أن تكن مظلوماً لك كل الحق أن تطالب برفع الظلم عنك. ولكن لمجرد كونك مظلوماً هذا لا يعني أن كل ما تقوله وتفعله هو صحيح بالضرورة.
إذا لم يُدرك العراقيون - وغالبيتهم مظلومون - هذا المبدأ أو الفكرة، فأنهم لن يحسنوا إدارة السلطة ولا المعارضة، فقد أصبح من الواضح الآن أن غالبية الأطراف العراقية تريد تحويل مظلوميتها سواء أيام النظام السابق أو بعده، إلى حجة دامغة لإدانة الآخرين !! معتبرين أن الشعور بالظلم وحده سواء كان حقيقياً أو مزعوماً دليلاً على رجاحة العقل وحصافة الموقف !! حتى أصبح الأجحاف ممارسة متبادلة بين جميع الأطراف تقريباً !! ما أدى إلى ضياع المفاهيم السياسية وحلول صخب العواطف المجروحة محلها !! فخلال الحملات الانتخابية شهدنا التجاوزات التي وصلت حد القتل والتزوير !!
وبعد إعلان النتائج وتسوية الاعتراضات، وجدنا أن هناك من يعتقد بأن الاستحقاق الانتخابي أصبح مناقضاً للمصالح الوطنية !! فقط لأن الطرف الآخر كان هو الفائز !! ورغم أن كاتب هذه السطور ليس من مؤيدي ( قائمة الأئتلاف ) إلا أن أصول اللعبة الديمقراطية تفرض على الجميع تقبل النتائج بروح رياضية، خاصة بعد أن أعلنت اللجنة الدولية إلغاء 127 صندوقاً إنتخابياً لعدم مطابقتها المواصفات القانونية، والأهم من ذلك علينا أن ندرك أن الفوز الأنتخابي لا يعني نصراً حاسماً ونهائياً للطرف الفائز، لأنه كثيراً ما يحدث أن تراكم الأزمات أو أحداثاً مفاجئة قد تطيح بالحكومة ما يتيح للمعرضة فرصة المساهمة بتشكيل حكومة أخرى مختلفة.
ومن الناحية المبدأية، إذا كان ما يخلق توازناً حقوقياً وسياسياً بين السلطتين التشريعية ( مجلس النواب ) والتنفيذية ( الحكومة ) هو وجود معارضة شرعية مؤثرة في مواجهتها، فإن مشروع قائمة الأئتلاف بتشكيل حكومة مشاركة تعتمد على الاستحقاق الانتخابي يبدو مبرراً وضرورياً، فهو مبرر لأنه منسجم مع القوانين المعمول بها، وهو ضروري لأن حكومات ( المحاصصة ) أو ما سمي بحكومات التوافق السابقة والتي أدت إلى تراكم الأزمات التي يغرق فيها الوضع العراقي الآن، كان سببه تهميش المعارضة البرلمانية من جهة واستفراد كل طرف بالوزارات التي وقعت ضمن ( حصته ) من جهة أخرى !! ما جعل مفهوم ميكانزم الدولة أي الأنسجام والتواصل بين مؤسسات الدولة ووزاراتها في خبر كان، حيث أدى ذلك إلى تعطيل المشاريع الرئيسية واستفحال ظاهتي الفساد الإداري والمالي.
أن حكومة المشاركة وفقاً للاستحقاق الانتخابي بقدر ما تحمّل الطرف الفائز مسؤولية إدارة الدولة وتبعاتها، بقدر ما تخلق معارضة برلمانية مؤثرة قادرة على المشاركة في صنع القرارات أو تعطيل القرارات التي تجدها خاطئة. ومن جهة أخرى وإزاء الواقع المعروف فإن الحكومة القادمة سوف تجد نفسها، بحكم تراكم الأزمات، في وضع لا تحسد عليه.
أن الفوز في الانتخابات لا يعني إنقلاباً عسكرياً أو إقامة دائمة في السلطة كما يتصور البعض من الفائزين والخاسرين معاً !! لكنه مسؤولية وطنية يجب النظر إليها في إطارها القانوني الصحيح، أي أن الاستحقاقات الكبيرة التي ستواجهة الحكومة القادمة هي مسؤولية الحكومة مثلما هي مسؤولية المعارضة والرأي العام عموماً خاصة في ظل الأوضاع التي يعيشها العراق والمخاطر التي قد تهدد مستقبل النظام الديمقراطي برمته !!
والآن لنتساءل : ما الذي يهدد الحكومة القادمة ؟!
إذا كان الإرهاب هو التهديد الخارجي للحكومة القادمة، حيث سيؤدي اسفحاله إلى تهديد وحدة العراق وليس النظام الديمقراطي فقط، فإن وزارتي الدفاع والداخلية وفي ظل الإمكانيات البسيطة المتاحة لهما، إلى جانب التدخل الأمريكي في شؤونهما، لن يكون بوسعهما القضاء التام على هذا وباء الأرهاب الذي يذهب ضحيته مئات العراقيين الأبرياء شهرياً، ولن تجد أية حكومة أخرى وسيلة عملية للتخلص من هذه المعضلة ما لم تتعاون جميع القوى الوطنية على القضاء على منابع الأرهاب وفضح مواقعه. أما التهديد الداخلي فيتمثل بظاهرتي الفساد الإداري والفساد المالي الذي يستنزف باستمرار موارد الدولة معطلاً مشاريع إعادة البناء وتحريك سوق العمل ما يؤثر باستمرار على الدورة المالية والأقتصادية للبلاد. وكل هذا لا يمكن أن يتوقف إذا لم يتم تفعيل عمل ( هيئة النزاهة ) وأجهزة القضاء ويحرم على الكتل النيابية حماية رموز الفساد التي أصبحت أسماؤها متداولة على كل لسان، لكن وكما يحدث في الظروف المشابهة، فإن بؤر الفساد الإداري وهي تتحول إلى مافيا تهدد الدولة والمجتمع معاً، تستطيع إعادة إنتاج نفسها بأشكال مختلفة حتى لو تلقت ضربة هنا وأخرى هناك، لذلك يتوجب إيجاد لجان مراقبة تنبثق من هيئات المجتمع المدني، يكون من حقها التدقيق في كل مشروع على حدة، من مشاريع الوزارات أو المحافظات وبعد إنجازها مباشرةً. أن لجاناً من هذا النوع هي التي تستطيع أن تحمي سمعة الحكومة ومستقبلها، مثلما تستطيع حماية مصالح المواطنين يوماً بيوم ...
وعود على بدء، فان مشاعر الظلم المتراكمة عند العراقيين هي في الواقع ليست من مسؤولية طرف معين، إنما هي نتاج نسق اجتماعي وحقوقي مضطرب موروث من العهد السابق وتطور في ظل إنهيار الدولة وتدهور القيم الأخلاقية المصاحب له، لكن تدهور القيم الأخلاقية لن يتم أصلاحه عبر النصائح والموعضة الحسنة، إنما بتفعيل ثقافة القانون وسلطة القانون. وكل هذا لا يمكن ايجاده دون معارضة نيابية مؤثرة ومجتمع مدني فعال وبعيد عن تأثيرات الأحزاب ومصالحها الضيقة.