رغم ان الانتخابات العراقية كانت حدثا تاريخا، الا انها افرزت وسطا برلمانيا كسيحا، لم يتجانس فكريا وثقافيا، ويتباين وعيا وقدرة على استشراف المستقبل. ثم جاءت المحاصصة الطائفية لتفرض على التشكيلة الوزارية عناصر تنقصهم الكفاءة، فانقلبوا عبأ على الحكومة، وهو موضوع آخر. كما انها (أي المحاصصة ذاتها) فرضت على لجنة كتابة الدستور افرادا تشهد لكفاءتهم مسودة الدستور البائسة، التي تؤسس للانقسام والتفرقة، وتعدد مراكز القوى. فقد خيب الدستور المنشور آمال الوسط العراقي المثقف والواعي، الذي كان يتطلع الى دستور يلبى حاجته الراهنة، بل خيب آمال قطاعات واسعة منه.
لا نربد ان نكرر ما كتبناه في مقالات سابقة وفي موقع ايلاف عن مقولة: (الاسلام المصدر الاساسي للتشريع)، فانها مقولة مخادعة تؤسس لحاكمية رجل الدين وليس الى الدين كقيم وتشريعات. فان القيم الدينية واضحة ولا تحتاج الى نص دستوري، وتلتزم بها الشعوب الاسلامية، ولو بنسب متفاوتة. واما التشريعات، فهناك مشكلة تعدد الاجتهادات والمرجعيات الفقهية بين الشيعة والسنة. وفي داخل كل مذهب ثمة فقهاء متعددون، فالى ايهم تحتكم القوانين؟. ثم هناك فرق بين التشريعات المنصوص عليها في القرآن والصحيح من السنة، والتشريعات التي هي اجتهادات ورأي فقهية يعكس رؤية المجتهد او الفقيه. والثانية حجة على مقلديه وليس مطلقا، بينما الدستور والقوانين عامة لجميع ابناء الشعب. فهل نجعل لكل مجتهد مقاطعة يحمكم بها؟ واذا كانت ثمة تشريعات تستوفي شروط فعليتها من جميع الجهات فيمكن لقوانين الدولة استيعابها والعمل بها.
ثم ان معنى الاسلام المصدر الاساس للتشريع، ان الاسلام سيشكل النسبة الغالبة من القوانين والانظمة، ونحن نعلم جيدا ان تشريعات الاسلام محدودة وواضحة، وليس فيه قابلية لتشريع كل ما يخص المجتمع والدولة. وكل ما هناك ادعاءات ان الاسلام شامل لكل شيء وفي كل زمان ومكان. وهي دعاوى حـُمـلت على الاسلام والدين، ولم يدع القران او الدين ذلك. وقد حاولت ايران بكل ما أوتيت من قوت تطبيق انظمة اسلامية تختلف عن الانظمة والقوانين الوضعية في مجال الاقتصاد والبنوك وغيرهما، لكنها عادت ادراجها وتخلت عن دعاواها، وهي الان دولة علمانية في قوانينها وانظمتها، لكن يحكمها رجال الدين. وهذه نقطة الخطر. وكأن الدولة اذا حكمها رجل الدين صارت اسلامية، والا فهي غير اسلامية. نعم لا شك ان الاسلام يؤسس لاطر اخلاقية وقيم انسانية تحول دون الظلم والفساد، وتعمق روح الشعور بالمسؤولية تجاه الفرد والمجتمع. كما ان الاسلام يسعى لاشاعة روح المحبة والالفة وبناء مجتمع القيم الانسانية، بعيدا عن الظلم والاضطهاد والاستغلال. ويعمل على تعميق الايمان بخالق الكون، وارتباط مصير الانسان به ليحرره من كل انواع العبودية، ولاي جهة كانت. ويتحرر من نزعاته الشيطانية والعدوانية.
الدين متعدد القراءات
ثمة حقيقة، ان الدين بما انه مجموعة نصوص مدونة صار متعددا بتعدد القراءات والفهم ووجهات النظر والاجتهادات، واقوى دليل على ذلك تعدد المذاهب الاسلامية، وتعدد الاجتهادات في داخل المذهب الواحد، ويكاد الاتفاق بينهم يقتصر على الاصول، بينما يختلفون باغلب التفاصيل والمسائل الفرعية. وعندما يكون الاسلام مصدرا اساس للتشريع ستكون جميع المذاهب والاتجاهات الفقهية دستورية، ومن حقها ان تستأثر بالقوانين والانظمة. وسوف لا يتنازل مذهب الى آخر، بل لا يتنازل فقيه لاخر، وكل يعتقد بنفسه الاعلم دون سواه. والا لو لم يكن الاعلم في نظره لما تصدى للمرجعية الدينية، سواء صرح بذلك او لم يصرح. فمشكلة تعدد الاجتهادات مشكلة حقيقية. فالدستور اذن لا يوحد وانما يؤسس للفرقة والتشرذم، وبالتالي التناحر والاقتتال بشكل قانوني ودستوري.
والدستور بصيغته الراهنة يعمل ايضا على تعدد مراكز القوى والقرار، بدلا من توحيد المرجعية القانونية ومركز القرار، فهناك سلطة الدولة وهي سلطة دستورية، واساس الحكم، وبها تناط مسؤولية تشريع القوانين وتطبيقها وحمايتها. الا ان الدستور العراقي يضع الى جانب سلطة الدولة سلطة ثانية اسمها المرجعية الدينية، وسلطة ثالثة اسمها العشيرة. والغريب كأن اعضاء لجنة كتابة الدستور يجهلون ان العراق متعدد دينيا ومذهبيا وقوميا، ويجهلون ان الفرد العراقي موزع في ولائه بسبب ظلم واستبداد الحكومات، بين الولاء للقانون والولاء للمرجعية الدينية اضافة الى ولاء العشيرة، وكنا نحلم وما نزال بوحدة الولاء للقانون. وكان يفترض باعضاء اللجنة الاتفاق على صيغ قانونية لا تسمح بوجود ولاءات منافسة للقانون والدولة. وتظهر الفائدة عندما تتصادم الولاءات، فلمن سيكون ولاء الفرد؟ للقانون، ام المرجعية الدينية والعشائرية التي جعل منها الدستور كيانات قانونية؟ وهل سيطيع الفرد اوامر الدولة ويلتزم بالقانون، ام ينحاز الى جانب المرجعية الدينية او العشيرة، وكل منها وجود دستوري وقانوني؟.
كنا نطمح ان تتوحد الولاءات، وتعلو سلطة القانون فوق كل شيء، وتبقى للدولة هيبتها وسلطتها، ويكون مركز القرار واحدا، لكن الوضع الجديد وفقا للدستور هناك ثلاثة مراكز قرار هي الدولة، والمرجعية الدينية، وشيخ العشيرة.
ربما كانت المرجعية الدينية الحالية المتمثلة بالسيد السيستاني ماثلة عند كتابة هذه الفقرة، وهو رجل ما زال متوازنا في مواقفه. لكن ماذا نفعل لو جاءنا عالم دين يؤمن بولاية الفقيه، ويؤمن ان له سلطة فوق سلطة القانون والانظمة، واخذ يعبث بالبلاد بموجب صلاحياته الدستورية، فماذا نفعل؟ ماذا لو جاءنا فقيه يؤمن بولاية الفقيه لكنه لا يؤمن بتعدد مركز الولاية، فما دامت هناك ولاية قائمة في ايران يجب ان تكون ولاية العراق تابعة لها، فماذا نعمل وفقا لهذا الرأي، وهو رأي فقهي؟ هل نلتحق بمركز الولاية طاعة لهذا الفقيه؟ هل سنتمرد عليه ونخالف الدستور؟ سيما ان الدستور ينص: (للمرجعية الدينية استقلاليتها)، فهي كيان مستقبل ولها مقام دستوري. واذا كان مقام المرجعية فقط مقاما ارشاديا كما ينص الدستور، فلماذا تحول الى مادة دستورية؟ لا شك ان الجميع يحترم المرجعيات الدينية ويقدرها ويستفيد من آرائها، فهل الامر يحتاج الى فقرة دستورية؟ وحتى مع الاحتمال الثالث بان حقيقة هذه الفقرة انها تريد تحديد سلطة المرجعيات الدينية، لتقتصر على الارشاد، فايضا لا داعي لها، اذ يكفي ان ينص الدستور ان السيادة للقانون، وليس هناك سلطة تعلو على سلطته. بل ان الارشاد لوحده ينطوي على خطر كذلك، فاليوم بعض المرجعيات الدينية تؤكد على الحل السلمي، بينما تصر اخرى على الحل العسكري وتنادي برفع السلاح والمقاومة، فكيف نعمل، وكلاهما مرجعية دينية، وله اتباع ومقلدون، ويحظى بنفس القدر من الاحترام بين ابناء مذهبه. فهي اجتهادات متضاربة ومتقاطعة في اغلب الاحيان وتحكمها مصالح مختلفة.
ربما الاتجاه العام في لجنة كتابة الدستور هو اقامة دولة دينية فجاء التعبير عنها بعدة فقرات:
1- الجمهورية العراقية الاسلامية.
2- الاسلام دين الدولة.
3- الاسلام المصدر الاساس في التشريع.
4- لا يجوز سن قوانين تتعارض مع ثوابت الاسلام.
5- للمرجعية الدينية استقلاليتها ومقامها الارشادي.
فاذا كان هذا هو المراد فهو نوع من التضليل والاستغفال، وكان يفترض بهم ان يكونوا على درجة عالية من الصراحة مع الشعب. ويعلنوا عن قناعتهم، ما دام القرار بيده (أي الشبع)، فان وافق فهو يتحمل مسؤولية موافقته. او يصار الى لجنة منتخبة اخرى تحقق آماله وتطلعاته.
وايضا تأتي نفس المشكلة ما اذا تمرد بعض شيوخ العشائر، فلمن سيكون ولاء الفرد، لشيخ العشيرة ام للقانون؟ علما ان المجتمع العراقي مرشح للصراع العشائري في أي لحظة. بل ان المجتمع العراقي مجتمع عشائري، رابض في لا وعيه مارد مستبد اسمه سلطة العشيرة. واملنا في عراقنا الجديد ان يتخلى كل فرد عن ولاء العشيرة لصالح ولاء القانون، كي يتوحد مركز القرار. وهذا لا يعني التنكر لما هو انساني من قيم العشيرة، لكن هناك فرق بين قيم الاستبداد والولاء لشيخ العشيرة على حساب الوطن والقانون، وبين الولاء للقانون مع احترام قيم التماسك والمحبة والتعاون.
وبالتالي فيرجى ملاحقة الدستور قبل التصويت عليه، اذ ربما يغفل اعضاء الجمعية الوطنية بسبب الوضع المرتبك، ولم يلتفتوا الى نقاط الضعف، فتحل بنا كارثة ليس لها حل في الافق القريب. واما نقاط الضعف الاخرى فنكتفي بما اشار اليه جمع من المثقفين العراقيين، هنا في ايلاف، وفي غيرها من المواقع والصحف والمحطات الاعلامية.

[email protected]

اقرأ: آراء نقدية في مسودة الدستور للعراق الجديد