رغم ريادة وتفرد وتاريخية الصحافة المصرية في العالم العربي وعطائها الثري وريادتها في تقديم المعلومة الصحيحة وإنتاج الأقلام الصحفية العريقة في تاريخ الصحافة العربية إلا أن الإنهاك والخدر وحالة الجمود والتحجر وتوقف النمو قد أصابتها بشكل واضح وجعلتها اليوم بمثابة رجع صدى باهت لأمجاد الماضي العريق الذي مثل بداية النهضة العربية الحديثة التي إنكفأت اليوم بشكل مأساوي؟ وخلال زيارتي الأخيرة للقاهرة حرصت على متابعة تحليلات الصحافة المصرية القومية والحزبية من جميع القضايا المحلية والقومية الساخنة، ولا أخفي صدمتي من حجم الهزال الفكري والتسطيح المعلوماتي التي طفحت بها مقالات الرأي المصرية، وفيما يتعلق بالوضع السوري الساخن تحديدا وحيث دخلت الصحف المصرية على خط الأزمة التي إشتعلت بعد أقوال السيد عبد الحليم خدام لقناة العربية، فلم تتردد غالبية المقالات في الصحف القومية وليس الحزبية فقط على وصف موقف السيد خدام بالموقف الخياني!! ولم تتردد عن وصف نائب الرئيس السوري السابق بالخائن؟ وهو موقف متحيز و متحامل لم أجد له سببا حقيقيا لأنه يمس أمور سياسية داخلية في الساحة السورية وبما يخرج بالصحيفة عن خطها الحيادي المفترض؟ ولكن من يفهم تطور الأمور وتحركات الأحداث في الساحة العربية وتطوراتها المستقبلية لن يعجز عن حل لغز التحامل على السيد خدام؟، وبعيدا عن الإيغال في توصيف تلك النقطة أو تحليلها فإن ما لفت إنتباهي حقيقة هي تلك الدرجة العالية من السطحية في مناقشة الأمور السياسية ومنهجية الخلط المريضة بين الأحداث والشخوص، ففي (عبقرية) نادرة من أحد الكتاب المصريين جنح به الفكر وشطح نحو مقارنة غير موضوعية ولا منطقية بين موقف السيد خدام المتحول من قيادته السابقة وبين موقف السيد أحمد الجلبي زعيم المؤتمر الوطني العراقي وأحد أبرز رجال السياسة في عراق اليوم؟ ليؤكد ذلك الكاتب (الفلتة) من أن السيد خدام هو (جلبي) السياسة السورية الجديد؟ أي أن الكاتب هنا يحاول ضرب عصفورين بحجر واحد هدفه الإساءة لمواقف السيد الجلبي والتشنيع على السيد خدام متهما إياه بالخيانة والتبعية وبكونه الدليل القادم وحصان طروادة للغزوة الأميركية الجديدة؟ وفي ذلك تحامل فظيع وغباء منقطع النظير وتحليل سياسي أعور للأمور لا ينظر للقضايا إلا من خلال التمنيات والمشاعر النفسية المريضة وليس بإعتبارها حقائفا معاشة ومتجددة، وأعتقد أن وقوف الصحافة المصرية مع النظام السوري في أزمته ينطلق من حيثيات بنيوية عديدة ليس من بينها إحترام حق الشعب السوري في تقرير مصيره، وليس من بينها معرفة وتقرير حقيقة أن نظام البعث الفاشي التسلطي قد أفلس ووصل لنهايته الطبيعية كأي نظام مفلس ومتسلط ومرتكب للعديد من الجرائم والموبقات التاريخية التي لا يمكن الدفاع عنها أو الإلتفاف عليها ولا صلة إطلاقا بين تحركات السيد أحمد الجلبي السابقة أبان حقبة المعارضة العراقية وبين ما يحصل حاليا من شد وجذب للقوى على الساحة السورية بعد المواقف الأخيرة للسيد عبد الحليم خدام النائب السابق للرئيس السوري وأحد أعمدة وبناة النظام السياسي السوري الحالي، فنظام صدام البائد كان أيضا قد وصل لنهاياته رغم أن حبال جرائمه قد طالت أكثر مما ينبغي حتى شنق نفسه بها ولو لم يكن هناك أحمد الجلبي فإن صدام ساقط لا محالة، فالموضوع أكبر من أي أشخاص عابرين لأنه متعلق أساسا بحتميات تاريخية وسياسية، وعبد الحليم خدام في إنشقاقه وكشفه للمستور لا يمكن أن يدعو لإحتلال بلده بل أنه يدعو بوضوح رغم تأخره الطويل لإعادة الحرية للسوريين وضمن ترتيبات الصراع الداخلية وإرادة الناس بعيدا عن الإحتلال الأجنبي والسيناريو العراقي لن يتكرر في دمشق مطلقا، وقوى المعارضة الداخلية السورية رغم تشتتها قادرة على حسم الموقف داخليا بعيدا عن تكرار التجربة العراقية المرة، فلا أحد يتمنى الإحتلال ولكن لكل مقام مقال والسيد أحمد الجلبي ليس هو من حرك الماكنة العسكرية الأميركية لو لم تكن الظروف والمصالح الإقليمية والدولية هي العنصر الحاسم الأول والأخير، لقد بح صوت الجلبي ورفاقه وهو يطلب الحماية الأممية للشعب العراقي من قوة النظام العسكرية في كردستان في خريف 1996 حينما إجتاحت فرق النظام البائد قوى المعارضة العراقية في أربيل وضحت المعارضة العراقية وقتها بخيرة عناصرها ولم يتحرك العالم وقتها؟ فأين كانت صحافة مصر وقتها؟ وأين كانت (الأهرام والأخبار والجمهورية) وبقية فرق حسب الله الصحفية الزاعقة اليوم بتشويه الحقائق ومواقف الرجال؟.

من حق السيد عبد الحليم خدام كما من حق السيد أحمد الجلبي تحديد مواقفهما وخياراتهما ومن حق الشعب السوري وحده محاسبة السيد خدام على أدائه وسياساته وممارساته طيلة عقود وسنوات السلطة والمسؤولية ولكن ليس من حق أحد تخوين المواقف وتشويه الأحداث، نتمنى أن يحسم الأحرار في سوريه الموقف داخليا ويجنبوا سوريه وشعبها متاعب ومصائب لا نرجوها ولا نتمناها ولن تحدث بعون الله، فالشارع السوري الشجاع الذي أفرز ربيع دمشق قادر تماما على هزيمة الفاشية البعثية والعشائرية و إخراس الأصوات الحاقدة البلهاء.

ولن تكون دمشق سوى قاعدة للحرية والأحرار كما هو شأنها دائما عبر التاريخ البشري الحي.

[email protected]