أنا من جيل شعري، تربى، تاريخياً، على ميراث أدب المقاومة. حيث كنا، منتصف السبعينات، وما تلاها، نتابع هذا الميراث، ونستنسخه، سراً، ليمرَّ على الجميع، من متأدبي تلك الفترة. كان الاحتلال، صارماً وقاسياً، في معاقبة كل من يجد عنده، شيئاً من هذا التراث. بل إن البعض منا، سُجنَ وعُذّبَ، لفترات تصل السنة، لمجرد أنهم وجدوا في أوراقه البيتية، قصيدةً أو مقالةً، لدرويش أو سواه. أيامها، كانت الأمور إما أسود أو أبيض. وكان الاحتلال واضحاً، وموقفنا منه، واضحاً بالضرورة. استمرّ هذا الحال، إلى أن حدثت اتفاقيات أوسلو، وجاءت السلطة الوطنية، لتتسلّم مقاليد الحكم، في المدن، والقرى، وبعض المناطق. انتهت مرحلة، بكل ما لها وما عليها، وبدأت مرحلة أخرى، جديدة، وملتبسة، من تاريخ الشعب الفلسطيني. جاء أدباؤنا وأخوتنا، من تونس، فتقلّدوا قيادة العمل الثقافي، وبدأنا نسمع ونرى العجب!
رأينا أدباء المقاومة، من ذوي الهالة الثورية القديمة، وهم يتحولون، ببساطة مؤلمة، غير أخلاقية بالمرة، إلى أدباء وطبّالي سلطان وسلطة. يتقاتلون على المناصب والمواقع الكبرى، ولا يهمّهم أن يسحقوا " الصغار " في طريقهم. لقد صُدمنا، نحن متأدبي الداخل، مما نرى. بل إن الكثيرين منا، لم يصدقوا، في البدء، ما رأته عيونهم.
لكننا، بمرور الشهور والسنوات، بدأنا نصدق، ونحلل ونفهم، ما غمض، عن بُعد، ووضحَ الآن. فهؤلاء ليسوا بأدباء مقاومة، ولا ما يحزنون. بل هم، وبعد عشر سنوات من التجربة، والاحتكاك اليومي، والمشاهدة والسماع، مثلهم مثل أدباء السلطة، المتسلطين، في كل زمان ومكان. لقد أُعطوا هالةً، لظروف تاريخية معينة، لا يستحقونها، وأبداً لم يكونوا أهلاً لها.وإذا كانوا قد خدعوا الأغلب الأعم من الجمهور الفلسطيني والعربي، فقد خدعوه، إعلامياً وسياسياً، لا أدبياً وفنياً. فمن يرجع إلى أدبهم وشعرهم الآن، على سبيل التنقيب والمراجعة، ومساءلة النصّ فنياً، لن يجد كبير صعوبة - ولا قليلها - في اكتشاف مدى ما يعاني منه هذا الميراث، من ضعف فني، وفقر إنساني مدقع.
إنهم، في غالبيتهم، أدباء سوق: أعطوا للناس ما يريده الناس. وأبداً لم يرتقوا بذوق وحساسية جمهورهم العريض. ولا أجانب الحقيقة الفنية، إذا قلت إن شعرهم في الجوهر الخبيء منه، هو شعر رجعي بامتياز. شعر ضد عصره وثقافة عصره وروح عصره، مضاد للحداثة والقيم المدنية المتحضرة، على نحو فاجع، ومضحك في تهافته الصحراوي الرثيث! فأغلب هذا الشعر، لا يعدو أن يكون خطابة منبرية - جعجعات وعنتريات، وديماغوجيا..إلخ. وليس الآن، مجال طرح السؤال الكبير: لمَ خُدعنا بهم إذاً؟ فهذا سؤال، تارخي، ومركّب، ويحتاج إلى فسحة أكبر وأوسع من فسحة هذه المقالة الصحافية.
إن غاية هذه المقالة، إنما أن تكشف، لبعض العرب، الوجه الحقيقي، لهؤلاء الناس. الذين، شكّلوا، ذات يوم، ظاهرة ثقافية، ونماذج ورموزاً، أثبت وجودهم على الأرض، بيننا، ههنا في الداخل، أنها ليست أكثر من وهم واستيهام وتخيلات! فهم الآن، وأقصد " الكبار " منهم، مرفهون مدللون، يتمتعون بامتيازات، لا أظن أحداً من المثقفين العرب، يتمتع بها، أو يحلم بأن يحوزها. إنهم دائماً على [حِجْرِ] السياسي. وأقصد الرجل الأول. لا يردّ لهم طلباً، ولا كتاب معونة، ولا أي طلب آخر، كبُر أو كبُر!
وكيف لا وهم خاصته ورافعو راية تقديسه وتأليهه إلخ إلخ! رأينا وصُدمنا، وبعد لم ينتهي الفيلم العظيم!
إنهم يعيشون بيننا الآن، بعيداً عن همومنا وهواجسنا، في بحبوحة جنتهم التي لم يحلموا بها! محسوبون على فلسطين المعذبة، وهم أنفسهم جزء من عذابها! لم يخدموها وإنما استخدموها، وما زالت هذه المهزلة - الاستخدام - متواصلة ومتتالية الفصول، حتى اللحظة. مناصب وأموال، وسفريات، وبيوت، وحسابات في البنوك، وعفن وحقارة، ولا ضمير ثمة، ولا أخلاق. إذا وُجدوا في أي شأن، أفسدوه. تلك سيرتهم ومسيرتهم، مذ كانوا، وإلى يوم ينقلعون!
لكنّ هذا اليوم، ليس بقريب، من أسف. فالحال لم يتغير قيد أنملة، منذ غاب ملاكهم الحارس. ولن يتغير، كما تدل كل المؤشرات والوقائع. ذلك أن الوجوه، في المستوى السياسي، هي ذاتها. وعليه: فلا أمل!
لا أمل! ولسوف يظلّ هؤلاء، في أمكانهم وامتيازاتهم، الشاذة، قياساً إلى محيط شعبهم الصابر الفقير. فنحن في الأول والأول، لسنا دولة نفطية، بل شحاذون، ونعيش على معونات الناس. فكيف، إذاً، تستقيم الأمور، ونحن مقسومون قسمين: قسم شحاذ، وقسم لصّ! قسم يستشهد، ويُهدم بيته، وينام في العراء. وقسم ينتظر، أو ينقضّ مباشرةً، على سمين الثمرة!
إن فسادنا السياسي الفاضح، يخفي تحت عباءته الفضفاضة، فساداً ثقافياً مرعباً! فالانحطاط، كما يعلّمنا التاريخ، لا يصيب جانباً، ويترك جانباً معافى: بل يلطش جميع الجوانب. مع أنه من المفروض، ولو نظرياً، واغفروا لي هذه المثالية التي لا يسندها ساند على الأرض، أقول: من المفروض، ألا يفسد الثقافي، بصفته ضمير وجوهر وحارس الشخصية الفلسطينية. إنما، وكما يقال، فحاميها صار حراميها، والأجر والعوض على الله!
يتمتع هؤلاء الناس، بالتوازي مع امتيازاتهم الكثيرة، بعقلية دوغما، مضحكة وهزلية حقاً! فقضية حياتهم الآن [على جري العادة، بأن تكون لهم قضية، كل فترة] هي التطبيع ومقاومة التطبيع! يا سلام على النضال الاستثنائي! يرقصون على السلّم في ليل حالك! لا لشيء إلا هروباً من هموم ومواجع شعبهم الحقيقية. شأنهم، في ذلك، شأن أية دوغما في التاريخ: لا بد لها من شيء وهمي، وفي أحسن الظروف، جانبي، تُشغل به نفسها والمحيطين بها. إنهم ضد التطبيع، وكأنّ إسرائيل المطبعة مع جميع الأنظمة العربية، ينقصها تطبيع! لم تعد لهم من قضية، سوى إشغال الناس والمشهد الثقافي، بكل هذا البؤس القديم - الجديد. إنه، مرة أخرى، الوعي الفقير وتجليّات الوعي الفقير!
الوعي، الذي أنتج، وما يزال يعيد إنتاج، ذلك الميراث الكاسد. فلا شيء لديهم، ولا خيار عندهم إلا مواصلة الضحك على ذقون الناس، فيما هم يتمتعون برضى السلطان وأعداء السلطان، إن كانت بقيت ثمة عداوة.
لقد انتهى زمانهم، وطُويت صفحتهم، ولكنهم أبداً: لا يصدّقون. بل على العكس، يصرّون على التشبث بمقاعدهم، ويتكالبون على عَرَض الدنيا، كما لا يفعل مراهق أو مريض نفساني. فإلى متى؟ إلى متى سيظلون كاتمين على نفَسنا، وآخذين زمنهم وزمن غيرهم، بإسناد عظيم من رموز سياسية فاسدة؟ إنه حقاً، وكما أرى: السؤال المتواطَىء عليه: المسكوت عنه: السؤال بلا جواب!

•شاعر مقيم في غزة
[email protected]