مبادرة (باخجلي-أوجلان) خطوة تستحق التقدير والاحترام. فبعد أكثر من أربعين عاماً من صراع دامٍ بين الكرد والترك والذي خلف أكثر من أربعين ألف قتيل بين الشعبين، أصبحت هناك فرصة حقيقية غير مكتملة لإحلال السلام في تركيا وطي صفحة الصراع والحرب العبثية التي لم يجنِ منها الكرد ولا الترك من ورائها شيئاً.

وأقول فرصة غير مكتملة لأنَّ العملية كما هو واضح لم تكتمل أركانها بعد. ففي مثل هذه المبادرات يفترض أن تكون هناك خطوات عملية مسبقة ترافق عملية السلام. فلو أخذنا على سبيل المثال الفترات التي ظهرت فيها مبادرات مماثلة لتحقيق السلام بين القوى الكردية والحكومات العراقية نجد أن هناك خطوات عملية تهدف إلى تمهيد الأجواء للتعبير عن النوايا الحقيقية لتحقيق السلام. ففي عهد الرئيس الأسبق المرحوم عبد الرحمن عارف عندما أراد أن يتصالح مع قيادة ثورة أيلول (سبتمبر) الكردية ذهب بنفسه إلى زيارة زعيم الثورة الكردية المرحوم الملا مصطفى البارزاني في معقله بحاج عمران وتصافح معه وتباحثا حول السلام وبدأ على أثر اللقاء تبادل الوفود بين الحركة والحكومة والذي أسفر عن مبادرة صدور بيان 29 حزيران (يونيو) عام 1966.

وحين أراد النظام البعثي الثاني وضع حد للقتال والتصالح مع الثورة الكردية ذهب صدام حسين بنفسه إلى مقر الملا مصطفى البارزاني في شهر آذار (مارس) عام 1970 وتصافح مع زعيم الثورة وصدر البيان التاريخي في 11 آذار (مارس) الذي أقر الحقوق القومية للشعب الكردي ضمن إطار الحكم الذاتي لكردستان.

إقرأ أيضاً: ماذا تريد تركيا من العراق؟

وعاود نظام صدام محاولته للتصالح مرة أخرى خلال الأعوام التالية بإرسال وفود متتالية إلى جبال كردستان (عزت الدوري وعلي حسن المجيد) للتفاوض مع قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني في عام 1983.

والمرة الأخيرة التي جرى فيها التفاوض بين القيادة الكردية والنظام البعثي كانت عام 1991 حين بادرت الحكومة العراقية بفتح أبواب القصر الجمهوري أمام قيادات كردية للتفاوض في بغداد.

وفي مجمل هذه المفاوضات كانت مسألة إنهاء القتال وتسليم الأسلحة والانخراط بالعملية السياسية هي آخر مراحل المفاوضات الجارية، وذلك لبناء الثقة بين الأطراف المعنية والالتزام الكامل بالاتفاقيات الموقعة بينها.

إقرأ أيضاً: أغبياء بلا حدود

ما يجري في تركيا اليوم لا يعدو مجرد فرقعة إعلامية أو محاولة لتهدئة الأوضاع لغرض في نفس يعقوب، وإلا فإنَّ من أهم شروط أي اتفاق ينهي الحرب الطويلة هي إظهار حسن النوايا ومن أهمها أن تبادر القيادة التركية بالاتصال بقيادة الحركة في جبال قنديل. أو على أقل تقدير يمكن للسيد دولت باخجلي وهو راعي المصالحة أن يذهب بنفسه إلى جبال قنديل للتفاوض مع قيادة حزب العمال الكردستاني. أو إرسال أي مسؤول رفيع المستوى من رئاسة الدولة إلى هناك. صحيح أن الزعيم أوجلان هو رئيس الحزب والرمز الأكبر للحزب، لكن يجب أن لا ننسى بأنه مسجون حالياً ومسلوب الإرادة، وهناك شكوك من أن يكون مرغماً على قبول هذه المصالحة؟

حينما دخلت الولايات المتحدة في مفاوضات مع حركة طالبان الأفغانية تم ترتيب اللقاء بينهما في دولة قطر. وحينما دخلت حماس في مفاوضات مع إسرائيل تم اللقاء في قطر ومصر وما زالت الوفود تتوالى على تلك العواصم لإنهاء الحرب في قطاع غزة.

إقرأ أيضاً: خدم السلطان

فالمطلوب إذن إما أن يذهب باخجلي صاحب المبادرة أو أي مسؤول كبير في رئاسة تركيا إلى جبال قنديل للتفاوض المباشر مع زعماء العمال الكردستاني، أو اختيار عاصمة من عواصم العالم لاجتماع قادة الطرفين والاتفاق حول آلية التصالح وتحقيق السلام. فلا معنى أبداً لوضع الشرط الأول والوحيد وهو إرغام حزب العمال على تسليم سلاحه أولاً من دون أية ضمانات أو حتى إظهار النية الصادقة من قبل رئاسة تركيا بإحلال السلام الدائم في هذا البلد.

التفاوض هو (أخذ وعطاء) ولا يمكن لأي طرف أن يأخذ كل شيء ولا يعطي أي شيء. فما تريده تركيا لا يعدو سوى استسلام مشين ومهين، فهل ستقبل قيادة حزب العمال الكردستاني هذا؟ لا أظن...