قرأت الباب الثاني من الدستور العراقي المقترح والمعنون بـ (ا لحقوق الأساسية والحريات العامة)، وكنت متلهفا لقراءة هذا الباب لأجد حريتي هناك التي حرمني منها الأنظمة الشمولية والحكام الظالمة، ولكن لا أريد هنا أن أناقش قضية الحرية في هذا الدستور الذي صدم الفكر والعلم واللغة، بل أقول وجدت في هذا الباب لغة منبرية، هناك منبر قد نصب، وقد جلس عليه واعظ يخطب على مستمعين، يوصيهم بتقوى الله والتزام الخلق الرفيع ...
تماما على غرار : ليس منا من لم يحترم الكبير ويعطف على الصغير!
قبل كل شي، أعتقد ليس من حق المشرعين الذين كتبوا هذا الدستور أن يدعوا العبقرية عندما يدونوا المادة التالية مثلا (العراقيون كافة متساوون أمام القانون بصرف النظر عن الجنس ...) ــ المادة رقم واحد من الصنف الأول من الباب ــ فمثل هذه المادة بديهية، وموجودة في دساتير العالم، وهي نشيد نردده في المدارس والمساجد والأحزاب والجمعيات والشارع والمقاهي، وحتى في الملاهي والديسكاوات،بل حتى في مضايف شيوخ العشائر الطغاة منهم وغير الطغاة وأن قلوا ... فاللجنة التي تشرف على قسم الحقوق والحريات هنا ـ والعنوان فيه تناقض جزئي ــ لم تكتشف ا لسماء السابعة، وربما نقلت المادة من دساتير مبذولة ومتيسرة في كل مكان، كذلك المادة التي تقول (المتهم بري حتى تثبت أدانته)، فليس فيها شي جديد، وهي مادة عادية نسمعها حتى في الأفلام عندما يقف محامي الدفاع ليدلي بدفاعه عن موكله، بل ربما هي أول عبارة ينطق بها القاضي عندما يفتتح المحكمة ... فلا عبقرية ولا ذكاء ولا قدرة، ولا دليل على أهلية المشرعين هنا بالاستناد إلى مثل هذه المواد الدستورية التقليدية، يستطيع كل شخص أن يقرا الدساتير ويعتمد عليها ويطرحها بكل شجاعة وحرية، ومن هنا كنت أشعر بالشفقة على أحدهم لما خرج في الفضائية العراقية وهو يعدد ملامح العبقرية في الدستور من خلال طرح هذه المواد!
هل هي عبقرية دستورية أن نكتب مثلا (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)؟
هل هي عبقرية دستورية أن ينبري أحد أعضاء للجنة ليقترح مثلا (حق التقاضي مكفول للجميع)؟
الباب الثاني من الدستور العراقي المقترح معنون بعنوان (الحقوق الأساسية والحريات العامة) وكان الحرية ليست من الحقوق الأساسية، وإلا لماذا العطف؟
ليس هذا مهما الآن، ولكن لنقرا المادة التالية : ــ
تقول المادة السابعة (أ) ما يلي (للأولاد حق على أبويهم في التربية والتعليم وللأبوين حق على أولادهما في الاحترام والرعاية ولا سيما في العوز والعجز والشيخوخة)!
تُرى أين هي الدولة هنا؟ أين هي مسالة الضمان الاجتماعي؟ أين هي حقوق الذين خدموا الوطن، والآن هم كبار السين، ضعيفي البنية؟
أن المنحى المنبري واضح هنا، أجزم أن بعض المشرفين على لجنة الحقوق الأساسية هنا من قراء المنبر، ممن يلبس العباءة في كل ليلة خميس ليلقي مواعظه في جامع أو حسينية أو جلسة خاصة ذات طابع روحي شفاف .
حقوق الكبار والعاجزين من الآباء والأمهات، أو أي كبير وعاجز هي من مهمة الدولة، وليس من مهمة الأولاد، نعم، يمكن أن يساهم الأبناء ممن يقدر على ذلك، يمكن أن يشارك، ولكن المسؤول الأول هي الدولة يا ناس، وليس الابن، أم أن كاتب المادة قرأ كتاب الحقوق للأمام السيد علي بن الحسين عليه السلام ونقلها حرفيا؟ ألا تذكرنا المادة المحترمة هذه بالمواعظ المنبرية؟ ألله ... الله بالفقراء ... الله ... الله بذوي الحاجات ... الله ... الله بالوالدين!
ولكن وكما أعلم أن بعض أعضاء اللجنة من عباقرة اللغة العربية، وبهذا ألا تستحق المادة شي من القيد والاستثناء، كأن تقول (... وللأبوين حق على أولادهم في الاحترام والرعاية ولا سييما في العوز والعجز والشيخوخة / عند الاستطاعة)!
من الواضح جدا العقلية المنبرية الوعظية الساذجة في نص العبارة وصياغتها ومضمونها، من الواضح جدا العقلية الاطلاقية الشمولية التي تلقي الكلام على عواهنه ...
لكن الغريب أن هذه ا للجنة لا تتمتع بأي معرفة عميقة عن معنى المجتمع المدني ... هناك جهل في فهم هذا المصطلح، هناك ثقافة جرائد في هذا المفهوم الخطير ...
تعالوا نقرا ما يلي :
المادة 17 من الباب المذكور تقول (يحظر إنشاء مؤسسات مجتمع مدني ذات الطابع المعادي والضار بمصالح المجتمع أو ذات الطابع العسكري أو المليشيات المسلحة سرية كانت أو علنية)!
كارثة!
يبدو أن الذي صاغ هذه المادة كان قد قرأ جيد نظريات وتاريخ مفهوم المجتمع المدني، ترى في أي فكر سياسي يعد الحزب النازي مثلا من مصاديق مؤسسات المجتمع المدني؟
يا رب!
أليست مؤسسات المجتمع المدني هي تلك المؤسسات التي تعمل على حماية الناس، وتعمل على التضييق من مديات إرهاب الدولة وتدخلاتها لصالح شريحة أو طبقة من الناس؟ متى كانت الأحزاب ذات النزعة الإرهابية من أفراد المجتمع المدني؟ أي كلام هذا؟ من الذي خولكم أن تعدوا المنظمات الإرهابية من مفردات هذا المصطلح الذي نحت أصلا لنشر ا لحرية والديمقراطية وثقافة الحقوق ... وهل المليشيات من مفردات المجتمع المدني؟
المادة ج من المادة ( ج) من المادة الفرعية (16) تقول (تحرص الدولة على النهوض بالعشائر والافادة من قيمها وأعرافها الايجابية التي لا تتنافى مع مبادئ الدين الحنيف و القوانين والقيم ا لانسانية النبيلة التي تهدف إلى توثيق أواصر المجتمع وإحلال الوئام والسلام بين أفراده) .
أليس من المعقول أن نقول تعمل الدولة على دمج العشائر في وحدة شعبية متجانسة مع الحفاظ بقيمة وحق الانتماء العشائري وذلك من خلال المفهوم الوطني وأخلاقيات الاخلاص للوطن؟
ألم تشعر المادة المذكورة على أن العشائرية وكأنها قدر لازب؟
أنها لمفارقة حقيقة، كل ما هو ناصع في الدستور تقريبا منقول من دساتير حرفيا، وكثير مما أنشاه المشرعون يثير الشفقة .
وا اسلاماه!
- آخر تحديث :
التعليقات