أريئيل أو أرييل - مخففة - معناها بالعبرية : الأسد. وأريك هو اختصارها، وفي سياقنا الآن، هو اسم الدلع الشهير، لرئيس الوزراء الإسرائيلي، لكن [البلدوزر] هو لقبه الأشهر. وقد حاز لقبه هذا، عن جدارة، منذ الستينات، أيامَ كان ضابطاً شهيراً في " تساهل " - أو جيش الدفاع، كما يقال.
والبلدوزر، هو التسمية الشائعة له، على صعيدي النخبة والشارع، داخل إسرائيل. فما أن ينطق أحد، هذه الكلمة، حتى تُحيل، أوتوماتيكيا، على صاحبنا، سواء أكان حاضرا في المستوى السياسي والحزبي، أو غائبا، في مزرعته الكبرى، هناك، جنوبا، في أرض "هوج" و"نجد" - أو، مرة أخرى، في "سيدوروت"، كما يقال.
أما لماذا اخترت شارون، ليكون موضوع هذه المقالة، فلذلك قصة. ذكرت بعض أطرافها، قبل عقد من الزمان، في مقالة، نُشرت في صحيفة الحياة الجديدة الفلسطينية، وعُقّبَ عليها، ذات صيف ماض، من قبل أديب إسرائيلي.
وأما لماذا شارون الآن، فأنا نفسي لا أعرف. كل ما أعرفه، أنني أحلم به منذ أسبوع. وفضلاً عن هذا، فقد جاء ذكره، في سهرة ماتعة، قبل أسابيع، مع سركون بولص وطاهر رياض، في بلدة الشعْر والسحْر الكونية : لوديف.
شربت ليلتئذ، وانطلق لساني، فقصصت على الصديقين، قصة طفولتي، مع هذا الكركدنّ الحديدي، كما أحب، كشاعر، أن أُسمّيه.
والقصة، أنّ زماني قيّض لي، أن أكون خادماً في مزرعته. كان ذلك في العام 72 من القرن الماضي، حيث مكثت عنده، طوال العطلة الصيفية، وهي مدة كبيرة نسبيا، عند كل من يعمل خادما أو أجيراً، في مزارع الكركدنّ. والرأي هذا، ليس رأيي، بل رأي ذلك الشيخ الخليلي - من قرى الخليل - والذي يعمل لدى شارون حارسا، منذ عشرين سنة. فكم مرّ على الرجل من عمال وأجراء، وكلهم، بالطبع، أبناء عرب : يتغيرون ويتبدلون، كما يُبدّل ثريٌّ أحذيته، باستثنائه هو، الذي، لسبب ما، أبقاه شارون، وأمّن له.
لم يكن الكركدن، نجما سياسيا باهرا، كما هو الآن. كان مجرد ضابط كبير وشهير في تساهل، لكنه، لم يكن برز بعد ولمع، في السياسة.
كان عملي، أن أسقي قطعان العجول والإبل. وأحيانا، حين يزورنا، أن أُخدّمَ عليه.
ذات يوم قائظ الحرارة، فاجأنا بحضوره، وهو يشرُّ عرقا، صارخا فينا، أن نلحقه بالماء المثلج، وبصحن كبير من ال [سابرس] أي التين الشوكي المُقشّر. لم يكن في المزرعة، وقتذاك، سوى الشيخ الحارس وأنا، أما الباقون، فكلّ مشغولٌ في عمله، في أنحاء متفرقة، من المزرعة الشاسعة.
هرع الحارس وأتى بالماء للكركدن المتأفف، وتقاعست أنا، عن القيام، إذ فرغت لتوي من عملي.ثم إن تقشير الصبار، عملٌ ليس من اختصاصاتي، في بلاد تحترم الاختصاص والتخصص، فما كان من الكركدن، إلا أن جَعَرَ فيّ، فقمتُ لا ألوي إلاّ على السابرس وتقشير السابرس!
غبت عنهما ربع ساعة، أقطف الثمار الذهبية الناضجة الطازجة، وأضعها في دلو بلاستيكي كبير، ثم أختار اكبرها وأنضجها، ومن ثم أُقشّره.
جئت بأكثر من عشرين ثمرة، على طبق صيني فاخر، مخصص للكركدن، فأكلها هذا، واستطاب طعمها، ثم طلب المزيد، فجئت له بعشرين أخرى، بنفس الجودة والمواصفات.
في اليوم التالي، كما أذكر، أتحفنا أيضا بزيارة. وقد طلب من الحارس، أن يخصص مهمة قطف الثمار، لهذا "الولد الغزاوي النشيط"، على أن يقشرها ويضعها فورا في الثلاجة، فوق ذات الصحن اللامع. لتكون جاهزة للأكل، في أي وقت يحضرنا فيه.
في تلك الفترة، تكررت زيارات شارون لنا، على غير العادة - تقريبا صارت يومية. وتكرر طلبه لصحن فاكهته المفضل. كان يأكل، كما لو كان أحدٌ يلاحقه : يأكل بنهم وبشيء من الشراسة، وأثناء ذلك، لا يكفّ عن الحملقة فينا. موزّعا حملقاته غير المريحة، علينا، الشيخ الفاني وأنا، بالتساوي. وحين يأكل، تكون ملامح وجه غاضبة نوعا ما، وتكون سيماؤه مربدّة. ليش؟ لا أعرف.
لست أبغي رسم كاريكوتورا له، فذلك سلوك ليس من طبعي. وإنما أقول ما شاهدته، بأم عيني، بل أهمّ من هذا : أنني، أقول الآن، أي بعد 33 سنة، ما بقيّ من انطباعي عنه : أي جوهر لا عَرَض الانطباع.
في تلك الأيام، كما يبدو بعين وعيي الآن، كان الكركدن يعاني من أزمة مالية، لذا، كان يُقتّر علينا أجرتنا المُتفق عليها من قِبل رجل حساباته، فلا يعطينا إلا نصفها أو ثلثيها على الأكثر.
أذكر ذات نهار، أنه جاءنا مزبدا غاضبا، لأن احد عماله اليهود، أخبره بنفوق خروف سمين، يقع تحت مسؤولية ورعاية، عامل خليلي كهل.
دخل البوابة الرئيسية، بدون مرافقي الأمن الخاصين، وصرخ فيّ فورا : أين أبو مخمود ؟
قلت له : لقد خرج للتوّ، إلى الناحية القبلية.
وفي هذه اللحظة بالضبط، كان عامل في مثل سني أو أصغر، يخرج حاملا وعاءً كبيرا من الحليب، فما إن رأى غضبة " المعلّم الكبير "، حتى انزلقت رجْلهُ، وانسكب الحليب كلّه على التراب.
هجم عليه الكركدن الهائج، وأمسك بتلابيبه، كما يمسك أسدُ بعصفور، وانهال عليه ضربا وشتما وتقريعا!
رأيت المنظر، فأصابتني قشعريرة الرعب، فلجأت إلى جذع شجرة قريبة، محتميا به من إمكانية ان يطالني غضبه المسعور أيضا.
لم ينتبه إليّ، وواصل علقته الرهيبة للفتى. لا أقل من نصف ساعة وهو يفترس الولد، إلى أن غاب هذا، أخيرا عن الوعي، ليقوم بعدها، الأسد، ومباشرةً، فيطلب مني إعداد طبق فاكهته المفضل!
إنه بالفعل أسد، واقعا لا مجازا!
أعددت له في الطبق الكبير، ثلاثين ثمرة صبار، من أجود ما تنتجه الأرض الحمراء. أكلَها جميعا ثم لبث قليلا، يضاحك عماله اليهود، ويمازحهم بشأن الفتى - العربوش. ثم غادر...
من يومها، لم آلف شارون ولا استلطفته. وأذكر أنني شكيته، لزوجته الراحلة، حين زارتنا، مرةً ولم تكررها.
هذا هو شارون، بعيدا عن كاميرات التصوير : شارون في حياته الخاصة.
رجل لا يؤمن تجاهنا نحن العرب، إلا بلغة واحدة هي العنف والعدوان. عنف وعدوان سواء على الدول أو الشعوب أو حتى الأشخاص العاديين البسطاء.
ولكَم جرّب فينا، نمردته تلك، حتى ضجّ منها الطير والحجر.
إنني، إلى ليل الناس هذا، لا أزال أرى منظر اعتدائه الهمجي على الفتى الخليلي الطيب. ولكم اللحظة، أن تتصوروا شارون، عام 72، أي وهو في تمام نضجه العضلي وعنفوانه!
كان حقا أسدا!
لكنني مصرّ على تسميتي الشاعرية : الكركدنّ الحديديّ. فهي تسمية موحية وذات ظلال ومعان، أكثر من تسمية الأسد!
لكن : لا شأن، لشارون، كما تعرفون، بفقه اللغات. فهو رجل أفعال لا أقوال : رجل يموت في " الإنجاز على الأرض "، ولا يلقي نذير اهتمام لما يقال عنه أو يوجّه إليه.
بقي أن يعرف من يهمّه الأمر، أن " نجدا " تلك، والتي أقام فيها شارون، واحدةً من كبريات المزارع في إسرائيل، والتي يُصدّر منها، أكبر كمية حليب في تاريخ الدولة، لشركة الألبان الإسرائيلية العظمى " تنوفا "، هي قريتي.
قريتي التي ولد فيها سبعة من إخوتي، وعاش فيها أجدادي وأبي وأقربائي. قريتي، التي هُجّرنا منها، تاركين وراءنا أيامَ عزّ لن تعود، وآلاف الدونمات من الأرض، ومئات الأبقار، وعشرات الخيول العربية الأصيلة. قريتي، التي ولدتُ بعيدا عنها، في مخيم للاجئين، وضيعٍ لا يستحق مجرد ذكر اسمه. قريتي، التي خسرت أنا شخصيا، من جراء تهجير أهلي منها، نصيبي من الميراث، أي حوالي 759 دونما بالضبط، فكيف أغفر لشارون كل هذا ؟ ومن أين وأنا لست قديسا ولا أحب القديسيين ؟
ثم كيف أغفر لرجل بنى كل مجده على المجازر ؟ وكل علامات تاريخه الفارقة على دم شعبي ؟ بل والأسوأ : كيف أغفر لرجل عظيم الجثة مفتول العضلات، انقضاضه على ولد بعمر أبنائه، لم يقم عنه إلا وقد أوشك أن يقتله ؟
ربما أغفر ذات يوم قيامة، لكنني أبدا لن أغفر له ذلك المنظر الرهيب، المنظر الذي يعاودني بتفاصيله الكئيبة، حتى ليضعني في موقف تبكيت وتأنيب ضمير، من أبشع ما عشت من المواقف : موقف أنني تقاعست، وكان بإمكاني أن أهجم عليه بعصا غليظة أو بحديدة، فأناله من خلف، وليحدث بعدها ما يحدث!
بل كيف أغفر له، وأيضا لي، أنني لم أُسمّه، أنا خادمه المفضل طوال ثلاثة شهور ؟ آه لو فعلتها، لربما كنت أرحت شعبي منه ومن مصائبه الثقيلة القادمة.
لكنني لم أفعل. لكنني لن أفعل. لكنني بين لم ولن، لن أرى راحة ولا هدوء بال. فقد مضى ما مضى، وها هو الكركدن الحديدي، يغادر غزة، تحت وقع ضربات مقاوميها القاسية، بعد أن حوّلها إلى أنقاض.لا مؤمنا بسلام، ولكن هاربا من احتلال خاسر.
أيها الكركدن الذي من حديد : إخرج إلى الأبد، فلا مكان لك في غزة النار والمقاومة.
إخرج، فقد أفسدت حتى شعرنا، حتى نثرنا، بعد أن أفسدت حياتنا كلها من قبل.
أما عني شخصيا، فأقول لك، إخرج أيضا من أحلامي، التي أحلتها إلى كوابيس.
مرةً، اشتريت كتاب مذكراتك الضخم، بعدما تُرجم عن الإنكليزية. قرأت الكتاب كله، فأذهلني، كم كان فيه من أكاذيب! فأنت تبدو في الكتاب شاعرا من الطراز الرفيع : شاعرا يتغزّل بأرض آبائي نجد، ويأتي بعبارات وصور وتراكيب جُمل، أنا نفسي غبطتُ المترجم العربي، على حساسيته العالية في نقلها وتدوينها!
شارون يتغزّل، شارون المتوحد مع الماء والشمس والطبيعة، يتغزّل : يتغزّل مثل شاعر رعوي عظيم، بأرضي السليبة. إنه، إذاً، نوع من حساب شخصي لي معه، حساب شخصي، بصفتي شاعرا، هذه المرة، وقبل أي شيء آخر. حتى لو، فرضاً، انتهت كل الحسابات السياسية العامة.
فالكركدن الحديدي، الذي أطعمته يداي ذات ثلاثة شهور، هو السارق الشخصي، لوطني الخاص " نجد "، السارق، ومع هذا، لابس مسوح الشاعر المرهف، والمتزيي بزيّ عاشق الطبيعة الأول، فوا مفارقتاه!
إنها مفارقة سوداء، لو سمع بها الشاعر النبيل، أوخينيو أندرادي، لكان كفّ عن امتداح الطبيعة، ما دامت الكركدنات الحديدية، تمدحها وتمجّدها هي أيضا...


شاعر مقيم في غزة
[email protected]