إشغال الرأي العام الداخلي بخلق عدو خارجي، قد يُسعف السياسي في الأزمات إذا كان يتعامل بهذه الوسيلة كمُـسكن للآلام، بالشكل الذي يمنح حكومته وقتاً إضافياً ريثما تتدبر أمورها للعمل على مواجهة مشاكلها. ولكنه يخدع نفسه كثيراً عندما يعتبر أن مثل هذه الممارسات علاجٌ دائمٌ وجذريٌ لأزماته.
محمود أحمدي نجاد رئيس إيران الجديد سعى إلى (تأزيم) العلاقات مع العالم بمجرد أن تسلم كرسي السلطة الرئاسية في إيران من خلال إصراره على تخصيب اليورانيوم، أملاً في امتلاك الطاقة الذرية من جهة، ومن جهة أخرى تصعيد العداء لإسرائيل.. واستطاع بالفعل من خلال هذا (التكتيك) أن يوسع من قاعدة مؤيديه في الداخل، ويُـثير النزعة القومية لدى الإيرانيين، ويُشغل المواطن البسيط عن مشكلاته الحياتية التي يواجهها بمواجهة العدو الخارجي.. ولا نعلم حتى الآن هل مثل توجه أحمدي نجاد هذا هو تكتيك سياسي لكسب الوقت، أم هو حل دائم ليس لديه غيره.

مشكلة إيران الحقيقية هي مشكلة اقتصادية في الأساس. وهو ما أشار إليه تقرير صادر من وزارة الخارجية النرويجية بعد انتخاب نجاد جاء فيه (الفقر هو الذي أملى على الناخبين خيارهم)!. والسلاح النووي، لا يُطعم الجياع، ولا يَحل مشاكل طوابير العاطلين عن العمل، ولا علاقة له بزيادة معدلات النمو الاقتصادي، بقدر ما يكرس المشاكل الاقتصادية، ويؤدي إلى تفاقمها مع مرور الوقت.
سباق التسلح ndash; مثلاً - الذي كان الشغل الشاغل للإتحاد السوفييتي، ردعاً للعدو الخارجي، كان من أهم الأسباب التي أدت إلى تفككه من (الداخل)، رغم حصانته من (الخارج)، وانتقاله بالتالي من الجغرافيا إلى التاريخ . ولو أن الاتحاد السوفييتي عوضاً عن انشغاله بالسلاح، اهتم بالتنمية الإنسانية، واستثمر فيها، لما تفكك وتحلل وانتهى.
إيران في تقديري تكرر نفس التجربة إن هي اكتفت بالتسلح النووي عن حل مشاكلها الاقتصادية؛ خصوصاً أذا أحيل ملفها إلى مجلس الأمن، واتخذ بشأنها عقوبات اقتصادية دولية كما هو متوقع الأمر الذي سيعقد المشكلة أكثر.

التعثر الاقتصادي هو الثابت الوحيد الذي رافقَ التجربة السياسية (الخمينية) منذ بزوغ فجر الثورة، ومروراً بكل فترات رؤسائها، وحتى اليوم. في البداية كانت الحرب مع العراق قد أتت على الأخضر و اليابس، غير أنها في الوقت ذاته أعطت لدولة الولي الفقيه عذراً ومبرراً لتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي صاحبت الثورة في بواكير ظهورها وتسلمها السلطة في إيران . غير أن هذا المبرر الذي قد يبدو مقبولاً في البداية، لا يمكن أن يكون مقبولاً بشكل دائم، وبالذات بعد مرور ربع قرن من الزمن على الثورة . فالإنسان دائماً وأبداً يهمه في المقام الأول حياته، ويسعى بشكل دؤوب إلى البحث عن حلول لمشاكله المعيشية اليومية في الدرجة الأولى؛ قد يصبر وقد يتحمل، ولكن عندما لا يتحقق (الفردوس) الموعود الذي كان السياسي يَعِده به، ولم تتحقق دولة الأمن والعدل والرفاه الاقتصادي الذي يحلمُ بها، فنهاية الجمهورية الإسلامية ستكون حتماً هي نفس النهاية التي واجهتها إمبراطورية الشاه . هكذا علمنا التاريخ مرات ومرات.

دعونا نقرأ الأرقام الإحصائية لندرك مدى المشكلة الاقتصادية وكذلك الاجتماعية التي تعاني منها الجمهورية الإسلامية. عدد سكان إيران يزيد قليلاً عن 71 مليون نسمة. وهي ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة (أوبك)، وتحتفظ بثاني أضخم احتياطيات الغاز في العالم .. ومع ذلك نجد أن نسبة البطالة تقدر بأنها أكثر من 25 % بين مواطنيها. كما أنها تعاني من اختلالٍ في توزيع الدخل؛ إضافة إلى عدم المساواة في الفرص بين المواطنين؛ ونسبة الفقر ndash; مثلاً - تقدر رسميا بـ 18 % من السكان، ويمكن اعتبار أن 16.5 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر النسبي. ( نقلاً عن تقرير لمنظمة اليونيسيف/الأمم المتحدة). كما يُشير التقرير نفسه إلى أن معدل الإدمان على المخدرات في إيران من أعلى المعدلات في المنطقة.

ويقول أمير طاهري الكاتب الإيراني المعروف في صحيفة الشرق الأوسط أن الرئيس الجديد محمود أحمدي نجاد، وعد بزيادة الإنفاق على الإعانات المقدمة للفقراء؛ كما قال إن لديه خطة لمدة 20 سنة تشتمل على بناء هائل لقدرات إيران العسكرية، خصوصا عبر صناعة الأسلحة الوطنية، وسيمكن الدخل الإضافي (من عائدات بيع البترول) إيران من تسريع برنامجها النووي. وفي أغسطس عام 2005 م خصص المجلس الإسلامي (البرلمان)، ملياري دولار كمساعدة للعراق.
وتعتبر زيادة أعداد السكان في إيران من أعلى المعدلات في العالم؛ الأمر الذي جعل مرشد الثورة الإيراني يصدر فتوى بجواز تنظيم النسل للحد من الانفجار السكاني الذي يُهدد الجمهورية الإسلامية.
والسؤال الذي يفرض نفسه في نهاية المطاف أمام كل هذه المعضلات المتفاقمة، والتي يتزايد حضورها وضغوطاتها يوماً بعد يوم: هل سيكون تخصيب اليورانيوم حلاً لغياب الرغيف ويحد من تزايد أعداد السكان ؟. السلاح النووي لا يطعم الجياع للأسف!