لا اعرف سببا في الحقيقة للقناعة التي تسكنني منذ أن وعيت على الشأن العام بأنه ليس من البطولة أبدا القفز من المركب بينما هي تشارف على الغرق وهي نفس القناعة التي أقعدتني عن الانضمام إلى قائمة المرحبين باعترافات السيد عبد الحليم خدام (الذي يبدو انه بالفعل كان اسما على مسمى) عن تجاوزات النظام السوري الذي ظل هو شخصيا ضلعا ثابتا وعامودا صلبا من أعمدته طوال ما يزيد عن ثلاثين عاما كان خلالها شاهدا وفي الأغلب منفذا للعديد من العمليات القذرة التي خرج علينا أخيرا ليندد بها وكأن خداما آخر كان قريبا من كرسي الأسد وهو ينفذ كل تلك العمليات أو كان السيد خدام عادت إليه النخوة وصحا ضميره فجأة قبل أن تنزل تترات النهاية في الأفلام العربية التي اعتدنا دائما أن تنتهي نهاية سعيدة مهما بلغ حجم سوداوية الأحداث فيها.
قبل أن أتابع أجد نفسي مدفوعا للتأكيد على أنني لا أدافع عن النظام السوري الحالي أو الماضي ولا أبريء ذمته من أي جريمة أو أي حماقة سياسية ذكرها السيد خدام كما أنني اشعر بالغثيان أيضا من الحملة المضادة التي حما وطيسها في سوريا ردا على اعترافات نائب الرئيس السوري السابق وهو موضوع سنأتي له في السياق لكنني أجد بصراحة أن الأهم هنا اعترافات خدام ومسارعة البعض لتحويله إلى بطل لمجرد انه قال ما يريد الآخرون منه أن يقوله في الوقت الذي حدده هؤلاء الآخرون لكي يجدون مبررا فيه يسهل عليهم تنفيذ مخطط معد مسبقا بينما الحقيقة أن السيد خدام (في رأيي أيضا) بعيد كل البعد بما فعله عن البطولة ولو كان كذلك لقال ما قاله في وجه الأسد الكبير أيام عنفوانه أو على الأقل آثر الانسحاب عن الشأن العام في سوريا كلها احتراما لنفسه وإنقاذا لها من التورط في عمليات قذرة لا يمكن لرجل حر أن يقبل زج اسمه فيها إلا أن الرجل الذي خدم النظام بإخلاص وحماس وأبدع في التنكيل بمعارضيه طوال ما يزيد على العشرين عاما يأتي الآن وبعد أن قبض عدة مئات آلاف من الدولارات الفضائية ليحاول إقناع المشاهدين العرب المخدوعين بالفطرة بأنه كان حملا وديعا وانه صاحب ضمير حي أبى عليه إلا أن يقول الحقيقة في وقت تتهاوى فيه الأرض بقوة من تحت الرئيس الأسد الصغير بعد أن تخلى عنه الحلفاء وتقاعس الأصدقاء عن دعمه تخوفا من المد الاميركي العالي الذي بدا يضرب السواحل السورية، وما فعله خدام يذكرنها بما فعله بدرجة اخف شريكه في الإبداع السياسي طوال حكم الأسد الكبير العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري قبل عامين بعد خروجه من منصبه ويبدو أن صدمة الابتعاد عن الكرسي تصيب المسؤولين السوريين بلوثة في عقولهم فتجعلهم يهذون بما يجب وما لا يجب أن يقال على الأقل لكونهم مشاركين في المسؤولية عنه بشكل أو بآخر.
وكان من الإنصاف لو طلب خدام من الهيئات الدولية محاكمته على الجرائم التي شارك في ارتكابها باسم النظام السوري إذ كان يمكن وقتها لكثيرين تصديق حكاية صحوة الضمير المفاجئة التي ازعم أنها لم تنتب مسؤولا عربيا واحدا لوجه الله وكأنهم يتلقون تطعيما فعالا ضدها، كما كانت ستسهل علينا إقناع أنفسنا بان الرجل يمر بمرحلة بطولة ما قبل النهاية وانه يريد أن ببريء ذمته من بحور الدماء التي أراقها أو شارك في أراقتها قبل أن يلاقي ربه، إلا أن نائب الرئيس السوري السابق اختار الطريق التقليدي للمسؤول العربي المبعد وأدلى بشهادته على فظائع نظام الأسد وكأنه لم يكن واحدا من أركانه.
أما ما حدث ويحدث على الجانب الآخر فلا يمثل في رأيي سوى تتمة للمسرحية الهزلية التي مللنا من مشاهدتا في اغلب بلادنا العربية، إذ لا يمكن الاقتناع بان السادة الموقرين أعضاء مجلس الشعب السوري اكتشفوا فجأة أن خدام وأولاده من رموز الفساد وان الرجل تربح من منصبه وجمع ثروة تقدر بملايين الدولارات وكل هذا لمجرد انه قال ما لم يعجب الرئيس السوري ونظامه وساهم في دفعهم خطوات إضافية إلى داخل النفق المظلم لان خدام إذا كان قد تربح من منصبه (وهو أمر متوقع) فلابد انه فعل ذلك تحت سمع وبصر كل قيادات النظام السوري السابق وربما بتشجيع منهم أيضا كما انه ليس وحده الذي تربح من منصبه ولن يكون الأخير طالما بقيت الأنظمة التي تطبق على أنفاس شعوبها هي السائدة عربيا.
وفي النهاية لا املك إلا الاعتراف بان المشهد الحالي ليس إلا دليلا جديدا على المهازل السياسية التي كتب علينا أن نشاهدها ونعيش تفاصيلها (وإحنا قاعدين) حسب التعبير الشهير لعادل إمام في مسرحية مدرسة المشاغبين باعتبار ذلك من أشكال السلبية الحادة، والى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا وتنزاح غمة الأنظمة الفاسدة عن بلادنا لا نملك إلا الهتاف مع أهل القرون الوسطى يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف..!

[email protected]