوغه الناس حسب متطلبات أزمنتهم. وليس في القرآن ككتاب سماوي غير خطوط عامة، واستنفذ الكثير منها في الفترة النبوية، ذلك لتثبيت الدعوة الدينية. فالوحي كان متواصلاً عبر النبي، فما أن يهبط بأمر ما إلا وردفه بأمر آخر عند الحاجة، ينسخ الأول لانتهاء ضرورته، حتى ظهر علم الناسخ والمنسوخ، الذي أعترف به حزب ورفضه آخر.
ورد في الحديث النبوي: "القرآن ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه"(شهري، ميزان الحكمة، الدار الإسلامية 8ص102). وقال الإمام علي بن أبي طالب لعبد الله بن عباس، وهو يعزم لمناظرة الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسُنَّة فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً"(نهج البلاغة، شرح محمد عبده، وصية رقم 315 ص622). ويشرح ابن أبي الحديد هذه الوصية بالقول: "ذلك أن القرآن كثير الاشتباه، فيه مواضع يُظن في الظاهر أنها متناقضة متنافية"(شرح نهج البلاغة، دار مكتبة الحياة 5ص250).
ما يوصي به اليوم المتشددون يتعارض تماماً مع طبيعة القرآن، وحكمة الله في اختلاف البشر. فقبل نـزول القرآن ظهرت قوانين وشرائع، أُعطيت سمة دينية، لكنها نسبت صراحة لمصلحين ولملوك مع تغليفها بمسحة مقدسة، وظلت البشرية تتعامل بها بعد تعديلها من جيل إلى آخر. وقد ورد العديد منها في الكتب السماوية. وحتى يدوم التأثير الديني كضمير مؤثر لا بد له التعالي على المتغير اليومي، وأعني به السياسة والشرع المدني. وما سعي رجال دين من فرض الدين على السياسة ما هو إلا تقنين للدين، وإضعاف هيمنته الروحية في قلوب الناس. ودولة طالبان أفصح دليل على ذلك. ولذلك تحزب رجال الدين وعلماؤه إلى حزبين، حزب يرى من مصلحة قدسية الدين كمؤثر روحي أن ينأى عن السياسة اليومية، وحزب أراد له الهيمنة لتكون منه دكتاتورية دينية، وهي على حد عبار آية الله البهادلي، حسب مقابلة أجرتها معه مؤخراً مجلة "النور" الإسلامية بلندن، أنها من أقسى الدكتاتوريات.
كان الحديث أو وصية الإمام علي من العمق والفلسفة في تشخيص هذه الظاهرة. هذا ما خص النص القرآني، فما بالك في التفسير والتأويل؟ وعلى هذه الخلفية من حكمة التناقض والتعارض في النص ، وما تبعه من اختلاف المفسرين كثرت المذاهب الفقهية، وزادت الفِرق الإسلامية، وهي اليوم إن عُدت بدقة لكانت المئات. وتجد الاختلاف ليس بين المذاهب الكبرى بل بين فقهاء المذهب الواحد. ولمزامنة الزمن ومعايشة حوادثه ظهر الاجتهاد وظهر القياس. وقبل هذا انقسم العلماء بين أهل رواية وبين أهل رأي. فكيف يُراد لهذا التعارض وهذا التناقض أن يكون دستورا،ً وتنشأ على أساسه دولة إسلامية معافاة من الظلم، وارفة العدالة؟ ولم تأت فكرة المهدي أو المنقذ المنتظر في الأديان والمذاهب كافة إلا للأمل في الدولة السعيدة، التي دعتها الديانة البوذية عصباً في فلسفتها. فلو كان من حكمة الله توحيد البشر بشريعة ودستور لسبقت إلى التطبيق، وتخلص البشر من حكم البشر أنفسهم!
بالأمس، بعد ضرب وسط لندن بالمتفجرات، احتج مؤيدو التفجيرات بالآية "وأعدوا لهم ما استطعتم من قُوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوا الله وعدوَّكم"(الأنفال 61). وهم معذرون لأنهم يلتزمون نصاً قرآنياً، والعدو بالنسبة إليهم مَنْ لا يحكم بالشريعة، ومَنْ لم يستجب لدعوتهم وأفكارهم. أما تكملة الآية "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" فتعني الجنح إلى السلم بعد النزول عند شروطهم، التي هي بالتالي شروط الله ونبيه. بالتأكيد لا يمكن فصل سورتي "التوبة" و"الأنفال" وكل الآيات المحرضة على الشدة والقوة، والمتعارضة مع روح التسامح عن القرآن. لكن ألا يجدر أن نأخذها بزمنيتها، ونأخذ ناسخها ومنسوخها بنظر الاعتبار؟ كذلك التواقون إلى السلم، والتعايش الدولي مع الأديان الأخرى يرفعون آية "لا إكراه في الدين" شعاراً في محاولاتهم في التقريب والتآخي بين أديان الأرض، فهي بالتالي من الله كافة. فلو وقف الطرفان، أهل الفرض بإرهاب الآخر وأهل لا إكراه في الدين، في مجلس جدل أو مناظرة، أترى يكسب أحدهما الجولة، وهما يستندان إلى قرآن واحد؟ لا اعتقد ذلك. وهنا تأتي حكمة فلسفة القول: "القرآن حمَّال ذو وجوه". وبالمناسبة احتج أحد المروجين من العروبيين للإرهاب بالعراق أن القرآن قال "ترهبون"، فماذا لو سميت (المقاومة الباسلة)، على حد قوله بالعراق إرهاب.
ولو جادلت قاتلي الأسرى، أو المختطفين، بالعراق لقالوا لك نحن نريد تنفيذ شرع الله "لا حكم إلا لله". وأتوك بالآية التالية حجة على ما يسُنَّون: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض"(الأنفال 67). ويأتوك بتفسير جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلي لها: "للمبالغة في قتل الكفار" (تفسير الجلالين للآية). والكافر عندهم هو كل مَنْ ليس مسلماً، وكل مَنْ ليس على مذهبهم. فكم قتل هؤلاء من مختطف مسلم شيعي. وبحد الردة قتلوا السفير المصري ببغداد. أما المسلمون من أهل التسامح فيأتوك بسورة الكافرين كاملة، لأنها غاية في اللاإكراه في الدين، وغاية في احترام الآخر: "قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دينِ".
أقول: لو كان القرآن غير حمّال ذي وجوه لما ظهرت مذاهب وفرق في الإسلام الواحد، وصل الأمر بينها إلى غزوات واجتياحات وإبادات. فكيف يُراد لنص حُكم بقدرة قائله بهذا التعارض أن يكون دستوراً ومنهجاً سياسياً صالحاً لكل زمان ومكان. أليس هذه الدعوة بحد ذاتها نحر للدين، وثقل على البشر بما لا طاقة لهم فيه. فمن حق الذين يدعون إلى تعدد الزوجات أن يستندوا في تشريعهم إلى الآية: "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"(النساء 30). ويشرعون دون النظر إلى أن السبب هو حفظ أموال اليتامى، لا للمتعة وإشهار الجاه وكثرة البنين. والمشرعون لم ينظروا في الآية: "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة". أما الرافضون لتعدد الزوجات، مثل الشيخ محمد عبده، فيستندون إلى الآية "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"(النساء 129). إذاً مَنْ من الطرفين هو الأحق في تطبيق القرآن أو الشريعة المستندة إليه؟ أليس أنها حكمة قادر أن لا يجعل الله بشر يتسلط على بشر باسمه؟
كذلك يستند القائلون بقوامة الرجال، وحصتهم المضاعفة من الإرث بقوله: "يُوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"( النساء 11). بينما يستند الرافضون لهذه القسمة إلى أنها مجرد وصية وليست حكماً "يوصيكم الله". والوصية غير الأمر. ويرد الطرف الآخر أن الآية تكررت في موقع آخر من السورة نفسها بلا وصية، أي وردت مثل أمر في (النساء 176).
وربما يتوقف البعض عند الآية لينظر في تحريمات الشراب والطعام الأخرى "قل لا أجد في ما أوحى إليَّ مُحرماً على طاعم يَطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفُحاً أو لحمَ خِنزير"(الأنعام 145) أنها شاملة، وناسخة لكل ما عداها من التحريمات. فيجد في اجتناب الخمر ماهو أقل من التحريم، ومن المستثنيات في الآية الآنفة. كما ورد في الآيات: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" (المائدة 90). و"إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله"(المائدة 91). و"يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"(البقرة 219). و"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتى تعلموا ما تقولون"(النساء 43).
وقد وردت اختلافات بين الفقهاء حول درجة السُكر، هل السكران مَنْ لا يفرق بين السماء والأرض، أو لا يميز بين ثيابه مثلاً. وظل هذا النقاش حتى أن بعض الفقهاء أجازوا النبيذ ولهم حججهم في ذلك. ولعدم وضوح الأمر طلب الخليفة عمر بن الخطاب توضيحاً صريحاً في أمر الخمر. قال: "أللهم بَيَّن لنا في الخمر بياناً شفاءً"(الكتب الستة، سنن أبي داوود، باب الأشربة). فنزلت الآية "لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى" (المصدر نفسه). وسمعت بعضهم يقول أن ما حُرم لم يرد في الجنة كطعام، فلم يرد لحم الخنزير، ولا الميتة ولا الدم. لكن ورد الخمر في أكثر من آية كمتعة من متع الحنة. والقرآن لم يتأخر في ذكر ما جاء في قصة يوسف "أما أحدكما فيسقي رَبَه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه"(يوسف 41). وامتدح القرآن النخيل والأعناب لأن منها الرزق والسكر وهو الخمر عند المفسرين: قال: "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سَكراً ورزقاً حسناً"(النحل 67). أليس هذه النصوص لو يُراد لها أن تؤخذ كدستور وشريعة ستكون محط نقاش وجدل، والمفروض أن يُنأى بالقرآن عن الجدل والمناظرة، فهو كلام الله المقدس. لكن مَنْ يقبل أن تفرض عليه شريعة، ويخضع لدستور لا يجادله ويحاور فقراته، ويقترح الإزادة والنقصان فيها؟
هناك عدد كبير من الآيات التي تحفظ للقرآن منزلته كوصاية ضمير على الناس، لا كقانون يهبط إلى مستوى التنفيذ، وتشوهه ممارسات الرجال. ليس في النصوص التالية ما يسمح في السعاية إلى التكفير، أو الدعوة إلى حكومة دينية. وبالتالي ما يتحقق هو فرض دين الرجال لا دين الله. منها: "وإن تولوا فإنما عليك البلاغ"(آل عمران 20). "فاعرض عنهم وعظهم"(النساء 63). "ومَنْ تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً"(النساء 80). "فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً"(النساء 90). "ما على الرسول إلا البلاغ"(المائدة 99). "قل لستُ عليكم بوكيل"(الأنعام 66). "فمَنْ أبصر فلنفسه ومَنْ عميَ فعليها وما أنا عليكم بحفيظ"(الأنعام 104). "وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل"(الأنعام 107). "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لستَ منهم في شيءٍ إنما أمرهم إلى الله"(الأنعام 159). "وإن كذبوك فقل لي عَملي ولكم عملكم"(يونس 41). "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"(يونس 99). "فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومَنْ ضل فإنما يَضل عليها وما أما عليكم بوكيل"(يونس 108). (وأصبر حتى يحكم الله بيننا"(يونس 109). "إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل"(هود 12). "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحِساب"(الرعد 40). "ربكم أعلم بكم أن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلاً"(الإسراء 54). "قل مَنْ كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مَداً"(مريم 75). "أدفع بالتي هي أحسن"(المؤمنون 96). "وأن أتلوا القرآن، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومَنْ ضل فقل إنما أنا من المنذرين"(النمل 92). "ومَنْ كفر فلا يحزنك كفره"(لقمان 23). "فأعبدوا ما شئتم من دونه"(الزمر 15). "فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعملون"(الزخرف 89). "وما أنت عليهم بجبار"(ق 45).
يجادل مَنْ يرفض تطبيق الشريعة، وإقامة دولة دينية، وهو يستند إلى هذه النصوص وغيرها، وهي كما يتبن واضحة لا تقبل التأويل والتفسير، أن الدين ضمير لا دولة وسلطة، وتعني "الدين لله والوطن للجميع". لكن بما أن القرآن حمّال ذا وجوه هناك من النصوص الكثيرة التي تسند أصحاب الحاكمية أو الحكومة الإسلامية أيضاً. بل تسند رأي مَنْ يرى أن الأرض كافة هي أرض الله، ويجب أن تكون تحت حكم المسلمين! وبالتالي يجب أن يطبق فيها شرع الله، ويعني الشريعة التي يؤمن بها هو لا غيره من أهل الأديان الأخرى.
بعد هذا كيف لنا فهم تطبيق الشريعة، والقرآن يعطي الحق للرافض تطبيقها ولمؤيدها والداعي إليها معاً؟ وكيف تُمارس الشريعة، وهناك إمكانية هائلة في النص القرآني أن لا يتحول الدين إلى حكومة سياسية. وإن هناك حكمة إلهية في اختلاف البشر، أشرنا إليها في أكثر من مقال. فهل جعل الله الأرض للمسلمين من دون غيرهم فحسب؟ وإن جعلها للمسلمين فهل هي للسُنَّة منهم أم للشيعة؟ وإن جُعلت لأهل السُنَّة فهل ستحكم بمذهب الشافعي أم الحنفي أم الحنبلي أم المالكي؟ ومن أين أتى الفقهاء بحكم الردة، والقرآن في النصوص الآنفة يبشر بحرية الرأي والفكر؟ وكيف أصبح الختان من الشرع، وليس له أصل في القرآن؟ بل وهناك مذاهب ترى أن ممارسته غير واجبة، بينما مذاهب أخرى تفرضه على البنات أيضاً. لكل ما تقدم سيطعن الدين طعنة نجلاء من أهله عندما يهبطون به من المعلى المقدس إلى مستوى السلطة. فمن حكمة أن لا يكون الدين بيد البشر سيفاً بتاراً، بل يبقى في متناول الجميع "حمَّال ذو وجوه تقول فيقولون". أما السياسة والحكومة فشأنها آخر.
- آخر تحديث :












التعليقات