الضالع أكثر من سواه، في تأجيج سلبيات الوضع الداخلي هو تلك المفاهيم الخاطئة التي يحملها كل طرف عن الأطراف الأخرى!! ومرد ذلك هو (ثقافة الماضي) ثقافة الغنيمة والتسلط التي أنتجت النظام السابق حيث قام هو بدوره بإعادة إنتاجها وتعميمها على المجتمع ما أدى إلى ترسبها في اللاشعور الجمعي لمعارضيه الذين أصبحوا في موقع المسؤولية وكذلك الأطراف التي تعارضهم الآن، من داخل الجمعية الونية وداخلها، معتبرة ما يجري هو معركة الربع ساعة الأخيرة!! دافعة بالأمور إلى مزيد من سفك الدماء والتصعيد الطائفي ضمن ما أسماه أحدهم (مرحلة عض الأصابع)!! بانتظار (من سيصرخ أولاً) وكأن العراق فريسة تتصارع عليها الذئاب!!
وكل هذا على خلفية عدم اهتمام الأحزاب العراقية عموماً بالجانب المعرفي واعتماد المنهج العلمي في إدراك مبدأ الأولويات، لخلق ظروف ومعطيات تمتص التناقضات وتهيأ الأجواء لما هو أفضل.
طوال أكثر من ربع قرن خارج العراق، كان بوسع هذه الأحزاب أن تُرسل الكثير من محازبيها لدراسة العلوم الأساسية كعلم الدولة والديبلوماسية وعلم الإدارة والاقتصاد والاجتماع وكل ما له علاقة بقضية تأسيس مجتمع معاصر ودولة مؤسسات، لكنها لم تفعل، لأنها لا تمتلك رؤية واضحة لمفهوم صناعة المستقبل؟!
لقد عبرت هذه الأحزاب عن أزمتها بوضوح عندما همشت وتناست الكثير من الخبرات والكفاءات العلمية والإدارية والثقافية داخل العراق وخارجه خلال العامين الماضيين، معتمدة على مبدأ (الموالاة قبل الكفاءة أو قبل المكافأة!!) في جملة التعيينات الحاصلة في (النظام الجديد)!!
وأول من ساهم بـهذه الأخطاء هي أحزاب (مجلس الحكم) التي لم تخف تنافسها المحموم على المراكز الرسمية وكأنها باقية فيها إلى الأبد!! فردت عليها الفعاليات الأخرى بالرفض أو المقاطعة أو التشكيك والاتهامات!! لأنها تعتقد بأنها ستبقى خارج السلطة إلى الأبد، ولأنها لم تُدرك بأن السلطة مفهوم واسع في النظام الديمقراطي وهو موجود داخل الدولة وخارجها كمكانة وامتيازات ومصالح.
ومقابل هذه المفارقة أبدى بعض شيوخ العشائر، خفة غير متوقعة، وخاصة أولئك الذين يريدون تحويل عشائرهم إلى أحزاب!! أو الذين أصبحوا يدورون على بعض دول الجوار وكأن مصير العراق وشعبه بضاعة يعرضونها على الآخرين، ما شجع تلك الدول على التدخل في شؤون العراق، الأمر الذي كان على الدوام سبباً أساسياً في مأساة الشعب العراقي.
أن بعض شيوخ العشائر في الواقع لا تنقصه الثقافة المعاصرة فقط، بل أن فسحة الحرية التي هبطت عليها فجأة أفقدته توازنـه. وإذا كان وعيه في الأساس خاضعاً لمشكلة عدم التميـيز بين الدولة وبين السلطة، فهو لا يعرف ما هي المسافة بين مصالحه الشخصية المشروعة وبين مصالح المجتمع ومستقبل العراق، ولم يستطع لحد الآن إدراك التجاذبات والضغوط الدولية والإقليمية التي يتعرض لها العراق الجديد، بل أن انعدام الشعور الكافي بالمسؤولية الوطنية، دفع البعض إلى محاولة توظيف هذه المخاطر لصالح طموحاته وأوهامه الشخصية!!
أن كل هذا الاضطراب في المواقف والمواقف المقابلة، أدى إلى مزيد من التشتت في توجهات الفعاليات السياسية والاجتماعية، ما دفع وزير الخارجية الأميركية السابق كولن باول إلى القول وقتها (لا يوجد في العراق كرزاي قادر على توحيد العراقيين)!! وهذا غير صحيح لأنه غير واقعي، ناهيك عن كون الخلل يكمن في غياب مبادىء ومفاهيم جامعة وليس في غياب شخصية رمزية بالضرورة، ففي السياسة تكون المرجعية عادة للمباديء والمفاهيم التي تكرسها.
وإذا أردنا أن نكون موضوعيين، لا بد من القول بأن المرجعية الدينية هي الجهة المهمة الوحيدة التي ظلت تُدرك أهمية دورها وسلطتها في المجتمع المدني، ليس الآن فقط، بل هي دفعت ثمن استقلالها ومكانتها غالياً في جميع العهود لا سيما في العهد الأخير الذي تماهت فيه السلطة بالدولة تماماً. وهذا ما يفسر دورها الآن بصفتها مركزاً أساسياً من مراكز المجتمع المدني المؤثرة، مدركةً معنى وأهمية الفرق بين المجتمع الرسمي أي مجتمع الدولة وبين المجتمع المدني، ومتى تقترب من السياسة ومتى تبتعد عنها، وجملة فتاوى السيد السيستاني منذ سقوط النظام تدل على ذلك، لا سيما دعوته لرجال الدين في عدم التدخل بالشؤون السياسية والإدارية، لكن تخبط الفعاليات السياسية هو الذي يدفع المرجعية إلى التدخل في السياسية أحياناً ودون رغبة منها.
أن النظام الديمقراطي الموعود يعني أن السلطة ستتوزع وفقاً لتوزع مراكز القوى داخل المجتمع المدني، لينعكس ذلك على توجهات الحكومة بينما تبقى مؤسسة الدولة طرفاً دستورياً محايداً، وهذا لن يحدث لوحده بل يجب أن يصبح التزاماً لجميع الأطراف.
بهذا المعنى يمكن القول أن بوسع شيخ العشيرة أن يبقى شيخ عشيرة لا أن يصبح وزيراً بالضرورة، وبوسعه المساهمة بتطوير المشاريع الزراعية لمنطقته، وبوسعه إذا أثبت جدارة سياسية واجتماعية أن يرشح نفسه للنيابة. أما إذا رأى الأطراف الأخرى موغلة في تنافسها المحموم على تقاسم المناصب والغنائم، فهو سيترك الزراعة ليساهم في تخريب المشروع الوطني أسوةً بالآخرين. وبـهذا يتحقق مبدأ تكافؤ الفرص بأسوأ صورة ممكنة، وهنا تتجسد خطورة المفاهيم الخاطئة المتوارثة عن الدولة بصفتها (غنيمة)!! حيث تصبح ثقافة التنازع على المغانم قاسماً مشتركاً بين الأحزاب نفسها فما بالك بالعشائر؟!
إذا كان أساس الثقافة والجدارة يكمن في القدرة على التمييز ووضع الأمور في سياقها الصحيح، وتوقّع ما يمكن أن يحدث في المستقبل من تحولات، فقد آن الأوان كي ننقذ عقولنا من رطانات النظام السابق ومفاهيمه المشوهة، وأن نجدد وعينا ومشاعرنا مع صيرورة العراق الجديد، وذلك من خلال التصويت بنعم للدستور الدائم رغم ملاحظات هذا الطرف أو ذاك على هذه النقطة أو تلك، لكي نساهم جميعاً بإنجاح الانتخابات القادمة التي توفر لنا فرصة الشروع بتحقيق مبدأ المشاركة في صنع الحياة الجديدة وتوجيه مستقبل البلاد، دون أن يعني ذلك أن الجميع سيصبحون وزراء أو محافظين خلال الشهور القادمة أو أن الأزمات ستودعنا بين ليلة وضحاها!!
أن رفض الدستور قد يؤدي إلى نتائج لا يتوقعها من يرفضوه، لأن أعداء العراق يتربصون به ولا يجدون مناخاً ملائماً لهم أفضل من بقاء الأمور الأساسية معلقاً لوقت آخر، والسؤال هو إلى متى يجب أن تبقى الأمور معلقة، خاصة وأن أية جهة لا تستطيع أن تدعي بأن بوسها أن تقدم دستوراً آخر يرضي الجميع ولا يثير اعتراض أحد.

[email protected]