عندما قدمت السلطة، قبل أحد عشر عاما ونيف، كان معظم مثقفي الداخل، من أدباء وكتّاب وشعراء، يُصنّفون أنفسهم، في خانة اليسار. فمن لم يكن منهم عضوا في فصيل أو حزب، بالمعنى التنظيمي، كان يسارياً بالمعنى الثقافي العام للكلمة. ولهذا السبب تحديدا، نشأ أول تجمّع كتّاب فلسطيني، تحت الاحتلال، منتصف سبعينات القرن الماضي، بصبغة يسارية كاملة، تضم، في ما بينها، مختلف ألوان الطيف الثقافي جميعاً. ثم سرعان ما تحوّل هذا التجمع، بعد سنوات قليلة، وبعد نضال عسير، مع المحتل، إلى اتحاد الكتّاب الفلسطينيين. وكان هو أيضاً، في غالبيته الساحقة، من المثقفين اليساريين، الأمر الذي انعكس على قيادته وهيئته الإدارية، بجميع أعضائها.
بعد سنتين أو ثلاث، تمّ تكوين تجمع لكتّاب فتح، ثم اندمج الجسمان معا، وتوحّدا، فأُعلن، في حينه، عن تشكيل "اتحاد الكتّاب الفلسطينيين" في الداخل، أي في القدس الشرقية والضفة وغزة. وقد تقاسم اليسار وفتح، جميع مقاعد الهيئة الإدارية، في الجسم الوليد، إلى أن عُقدت اتفاقية أوسلو، وجاءت السلطة الفلسطينية. جاءت السلطة، تحمل معها وعوداً جمة، وامتيازات، ووظائف، إلخ. فتحوّل بعض الكتّاب اليساريين، إلى كتّاب فتحاويين، في يوم وليلة! تنكّروا لماضيهم كله، في لحظات. بل والأدهى، أنهم أخذوا يجادلون الناس، وبالذات من يعرفونهم جيدا، بأنهم لم يكونوا في يوم، من المثقفين المحسوبين على الحزب الشيوعي، مثلاً، أو الجبهة الشعبية، أو غيرهما. بل كانوا فتحاويين، منذ 1968، إلخ! ركب الكثيرون الموجة، إذاً. وعلى حدّ تعبير أحدهم: [ كيف لا أُغيّر جلدي، والربيعُ ذراع؟؟ ]!
لا بأس! فالمثقف حرّ في نهاية المطاف، ومسألة تغيير حزبه أو معتقده، أو حتى دينه، مسألة تدخل في باب الشأن الشخصي، ولا غبار على ذلك. على الأقل، أنا أنظر إلي الموضوع كله، من منظور ليبرالي، حقيقي وأصيل. فما الذي يعنيني، لو غيّر هذا الشخص أو ذاك، انتماءه إلى فكرٍ ما أو حزبٍ ما؟ ليكن، فما دامت هذه قناعاته الشخصية، فمبروكة عليه، كما يقول التعبير الدارج. إنما، لم تكن المسألة أبداً من هذا القبيل، بل كانت، وكل الدلائل على الأرض تؤكد ذلك، كانت ضربا فاقعا مُهلهلا من السلوك الانتهازي! ومع هذا لا بأس. فكل هذا، حدث ويحدث وسيحدث، على مدار التاريخ. فهو شأن بشري، ومن يعرف البشر، يفهم ويقتنع، وأحيانا يبتسم ويسخر. لكنني، والحق يقال، لم أسخر كثيرا، لأن السخرية- للأسف - ليست من مكوناتي النفسية ولا من مزاجي.
بل لقد فكّرت ذات يوم، بأنهم معذورون نوعاً، فالسلطة التي قدمت إليهم، هي نسخة طبق الأصل من صورة النظام العربي، بكل عواهنه وخطاياه. بل ربما، حتى، تكون أسوأ!
إذ هي جماع لكل عيوب الأنظمة العربية، دون آحاد محاسنها، إن كان ثمة من آحاد محاسن لتلك الأنظمة الثيوقراطية الوسيطة.
مضت سنة أو أقل، فإذا بجمع كبير من الكتّاب وأنصاف وأرباع وأشباه الكتّاب، يصيرون تابعين، للسلطة وحزبها الحاكم. حتى بلغ عدد هؤلاء، في غزة فقط، أكثر من مئة كاتب، والمضحك، أننا نحن الكتّاب المتواجدين في غزة [غزة الأوسع قليلاً من غرفتين وصالة] لا نعرفهم، لا بالاسم ولا بالجسم! وما حصل عندنا في غزة، حصل في الضفة، بعدد أكبر. حتى وصل عدد أعضاء الاتحاد في المكانين، إلى أكثر من 450 كاتبا! والمضحك، أن الكتّاب الحقيقيين، هنا وهناك، لا يتجاوزون عدد الخمسين على الأكثر!
كيف تم ذلك؟ لا تسأل، فالجواب معروف، بصيغته العربية الشهيرة، ولا يحتاج إلى تعريف أو قليل ذكاء. هذا هو حالنا في اتحاد الكتاب، وهذا هو حال مثقفينا أو مثقوفينا إذا جازت التسمية.
كثيرون ذهبوا إلى الحزب الحاكم، قبل أن يناديهم الحزب. ولذا، ليس من المستغرب، أن تتمّ مهزلة الانتخابات الأخيرة، على ما تمّت عليه. فالمشكلة في الغالبية الساحقة من هؤلاء الكتّاب، أولاً وأخيراً، قبل أن تكون في السلطة ذاتها.
فهؤلاء غيروا جلودهم، طمعاً في ذهب المعزّ، قبل أن يكشف المعزّ عن ذهبه اللمّاع. أما القلة، ممن بقيت على طريقها، طريق اليسار أو طريق الاستقلال عن كل التنظيمات، فكان الله في عونها، على ما رأته. وما سوف تراه، في قادم الشهور والسنوات والعقود، من مهازل ومباذل.
ولعلي أتذكر في هذا السياق، ونحن نرى ما نرى، ذلك المثل الفلسطيني الدال: [ يا ويلي من المشتاق إذا ذاق ]. حقاً يا ويلي من المشتاق إذا ذاق! وماذا؟ إذا ذاق السلطة أو مجرد الانتماء، ولو من الهامش، إليها.
[فهذا، ولا تنسوا، يحدث عندنا، للمرة الأولى في التاريخ!] إن السلطة، كما يعرف القارىء، هي أقوى شهوات وغرائز ابن آدم العربي. أقوى من الجنس منفرداً، أو الأكل منفرداً، أو المال منفرداً، أو الوجاهة منفردةً، لأنها، أي السلطة، هي كل ما سبق مجتمعاً، بل وأكثر مما سبق. فما سبق ذكره، ليس إلا من شهوات الإنسان البدائي، ونحن بالطبع، يحكمنا الآن، من حسن طالع شعبنا الغلبان، أناس حداثيون وما بعد حداثيين، بدرجة الامتياز...