قال النبي محمد(ص): "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا". وقد فسر أستاذنا الكبير الراحل علي الوردي هذا الحديث الشريف من منظور علم الاجتماع، بأن الناس نيام لأنهم مخدرون بالأعراف والتقاليد الاجتماعية الموروثة التي تلقوها من محيطهم ويفكرون ويصدرون أحكامهم على الأمور المختلفة وفق ما تشربت به عقولهم بهذه المفاهيم وما يتفق مع مصالحهم. فإذا ماتوا تحررت أرواحهم وعقولهم من الموروث الاجتماعي وصاروا وجهاً لوجه مع الحقيقة دون تحيز. بطبيعة الحال لا فرق في ذلك بين الإنسان العادي البسيط وحامل الشهادات العالية، فالكل هنا سواسية حتى ولو كان شيخاً للأزهر أو رجل دين كبير مثل يوسف القرضاوي أو يحمل لقب آية الله العظمى مثل مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران، السيد علي خامنئي.
فكما يضيف الوردي: "الإنسان مجبول أن يرى الحقيقة من خلال مصلحته ومألوفات محيطه. فإذا اتحدت مصلحته مع تلك المألوفات الاجتماعية صعب عليه أن يعترف بالحقيقة المخالفة لهما ولو كانت ساطعة كالشمس في رابعة النهار."
ومعظم رجال الدين العرب السنة، ورجال الدين الشيعة الإيرانيين حرضوا الإرهابيين على قتل العراقيين ومنحوهم لقب "المقاومة الوطنية الشريفة" ووصفوا القتلة بأنهم مجاهدون في سبيل الله والإسلام والعروبة والوطن. والدافع وراء هذا التحريض يختلف عند كل فريق. فرجال الدين العرب السنة وخاصة السلفيين منهم، يبغضون الشيعة والكرد ويحلون قتلهم. أما رجال الدين الإيرانيين فبدافع عدائهم لأمريكا "الشيطان الأكبر" على حد تعبير الخميني وغايتهم إفشال بناء العراق ونظامه الديمقراطي لكي لا تكرر أمريكا التجربة في إيران وسوريا. كما أفتى شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي في شهر رمضان الماضي بالسماح "للمجاهدين" في العراق وفلسطين بعدم الصوم ليوفروا طاقاتهم الجسمية للجهاد. أما الزرقاوي فقد شكل لواءً باسم (لواء عمر) مهمته إبادة الشيعة "الروافضة" على حد تعبيره.
يقول الراحل أحمد أمين في كتابه ظهر الإسلام: «أن أحد السلاطين المؤمنين بالله ذبح ذات يوم مائة ألف ممن كانوا على عقيدة غير العقيدة التي نشأ هو عليها. ثم جعل من جماجم هؤلاء القتلى منارة عالية وصعد عليها مؤذن يصيح بأعلى صوته "لا إله إلا الله".». وهذا بالضبط ما يخطط له البعثيون وحلفاؤهم الزرقاويون ويبارك له شيوخ السلفية المتطرفون. وغني عن القول أن مشايخ الإسلام ومعهم الإعلام العربي قدموا وما زالوا، أكبر دعم إعلامي ومعنوي للقتلة في العراق ولكن عندما يقوم هؤلاء المجرمون بأعمال إرهابية في بلدانهم يسمونها إرهاباً ويلعنون القائمين بها، رغم أن هذه الجرائم تقوم بها ذات المنظمات الإرهابية التي تقتل المدنيين العراقيين. فهو إرهاب في بلدانهم وجهاد ومقاومة وطنية شريفة في العراق.
وأخيراً أفاق فضيلة شيخ الأزهر والحمد لله، وأدان الإرهاب في العراق ولكن بعد أن وصلت حرائق العراق إلى القاهرة. ولم يغيِّر فضيلة شيخ الأزهر رأيه ب"المجاهدين" إلا بعد أن قام هؤلاء بالتفجيرات في القاهرة وبعد أن ذبح المجرمون السفير المصري المغدور (إيهاب شريف) في بغداد. عندها انتبه فضيلة الشيخ أن ما كان يسميه جهاداً في العراق ما هو إلا «أسوأ أنواع الفساد في الأرض» حسب قوله. وأكد شيخ الأزهر ذلك خلال استقباله نقيب الأشراف في العراق عباس فاضل الحسن والوفد المرافق له أن «كل من يشارك في عمليات القتل والتفجير والتخريب التي تجري على أرض العراق يستحيل أن يكون مسلما، بل هو مخرب ويجب التصدي لهؤلاء المفسدين، فالوقوف في وجه هؤلاء أمر واجب شرعا». (الشرق الأوسط، 12/7/2005). والجدير بالذكر أن شيخ الأزهر حتى وقت قريب كان يعتقد أن هدف "المقاومة" في العراق هو انسحاب القوات الأجنبية وليس قتل الأبرياء وتدمير العراق، إذ قال في حديث نشرته صحيفة “صوت الأزهر” ونقلته وكالات الأنباء يوم 2/7/2005، طالب المقاتلين في العراق إلى وقف نشاطهم لمدة شهر واحد، وقال إن ذلك يكفي لانسحاب قوات الاحتلال. وهذا يدل على أن فضيلة الشيخ لا يعرف حقيقة ما يجري على الساحة العراقية وهدف "المجاهدين" إلا بعد أن وصلت نيرانهم إلى القاهرة.
ونحن بدورنا إذ نحيي فضيلة شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي على هذه المبادرة الشجاعة وإن جاءت متأخرة، ولكن كما تقول الحكمة، أن تصل متأخراً أفضل من عدم الوصول أبداً. ويا حبذا لو ينتبه رجال الدين الآخرون الذين مازالوا يواصلون التحريض على قتل العراقيين ويخدعون الشباب الفارغين فكرياً والمحرومين اقتصادياً، أن أقصر طريق لهم إلى الجنة وحور العين هو المرور بالعراق وقتل العراقيين، الكرد والشيعة "الروافضة".
أعتقد أن دور فضيلة شيخ الأزهر يجب أن لا يقتصر على تصريحات يتيمة يطلقها بمناسبة لقاءاته مع هذا الوفد أو تلك الشخصية. بل المطلوب من فضيلته القيام بعمل أكبر يتناسب مع مكانة الأزهر الشريف، تشاركه فيه الحكومات ومشايخ الإسلام ووسائل الإعلام. لذا أقترح على فضيلته عقد مؤتمر يدعو إليه رجال الدين وبالأخص مشايخ السلفية الذين أصدروا فتاوى الجهاد في العراق، وأئمة المساجد الذين يشحنون الشباب بكره الحياة وتمجيد الموت وقتل الأبرياء، وتزويق الإرهاب وتبريره، ليقول لهم أنكم أيها السادة على خطأ وعلى النقيض من الإسلام الحنيف ويجب تلافي الأمر من الآن، وتغيير الخطاب الديني وجعل الإسلام دين رحمة بالفعل لا بالقول فقط، وإبراز آيات الرحمة وإعطائها الأولوية على آيات السيف والقتل، إذ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. وإلا فنحن، كمسلمين، نحث الخطى لنكون أمة منبوذة في العالم تسخر منها الأمم.
لقد حول الجناة الإسلام إلى آيدويلوجية للإرهاب تبرر لهم قتل الأبرياء في كل أنحاء العالم وليس فقط قتل غير المسلمين، بل قتل كل من ليس على مذهبهم السلفي المتطرف. وما تفجيرات لندن الأخيرة إلا دليل على ذلك. لندن التي عُرِفَ شعبها الطيب بتسامحه وكرم الضيافة لكل المضطهدين في الأرض من مختلف القوميات والأعراق والأديان والمذاهب. لقد فر هؤلاء المسلمون من ظلم حكوماتهم الجائرة وتلقوا الرعاية والعناية من الحكومات الغربية التي آمنتهم من خوف ووفرت لهم العيش الكريم، بل تدفع لهم حتى تكاليف الدعاوى التي يقيمها هؤلاء ضد هذه الحكومات. فأية آيديولوجية هذه التي تدفع بالإنسان إلى هذا قدر من الجحود ونكران الجميل؟ فهل نحن أمة جاحدة؟
يجب أن يعرف هؤلاء أن لصبر وتسامح الشعوب الغربية حدود، وعلى وشك أن ينتهي. وهذه الأعمال الإرهابية باسم الإسلام تصب في خدمة التطرف اليميني الفاشي في أوربا وتهدد الديمقراطية الغربية، وفي النهاية سيكون مردودها كارثة على المسلمين أنفسهم وبالأخص المسلمين المقيمين في أوربا. ورجال الدين المسلمين وعلى رأسهم شيخ الأزهر يتحملون مسؤولية كبرى في تغيير هذه المعادلة وذلك بالقيام بحملة مركزة ومستمرة لتغيير الخطاب الديني وتربية النشء الجديد على روح التسامح وتوجيه الشباب إلى احترام التعددية الدينية والمذهبية والتعايش مع الآخر المختلف وإنقاذهم من السقوط في مخالب الفاشية الدينية.