ملاحظات على نص هيئة كتابة الدستور في العراق
مقدمة
طالعتنا جريدة الصباح العراقية بعددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 26 تموز / يوليو 2005 بمسودة الدستور المطروح في هيئة كتابة الدستور، ولقد قرأتها واخضعتها للمعالجة النقدية ووضعت عليها ملاحظاتي المتواضعة تواصلا مع الاراء العراقية المحتدمة اليوم حول هذه " المشكلة " التي لابد لكل من له رأي رصين وفكر سديد وحكمة راجحة وافق عريض ان ينطلق من ثقافته وتخصصه وتجربته القانونية والسياسية كي يدلي ويجود بما لديه، فالمسألة ليست تافهة لا تستحق التأمل ولا هي ابنة ظرف معين وليست حكرا من قبل مجموعة سلطوية معينة.. ان مصير العراق يتأجح اليوم على طرفي نقيض بين من يريد التشبّث بتقاليد عقيمة ويتخبط خبط عشواء وبين من يريد الانطلاق نحو تشريع منهجي مدني حضاري.
نعم، انها مسألة تعني بمصير العراق ومستقبله وان الدستور (أو: القانون الاساسي للبلاد) سيحدد طريق اجيال العراق في القرن الواحد والعشرين ان لم يجد العراق طريقه الى التفتت والتفكك والانقسام والاضمحلال – لا سمح الله -. ان هيئة كتابة الدستور التي انبثقت عن الجمعية الوطنية العراقية وبالرغم من الاعتراضات الشديدة التي اثارتها نخب واحزاب وجماعات وشخصيات عراقية متنوعة ضدّها لا يمكنها ان تقّدم دستورا قويا ورصينا وحضاريا للعراق ان كانت بمثل هذا المستوى الذي عرضته في بضاعة مسودتها البليدة.. ان ما تضمنته مسودة الدستور التي نشرتها الجريدة المذكورة تعجّ بمختلف التناقضات والخروقات بحق وطن له مكانة متميزة بين الاوطان، لا يمكن ان يعامله ابناؤه بمثل هذا التعامل المتخّلف عن ركب الحياة.. ان اخطر ما يواجه العراق اليوم: كيفية الجمع بين نقائضه وخصوصا بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون! ان مصيره – ويا للاسف - ستحدده حفنة من اعضاء هيئة انبثقت عن جمعية وطنية، ولكنها هيئة مع احترامنا لاعضائها، الا ان اعضاءها كما يبدو لا يدركون اولويات المعرفة الدستورية، ولا يفقهون تكوينات العراق الحضارية، او انهم قد وقعوا او رضخوا لارادات بعيدة كل البعد عن معنى القانون ومعاني العراق الوطنية.
مسودة عقيمة
ان مسودة للدستور كالتي طالعناها في جريدة الصباح العراقية تثير الضحك والاستهزاء وحتى الشبهات ليس من قبلنا نحن نخب العراقيين، بل من قبل العالم كله لأنها خلطت الامور خلطة غير بريئة وبشكل يثير مختلف التساؤلات، وانها مسودة غير صالحة ان يخضع العراق لها لبضع ساعات، فكيف بها ان تكون مستقبلا قانونا اساسيا له، تحدد مصيره لعقود قادمة من الزمن. انني ادعو كل الاخوات والاخوة العراقيين ان يقتطعوا قليلا من وقتهم لقراءة ما ساثيره في هذه " المعالجة " النقدية التي لا ابتغي من ورائها الا المصلحة العليا للبلاد ومستقبل اجيالها، وهي تمر باحرج ظروفها التاريخية. ان " مسوّدة " كسيحة كالتي بين ايدينا الان لا يمكن لها ان تغدو دستورا للعراق مهما جرى عليها من تصويبات! واعتقد ان الهيئة الموقرة ستضيع زمنها غير الثمين في اصدار مشروع دستور لن يقبله العراقيون الذين يمتلكون وعيا ووطنية وادراكا وفهما متبادلا.. وان قدّر لمثل هكذا " دستور " ان يغدو تحصيل حاصل للعراق ويفرض على شعب العراق تحت ذرائع ومسوغات مختلفة، فسيكون اهل العراق قد اوصدوا بأيديهم ابواب المستقبل بوجوههم، او انهم قد اعموا انفسهم بانفسهم.. ان مشكلة العراق لا تكمن اليوم بتعدد الاجندة الخانقة له، بل ان المشكلة الحقيقية تكمن في من يرسم له طريقا مسدودا نحو المستقبل.
دعوني في هذه الجولة ان ادلي بملاحظاتي المتنوعة على المسودة العمياء لدستور من السخف ان يتفاخر به العراقيون لأنه لن ولم يكون اساسا حقيقيا معتمدا للعراق الجديد الذي يطمح نحوه العراقيون الواعون من المجددين المستنيرين الذين يؤمنون بالتمدن والتحديث والتقدم.. وليس من السهولة ان يغدو الامر مطلقا ومشاعا ومفروضا لجماعة تسلمّت مقاليد العراق من دون ان تراعي في كتابة دستور البلاد الجواب على السؤال التالي: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ ان العراقيين يتطلعون لدستور عراقي مدني حقيقي غير مشّوه ولا مستعار ولا يعج بالتناقضات.
الاهداف العجيبة
تطرح مسودة الدستور الاهداف الخمسة التالية:
1/ العدل وسيادة القانون.
2/ توزيع السلطات على اساس الاستقلال الوظيفي.
3/ الشعب مصدر السلطات والشرعية.
4 / روح الاخاء والمواطنة.
5/ نظام اقتصادي واجتماعي صالح بعيدا عن الفقر والمرض والجهل والخوف.
هل يمكننا ان نقتنع نحن كعراقيين بمثل هذه الاهداف العامة التي كنا ولم نزل نسمعها في كل الازمان والعهود الحديثة منذ ولادة القرن العشرين؟ ما معنى هكذا " اهداف " لا تعني غير شعارات لاكتها الالسن على امتداد القرن العشرين؟ لماذا هذا " التحايل " في استخدام مفهوم " الاستقلال الوظيفي في توزيع السلطات " بدل القول بـ " الفصل بين السلطات " كما هو معروف في كل الدساتير المعلمنة الحديثة؟ هل يريد الاخوة في هيئة كتابة الدستور ان تتدخّل المرجعيات غير " الرسمية والتشريعية في عمل السلطات الحكومية في ظل ما اسموه بـ " الاستقلال الوظيفي " ؟ وهل غدا هذا المبدأ هدفا دستوريا؟ من دون ان نرعى مشروعا حضاريا للعراق والعراقيين؟ هل سيبقى العراق لا يفهم الا لغة التناقضات التي نحرته منذ خمسين سنة بديلا عن اهداف سامية كان يبتغيها منذ عقود طوال من الزمن؟ وهل من العقل ان يبقى العراق يناضل من اجل لقمة عيش والامن من الخوف؟ هل يعتقد اعضاء الهيئة الموقرين بأن هذه التي اسموها بالاهداف الدستورية يمكن ان يحققها هكذا دستور اعمى ام انها مجموعة قيم عادية لابد ان يتضمنها اي دستور؟
ان اي دستور حضاري وخصوصا للعراق لابد ان يتضمن اهدافا واقعية: هدف سياسي للعراقيين في بناء تكوينهم السياسي الجديد وهدف حضاري يؤمن لهم مشروعا متطورا في الحياة الانسانية، وهدف امني يجنبهم المخاطر في الداخل والمخاطر في الخارج، وهدف اجتماعي يراعي التعايش الاجتماعي، وهدف اقتصادي يوصلهم الى تحقيق ما يصبون اليه في حفاظهم على ثرواتهم ، وهدف يحدد طبيعة علاقتهم بالمحيط وبالعالم، وينطلق في العمل على استقلالهم وكيفية التعامل مع الاخرين. ستة اهداف لابد ان يتربى عليها العراقيون، وان ترعاها مبادئ اساسية.. فهل أتت " المسودة " المعنية بمبادئ لها قيمتها المعاصرة، كما هو حال الدساتير في الدول التي تحترم نفسها؟
نقد المبادئ الاساسية:
انني اتعجب من اناس يسمون انفسهم بمختصين دستوريين ورجال قانون عراقيين ان يطرحوا على الشعب مسودة تحتوي هكذا مبادئ أساسية؟ وانني اعجب من عراقيين يناقشون هكذا " مسودة " دستور اقل ما يمكن وصفه بالعمى وهو يتضمن مبادئ متضاربة وعقيمة وغير صالحة وتفتقد لابسط المعاني الوطنية بعد ان امتلأت بالاخطاء في المصطلحات وسرقة نصوص من دساتير غربية فازدحمت بها التناقضات!
اولا: العراق: جمهورية اسلامية بأي معنى؟
اذا كانت المادة الاولى قد أقرت بأن الجمهورية العراقية (اسلامية اتحادية)، فلماذا تطّفل اصحاب المسودة في هيئة كتابة الدستور على مواد من الدستور السويسري لاحقا؟ واذا كان العراق سيغدو " جمهورية اسلامية "، فما معنى تضمين دستوره مواد دستورية غربية؟ لماذا يتّصدر هذا " الاعلان " مسودة دستوركم في عملية مخادعة مكشوفة كالتي تعلمتموها عن الاخرين؟ كيف نقبل ان تمارسوا دور (الملالي) في حكم العراق بآليات مستعارة من دساتير علمانية غربية؟ وهذه حيلة اخرى في تسويق مشروع ديني في عباءة مدنية مهلهلة!! وكيف سترضى نخب العراق المثقفة بثقافات عليا بهذا النفاق العلني متضمنا في دستور دائم للبلاد؟ كنت اتمنى ان تكونوا اكثر ذكاء وقدرة في الاعلان عن مشروع مدني للعراق الحضاري كالذي نادينا به في المانفيستو الذي اصدرناه عن منظمة يودكس لتطوير المجتمع المدني بدل هذا التشدّق بـ " جمهورية اسلامية "، ليمشي العراق على غرار ما فعلته ايران.
ثانيا: من يتكلم باسم الثوابت لا يستعير المبادئ
واذا تضمنت المادة الثانية ان الاسلام دين الدولة الرسمي.. فلماذا يكون المصدر الاساسي للتشريع والدستور يستعير مواده من دساتير غربية؟ اذا كنتم تريدون ان يغدو العراق دولة اسلامية، فليس من حقكم ان تخلطوا بين القوانين المدنية وتغفلوا عن التشريعات الدينية؟ ان اردتم ان يكون العراق دولة اسلامية.. فما معنى اتباع التقاليد الدستورية الغربية العلمانية؟ كيف تقّرون بأن (لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابته واحكامه وتضعون بين هلالين " ثوابته المجمع عليها " ) وانكم لا تقّرون تلك " الثوابت " والاحكام؟ فما الذي تقصدونه بالثوابت والاحكام وانتم اول من خرق تلك " الثوابت والاحكام " في دستور استعرتم وسرقتم بنوده من دساتير غير اسلامية؟ كيف تقولون: " ويصون هذا الدستور الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي وتضعون بين هلالين " بأكثريته الشيعية وسنتّه " وانه يحترم جميع حقوق الديانات الاخرى "؟؟ لماذا رجعتم تتكلمون باسم الاكثرية والاقليات؟ وانتم تتشدقون بهدف المواطنة؟ ما الذي تقصدونه بالهوية الاسلامية التي ينبغي ان يصونها دستوركم؟ اين هي الهوية الوطنية العراقية التي نسيتموها قصدا وعن سبق اصرار وترصد، وكأن العراق ملكا لدين معين او اكثرية معينة او مجموعات حاكمة معينة وليس وطنا قديما لجميع من يقطنه منذ الازل؟ ان المواطنة العراقية التي لابد ان يتضمنها الدستور لابد ان تصون كل العراقيين مهما اختلفت دياناتهم وطوائفهم لا ان يصون اكثرية ويحترم اقليات!!
ثالثا: العراق: وطن ام اوطان.. قوميات ام اطياف؟!!
ومرة اخرى تقع المسودة في خطل من نوع اخر عندما تقول في مادة الدستور الثالثة بأن هناك قوميتين رئيسيتين (العربية والكردية) ومن قوميات أساسية.. انها تفصل بين (رئيسية وأساسية) بمنتهى الراحة من دون ان تراعي ما تقول قانونيا وهي تضمن دستور العراق خازوقا لم تفعله اعتى النظم الفاشية! كيف يمكننا قانونيا قبول ان يكون هذا العراقي رئيسي في وطنه والاخر اساسي في الوطن نفسه؟ هل فرغ العراق من الرجال العقلاء كي يقدموا لنا مسودة عاقلة مثيرة للجدل ولكنها غير مثيرة للشبهات؟ كيف يمكن قبول دستور للعراق يسّمي القوميات الاساسية بـ: التركمانية والكلدانية والآشورية والسريانية والارمنية والشبك و (الفرس) " لقد وضع الفرس بين هلالين " وكأنه يعترف بجرم خطير ويضيف: ومن ايزيدية وصابئة مندائيين، يتساوون كلهم في حقوق وواجبات المواطنة؟ كيف يتساوون وانتم قد ميزّتم بينهم؟ كيف يمكنكم تقديم هذا " الخلط " الغبي الذي لا يمكن قبوله من كل تكوينات الشعب العراقي؟ وستبقى تكوينات العراق الاجتماعية تحمل جرحا جديدا كذاك الذي حملته في عهود مضت، علما بأن دساتير العراق السابقة لم تفضح نفسها كما يفعل العهد الجديد! هل باستطاعة السادة الاعضاء في هيئة كتابة دستور العراق ان يعّرفوا لنا معنى (القومية)؟ وهل اصبح (الفرس) في العراق قومية أساسية؟ انني اشارك الاخوة الكرد الفويليين عتبهم القاسي على واضعي هذه المسودة العمياء.. كونهم تجاهلوا ذكرهم، علما بأن الاخوة الفويليين هم عراقيون، ولا يمكن اعتبارهم غير ذلك.
رابعا: خلل مفجع في تصنيف اللغات الرسمية
اعتبرت المادة الرابعة اللغة العربية هي اللغة الرسمية في الدولة العراقية وتكون اللغة الكردية الى جانب اللغة العربية لغة رسمية في اقليم كردستان (ولدى الحكومة الاتحادية)، وللاقاليم أو المحافظات اتخاذ أية لغة محلية اخرى لغة رسمية اضافية اذا اقرت غالبية سكانها ذلك باستفتاء عام (او قانون ادارة الدولة).
دعونا بالله عليكم نتأمل بروية وعمق هذا المبدأ الذي سيتضمنه دستور العراق. لقد حصر اللغة العربية في (الدولة) ولم يشيعها في (البلاد)، وهنا اعتقد ان البلاهة والغباء كان سببا في هذا التضمين، اذ ان اصحابنا كما يبدو لم يفرقوا بين معاني (الدولة) وتعريفها كمجموعة مؤسسات متغيرة تاريخيا وبين البلاد كوطن ثابت وعريق لم يتزحزح جغرافيا! وسيتكرر هذا الخلل المفجع في كل بنود الدستور. فالعربية المسكينة اصبحت لغة (الدولة) وكأن المجتمع يتكلم بالسنسكريتية والهيروغليفية! وغدت اللغة الكردية لغة (الاقليم) ولا ادري ما معنى لغة (لدى الحكومة الاتحادية). والاكثر فجيعة ان يتضمن الدستور اقرار المحافظات والاقاليم اتخاذ اية لغة رسمية اضافية باقرار غالبية سكانها ذلك.. وانني أسأل: ما المقصود بهذا النص الخطير؟ ومع احترامي لكل اللغات العريقة والمختلطة في العراق: ما الاقليم الذي يمكن ان يجعل لغته الرسمية تركمانية؟ او سريانية؟ او أرمنية؟ أو شبكية؟.. اللهم الا اذا اراد ابناء جنوب العراق العرب الاقحاح ان يغيروا لغتهم العربية كي يجعلوا اللغة الفارسية لغة رسمية لاقليمهم؟
خامسا: بلادة تصنيف العراق دولة ومجتمعا
وتضمنت المادة الخامسة مبدأ هزيلا آخر يقول: " الدولة العراقية جزء من العالمين العربي والاسلامي، أو (الدولة العراقية عضو مؤسس في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي). أسألكم بالله، هل ان هيئتنا الموقرة تجمع نخبة من عقلاء ام مجموعة من بلهاء؟ هل يمكن للعراق ان يضع ما لا يعرف معنى الدولة والمجتمع والفصل بينهما دستور دائم للعراق؟ هل هذا ما كان ينتظره الشعب العراقي بعد نضالاته وكفاحاته المريرة في القرن العشرين؟ هل وصل رجال العراق من القانونيين والدستوريين الى هذا الدرك من التخلف والبلادة. من لا يعرف ان يسّمي الاشياء باسمائها ولا يدرك المعاني والمفاهيم فليترك هذه " المسؤولية " التاريخية.. انكم تثيرون الضحك والاستهزاء. لماذا تؤكدون دوما على " الدولة " من دون " الشعب "؟ لماذا تسقطون الشعب من حساباتكم المشوشة؟ انكم تعلنون عن اشياء وتخفون اشياء.. ان " الدولة " مجموعة مؤسسات تتحكم بها سلطات، انكم تريدون القول بأن تكون " الدولة " جزءا من عالمين عربي واسلامي ولا علاقة لا لمجتمعنا ولا لتراثنا ولا لتاريخنا ولا لأصولنا ولا لمكوناتنا بالعالمين المذكورين؟ ولم تكتفوا بهذا الاسقاط المريع، بل اقترحتم بدله اسقاطا لدفع الشبهات يقول: (الدولة العراقية عضو مؤسس في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي). وهل يعد هذا مبدءا دستوريا يا هؤلاء؟ ولماذا هذا الاستنكاف ايها السادة؟ هل وضعت بريطانيا او الولايات المتحدة الامريكية مشاركتها في تأسيس الامم المتحدة ذلك مبدءا دستوريا لها؟ ان العراق الجديد لا يبنى بهذه الطريقة السمجة من الضحك على الذقون. واذا كنا جميعا لنا موقفنا من السياسات والمواقف العربية اليوم ومن منتجات القومية العربية، فليس معنى ذلك اننا نتنكر عن عمد وقصد لعروبتنا وأصالتنا وحضارتنا العربية التي كان العراق لحمتها وسداها في اللغة والترجمة والنحو والتاريخ والتفسير والمذاهب والفلسفة وكل مصنفات تراث العرب.
سادسا: دولة اسلامية والشعب فيها مصدر السلطات
وتعلن المسودة العمياء في المادة السادسة بأن (السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات، يمارسها بالاقتراع العام السري المباشر أو (بالانتخاب والاستفتاء السري المباشر) وعبر مؤسساته الدستورية). اذا كان الشعب مصدر السلطات، فكيف هي دولة اسلامية؟ لماذا هذه الاستعارة للتحدث باسم الدين تارة والتحدث باسم الشعب تارة اخرى؟ ما التي يمارسها الشعب؟ هل يمارس السلطات وقد وضع الدستور العصا في دواليب العجلة العراقية؟ وسنرى لاحقا بأن ثمة بنود اخرى في المسودة تغدو على تضاد مع هذ ه المادة، خصوصا ونحن لم نزل نتحدث بالمبادئ العراقية في دستور دائم للبلاد!
سابعا: مادة مفقودة
لم استطع ان اجد المادة السابعة في المسودة، فربما لم تنشر وربما لم تطبع، وربما خفيت لاسباب لابد ان يعلنها من هو مسؤول عن اصدار هكذا دستور. فلا يمكن لأحد ان يخفي عن الشعب العراقي اي شيئ..
ثامنا: خطل في التعريف
الكل يعرف بأن تعريف الدولة على امتداد التاريخ: مجموعة مؤسسات تتحكم بها سلطات لابد من الفصل بينها. ولأول مرة نجد في المادة الثامنة من المسودة نصا يقول بأن: (الدولة العراقية وحدة واحدة أرضا وشعبا وسيادة)!! ان الاخوة في هيئة كتابة الدستور لا تميّز بين مفاهيم ومصطلحات: الدولة / الوطن / الشعب / الامة / المجتمع / الاقليم. فالوطن وحدة واحدة لا الدولة. والوطن هو الارض الواحدة الموحدة لا الدولة يا رجال القانون والمعرفة في العراق. والشعب هو المكونات الاجتماعية المتجانسة او المتباينة وهو الذي يؤلف (الامة). فهل يعقل ان نعمل على تصويب حتى الاولويات التي يجهلها من هم اعضاء في هيئة كتابة الدستور التي نصبّتها الجمعية الوطنية. وكم نادينا ان توكل المهمة الى ثلاثة او اربعة رجال من اكفاء العراق لتقديم مسّودة محترمة لا شائبة في مفاهيمها، ولا خلط بين اهدافها ومبادئها وما يتلو ذلك من ابواب قانونية.
تاسعا: الحظر على الافكار والممارسات العنصرية والتكفير والارهاب
هل يعتبر هذا من المبادئ ام من الاجراءات؟ هل يأتي هذا المبدأ بهذا الشكل العمومي غير محدد لآليات معروفة يمكن فيها اتخاذ الاجراءات القانونية التي تكفل تنظيف العراق من ذلك. وقد اكدت المادة على (البعث الصدامي). ولا ادري لماذا اختير هذا البعث لوحده في دستور دائم للبلاد سيستمر عمله عشرات السنين؟؟ اننا نخشى كقوى عراقية تمّثل المجتمع المدني الا تتحّول هكذا بنود عمومية الى سلاح يقّره دستور البلاد وتستخدمه السلطة ضد الشعب العراقي تحت ظل اجراءات تتخذ طابعا دستوريا! وانني اقترح ان تكون الاجراءات القانونية في الحظر على الارهاب والتكفير والممارسات العنصرية محددة بنصوص قانونية تجريمية لا ان تكون من ضمن المبادئ، اذ ربما يساق المرء ضمن افكاره السياسية او الدينية او القومية او ضمن عروبته او تركمانيته او كرديته.. واعتباره يمارس العنصرية! ويكون العراق الجديد لا يختلف في شيئ من الاشياء عن سياسات الطاغية صدام حسين.
عاشرا: الدفاع عن الوطن لا الدفاع عن الدولة
تنص المادة الرابعة عشرة على ان تكون القوات المسلحة العراقية بكل اشكالها والاجهزة الامنية جزء من الشعب العراقي وتماثله في تكوينه القومي والديني والمذهبي.. وتكون مهمتها الدفاع عن الدولة العراقية.. الخ وهنا نسأل: هل تنحصر مهمتها في الدفاع عن الدولة ام الدفاع عن الوطن؟ هل في الدفاع عن السلطات والمؤسسات ام في الدفاع عن الشعب العراقي؟ ولماذا لم تقر هذه " المادة " حل كل المليشيات العسكرية، وضّمها الى مؤسسة الجيش والقوات المسلحة؟ لماذا لا يكون ذلك مبدءا حقيقيا لكل العراق؟ ما معنى وجود قوى عسكرية ترتبط بالاحزاب ولا ترتبط بالمؤسسة الرسمية؟ ان مجرد السكوت على مثل هذه الظواهر.. ما لم يحظر الدستور عليها، فانها ستبقى عاملا في تفجير الاوضاع الداخلية.
حادي عشر: مرجعيات داخل دولة
تقول المادة الخامسة عشرة من المسودة: " للمرجعية الدينية استقلاليتها ومقامها الارشادي كونها رمزا وطنيا ودينيا رفيعا. وتضيف المادة بين هلالين (هناك تحفظ من البعض). هنا نأتي الى خطوط حمراء لابد من التوجس واخذ الحيطة والحذر في معالجتها. ونسأل مع كل اعتزازنا الكبير بأي مرجعية من المرجعيات الدينية: ما المقصود بالمرجعية الدينية في ان تكون ضمن مبادئ دستورية مؤكدة استقلاليتها؟ اذا كان القصد منها مرجعية النجف الشيعية، فلابد من ذكر ذلك. واذا ما ذكر ذلك، فان هناك من يريد ان يشّرع لمرجعيته الدينية الاخرى من شعب العراق دستوريا. اذا ما غدا العراق دولة اسلامية فالمرجعية الدينية هي التي ستحكمه.. اما ان بقي العراق دولة علمانية مدنية، فلا مكان سياسي او دستوري او تشريعي لأي مرجعية فيه! وستكون اي مرجعية لها استمراريتها التاريخية كرمز له هيبته وقداسته لا دخل له في السياسة.. ولم يحدث ان اقر دستور اي دولة من دول العالم الاسلامي مثل هذا " المبدأ "، باستثناء نظام ولاية الفقيه في ايران الاسلامية الذي اعتبر مرجعية قم هي التي تحكم وتشّرع. ان اي استقلالية لأي مرجعية دينية في العراق سيخلق كيانا كهنوتيا داخل الدولة يقره الدستور. اما ان بقيت اي مرجعية لها قيمتها الارشادية والاعتبارية المتميزة في المجتمع، فان ذلك ستكفله بنود اي دولة مدنية علمانية ، وستكون المرجعية بمثابة مرجع حقيقي لارشاد الناس والساسة معا نحو صلاح الامور من دون ان تغدو لها استقلاليتها الدستورية كي تلعب دورها بعيدا عن الدولة.
ثاني عشر: العتبات المقدّسة
نعم، ان العراق يزخر بالعتبات المقدسة ولقد نصّت المادة السادسة عشرة من المسودة التالي: " العتبات المقدسة في الدولة العراقية شخصية قانونية لما لها من كيان ديني وحضاري وعلى الدولة تأكيد حرمتها وصيانة هذه الحرمة وكفالة اداء ممارسة الشعائر بحرية فيها ". واسأل: ما دور العتبات في الدولة؟ وما معنى شخصيتها القانونية؟ واي عتبات مقدّسة نقصدها؟ فهناك عتبات مقدسة في النجف الاشرف وكربلاء الطاهرة والكاظمين وسامراء وانبياء الموصل الحدباء وغيرها من الاماكن العراقية المزدحمة بالمراقد لاديان ومذاهب وطوائف لا حصر لها؟ فهل يمكننا ان نحدد ما نريد تضمينه؟ ولكن لا ادري ما تعنيه الشخصية القانونية للعتبات المقدسة ان كانت قيمتها تاريخية اجتماعية لها الاثر الطيب في نفوس ابناء العراق جميعا. ان الفاتيكان استقل بشخصيته السياسية والقانونية بعد ممارسات وتدخلات كاثوليكية في شؤون الدول الاوربية، وغدا كيانا له شخصيته السياسية. فهل ينجح ذلك بالعراق والعراق كما نعلم يزدحم بالعتبات المقدسة؟
ثالث عشر: عاصمة وعلم ونشيد وشعار
اقرت المادة السابعة عشرة بان يكون مركز بغداد عاصمة الدولة العراقية.. وهذا امر بديهي لابد ان يكون مبدءا دستوريا، ولكن ما معنى عبارة (ويجوز اتخاذ عاصمة اخرى بقانون)؟ اتمنى ان توّضح اسباب تلك الاجازة بحيث تذكر لاسباب حرب او كارثة – لا سمح الله – او ان تحذف هذه الاجازة، فلا يمكن للعراقيين قبول غير بغداد عاصمة لهم مهما كان هناك من مدن مهمة او عتبات مقدسة. من جانب آخر، فان المادة الثامنة عشرة من المبادئ الدستورية للعراق غامضة.. فهل يريد الدستور علما ونشيدا وطنيا وشعارا كرموز جديدة للعراق ام انه سيبقي القديم على قدمه. وماذا يقصد بتحديد ذلك بقانون؟
وأخيرا: ماذا يمكننا ان نقول في جولتنا مع الاهداف والمبادئ الدستورية العراقية؟
ان ملاحظاتي النقدية في اعلاه ربما تتعارض مع اهواء ومغالطات ونوايا البعض.. وربما تتلاقى مع آراء وافكار وتطلعات البعض الاخر.. وربما يقبلها عراقيون وسيرفضها عراقيون آخرون.. ولكنني اقول بأنها الجولة الاولى في الحديث عن الاهداف والمبادئ وستلوها بملاحظاتي عن الحقوق الدستورية وآليات العمل التي لا تتفق وابسط القواعد الدستورية لاحقا. ان ما يمكنني القول الان هو ان مسودة الدستور قد اعلنت عن دولة العراق الاسلامية ولكن كل بنودها متضمنة لمواد قانونية مدنية لا تنص عليها الشريعة الاسلامية. فاما ان يكون الدستور اسلاميا لدولة دينية ام يكون الدستور مدنيا لدولة حديثة.. اما اللعب على هذا مواد دساتير مدنية حديثة وجعلها في عباءة دينية.. فهذا لا يمكن قبوله ابدا.. فأما ان تكونوا دولة دينية وشريعة واما ان تكونوا دولة مدنية وقانون والفرق كبير وشاسع بين الاثنين.
انني أهيب بهيئة كتابة الدستور ان يتسع صدرها لما كتبته او سوف اكتبه في قابل، وان عليها ان تعتني بالاراء المطروحة وتأخذها على محمل الجد وان لا تكابر وتعاند وهي لا تعتني أبدا بمسودة دستور دائم تقدمها الى الشعب العراقي، سيغدو منهجا وقانونا يرسم طريقهم نحو المستقبل. واتمنى على كل من يعارضني او يخالفني ان يصاحبه الهدوء وهو يحاور نصوص ما كتبته من ملاحظات وافكار وآراء.. بديلا عن اية انفعالات صاخبة او ردود فعل غير لائقة.. اتمنى التواصل لاقدم الجولة الثانية من ملاحظاتي عن بقية بنود مسودة الدستور.. متمنيا ان يحظى العراق باناس يدركون قيمته ويفهمون تعقيداته ويعرفون كل شيئ عنه كي يحرروا دستورا لائقا به وبشعبه بعد تاريخ طويل من الصراعات. فهل سينجح العراقيون في هذه المهمة التاريخية الصعبة؟ انني اشك في ذلك، ولكن دعونا نتفاءل خيرا.
التعليقات