كتبت الآنسة/السيدة فاطمة بوزيان مقالأ في إيلاف بتاريخ 24 يناير 2006 تحت عنوان quot; لماذا نفشل في علاقات الحب؟ quot; وبدءاً علينا أن نُعرّف الحب حتى نعرف لماذا نفشل فيه. فهناك أنواع عديدة من الحب، يعرّفها قاموس أوكسفورد الإنكليزي بالآتي:
1 عاطفة دافئة وارتباط بشخص آخر
2 نوع من الرحمة الأبوية Paternal benevolence
3 رغبة جنسية أو شبق
فالنوع الأول قد يكون عاطفةً بين الأم وطفلها، أو بين أفراد العائلة، أو بين رجلٍ وامرأة، وغالباً ما يقود هذا الأخير إلى النوع الثالث ولكنه قد يستمر كحب عذري لا يتدرج إلى الجنس ( حب إفلاطوني ) كالحب الذي نشأ بين كُثيّر عزة وعزته.. والنوع الثاني من الحب ndash; الرحمة الأبوية- هو الذي يسيطر ويؤثر في الشخصية العربية. فالعربي الذي نشأ في الصحراء الخالية من الخضرة والماء، والتي جعلت حياته اليومية عناءً مستمراً، جردت قلبه من العواطف وعلمّته أن يكون خشناً كرمال الصحراء ذاتها. ولهذا قال لهم أحد الخلفاء، ولعله كان عمر بن الخطاب أو عليّ بن أبي طالب quot; اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم quot;. وكانت مهمة الأب العربي، وما زالت، أن ينشئ ابنه فظاً غليظاً تهابه القبائل الأخرى ويهابه أقرانه. ولهذا السبب حرم الأب ابنه من النوع الثاني من الحب، وهو الحب الأبوي. فالأب العربي يعتقد أن أي عاطفة يبديها نحو ابنه سوف تجعله ليناً هيناً لا يقوى على الشدائد. وعليه فالأب لا يحتضن ابنه ولا يُقبّله. وأي إظهار لمثل هذه العواطف يُعتبر ضعفاً في الرجل العربي. فالحضن والتقبيل من شيم النساء ولا يلجأ إليه إلا المتشبهين من الرجال بالنساء. وأي نوع من الحب، حتى حب الأوطان يمثل ضعفاً لدى بعض الرجال، حتى أن أمية بن الوردي قال:
حُبك الأوطانَ عجزٌ ظاهرٌ **** فاغتربْ تلقى عن الأهل بدل
وكان القادرون من العرب يرسلون أبناءهم إلى الصحراء ليتربوا مع البدو ويعرفوا الخشونة. وعليه ينشأ هذا الابن محروماً من العطف الأبوي الذي يحتاجه في سني نموئه الأولى، فيكبر وقلبه لا يعرف الحب. وهذا الرجل المحروم من الحب يربي أولاده نفس التربية التي تربى عليها. وفاقد الشيء لا يعطيه
وقد عرف عرب الصحراء النوع الثالث من الحب، وهو الشبق الجنسي، وتغنوا به في أشعارهم قبل مجيء الإسلام. فمثلاً شعر امرئ القيس ملئ بالشبق، مثل الذي نجده في معلقته quot; قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل quot; والتي يقول فيها:
ومثلك حُبلى قد طرقت ومرضعٍ **** فألهيتها عن ذي تمائم محول
أو قوله:
ويوم دخلت الخدرَ خدرَ عُنيزةٍ **** فقالت لك الويلات إنك مرجلي
وأغلب الشعر الجاهلي من هذا النوع. فبعد أن يتغزل الشاعر بحصانه ويسهب في وصفه، يصف عدم تمكنه من الوصول إلى المرأة التي يود أن يُشبع شبقه الجنسي منها، أو يصف وداعها عندما رحلت عنه. وقال صاحب كتاب quot; طبقات فحول الشعراء quot; ( في الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه ولا حجة في عربية ولا أدب يُستفاد ولا معنى يُستخرج ولا مثل يُضرب ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسب مستظرف ). فالحب الذي هو الدافع لقول الشعر في جميع اللغات الحية، لا يأتي ذكره في تعريف الجيد في الشعر العربي. ومع ذلك فقد ظهر عدد بسيط من الشعراء العرب الذين تحدثوا عن حبٍ نستطيع أن نقول عنه أنه كان حباً حقيقياً عذرياً، مثل عنترة بن شداد ومجنون ليلي وكُثيّر عزة وجميل بثينة
وبظهور الإسلام أصبحت المرأة حرثاً يأتيه الرجل أنّى شاء، وأباح لهم تعدد الزوجات وامتلاك الجواري فأصبح من الصعب على الرجل العربي أن يُحب امرأةً واحدة وهو يملك أربعة زوجات وعدد لا يُستهان به من الجواري، رغم أن القرآن يقول quot;ومن آياته أن جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةًquot;. ولكن المشكلة أنه جعل الزوجات أكثر مما يستطيع الرجل العربي، فاقد الحب، أن يحب. وعندما جاءت الآية quot; وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة quot; قال الفقهاء إن العدل المقصود هنا ليس في ميول القلب وإنما في السكن والملبس وما إلى ذلك. وبالطبع لا يستطيع الرجل أن يعدل بينهن في الحب لأنه دائماً يميل إلى أصغرهن وأحدثهن في ملكه لإشباع شبقه الجنسي، إلى أن تأتي أخرى أصغر منها وأجمل. والذي يحب امرأة لا يتزوج عليها مثني وثلاث ورباع. والذي يفعل ذلك ويلد عشرات الأولاد من عدة نساء، لا يستطيع أن يمنح هؤلاء الأطفال الذين لا يراهم إلا لماماً، أي نوع من الحب.
ثم حجب الإسلام المرأة فلم يعد في مقدور الرجل أن يراها قبل أن يتزوجها، ومن النادر أن يحب الرجل امرأة لم يخترها هو لتكون شريكة حياته، فالحب عاطفة تنمو بين شخصين متقاربين في الميول والطباع. فيصعب أن يحب الرجل امرأةً اختارها أبوه أو أمه له. ونفس الشيء ينطبق على البنت التي يحق لولي أمرها أن يزوجها دون استشارتها. فهل يمكن أن ينمو الحب في مثل هذه الزيجات.
وفي العصر الأموي رغم أن العرب خطوا خطوات بسيطة إلى الأمام في طريق الحضارة وارتقاء الحياة الاجتماعية، وازدهر الشعر وكثرت الجواري من البلاد المغلوبة فإن قصص الحب ظلت معدومة إلا القليل مثل قصص كُثير عزة والخليفة يزيد بن عبد الملك وآخرين يُعدون على أصابع اليدين. فقد حج يزيد في أيام خلافة أخيه سليمان ورأي جاريةً اسمها حباب فاشتراها ولكن عتب عليه أخوه سليمان فردها. وبعد أن آلت الخلافة إلى يزيد سألته زوجته سعدة إن كان قد بقي في الدنيا شيء يشتهيه، فقال لها: حباب. فاشترتها له ووقع في حبها. ويقال إنهما خرجا إلى ناحية الأردن يتنزهان فرماها بحبة عنب دخلت حلقها فشرقت وماتت. فلم يدفنها لمدة ثلاثة أيام وظل يشمها ويقبلها إلى أن أنتنت. فوجد عليها وجداً شديداً. ولما خرج في جنازتها منعه أخوه مسلمة بن عبد الملك من الصلاة عليها لئلا يرى الناس منه ما يعيبه. فلما دُفنت بقي بعدها خمسة عشر يوماً ومات ودفن إلى جوارها ( الكامل في التاريخ للمبرد، ج4، ص 368). ويندر أن يُظهر الرجل العربي مثل هذا الحب والهيام، خاصةً مع امرأة غير زوجته. ولأن إظهار الحب مما يعيب الرجل العربي لأنه علامة ضعف في الرجل، فقد منع مسلمة بن عبد الملك أخاه يزيد من الصلاة على حباب حتى لا يبكي ويُظهر ما يعيبه.
وجاء العصر العباسي وأصبح الغناء والطرب وامتلاك الجواري أمراً شائعاً وكثر الشعراء الذين تغزلوا بالنساء وبالغلمان لكنه كان غزلاً جنسياً لا يمت للحب الحقيقي بصلة. وهذا لا يمنع أن يكون هناك قلة من الشعراء تحدثوا عن الحب الحقيقي، منهم القاسم بن عيسى ( أبو دلف ) الذي قال لمحبوبته جَنان:
أُحبك يا جنان فأنتِ مني **** مكان الروحِ من جسد الجبانِ
ولو أني أقول: مكان روحي **** لخفت عليك بادرة الزمانِ
لإقدامي إذا ما الخيل جالت **** وهاب كُماتها حر الطعانِ
وكان لديك الجن جارية اسمها دينا، كان يحبها حباً جماً ويغار عليها غيرةً شديدة، فاتهمها بغلام له فقتلها ثم أنشد:
يا طلعةً طلع الحِمام عليها **** فجنى لها ثمر الردى بيديها
حكّمت سيفي في مجال خناقها **** ومدامعي تجري على خديها
فوحق نعليها وما وطئ الثرى **** شيء أعز عليّ من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن **** أبكي إذا سقط الذباب عليها
ولكن عامة الرجال العرب فقد ظلوا بعيدين عن الحب بسبب قسوة الصحراء وقسوة تربيتهم التي حاولت أن تجعل من الأطفال رجالاً فمنعتهم حنان الأبوة. وحتى شعراء البادية لم يكونوا كغيرهم من شعراء الحضر مرهفي الحس والعاطفة، فكانوا خشنين كصحرائهم، وخير مثال لهم ذلك الشاعر البدوي عليّ بن الجهم الذي مدح الخليفة العباسي فقال له:
أنت كالكلب في وفائك للحب **** وأنت كالتيس في قراع الخطوب
وبما أن الحب يتطلب حواساً مرهفة ونفساً لا تتوانى عن التضحية من أجل الحبيب، فليس من المعقول أن ينمو أي نوع من الحب في قلبٍ كهذا. فلا بد من صقل نفسية الرجل العربي حتى يعرف الحب، وهذا نادراً ما يحدث. حتى العرب الذين استقروا بالأندلس حيث جمال الطبيعة الذي يبعث النشوة في القلب، لم يشتهروا بالحب كما اشتهروا بالموشحات التي هي نوع من الغزل، رغم أن نساءهم كن حضريات بالمقارنة مع نساء الجزيرة العربية. وحتى الشاعرات منهن لم يكتبن شعراً في الحب بقدر ما كتبن في الغزل، مثل ولادة بنت المستكفي التي قالت:
أمكّن عاشقي من صحن خدي **** وأعطي قبلتي من يشتهيها
ويقال إن أبا نواس قد قال عن نفسه: quot; ما قلتُ الشعر حتى رويتُ لستين امرأة quot; ( أمراء الشعر في العصر العباسي، أنيس المقدسي، دار العلم للملايين، ص 111). فكل هؤلاء الشاعرات اللاتي روى عنهن أبو نواس لم ينظمن شعراً في الحب، أو على الأقل لم يصل إلينا شعرهن في الحب. وحتى أشعر نساء العرب ndash; الخنساء- لم يصلنا منها أي شعر في الحب.
وظلت حياة الرجل العربي يسيطر عليها المفهوم الديني للحياة الدنيا على أنها دارٌ فانية وعلى المسلم أن يعمل لأخرته فقط، فلا ينظر إلى النساء ولا يضحك ولا يستمع إلى الغناء والموسيقى. وكلما كان الرجل عابساً وصامتاً لا يتكلم كلما زاد قدره عند الناس لأنه يقضي وقته في التأمل في الآخرة. وحتى بالنسبة للأطفال أصبح quot; الضحك بلا عجب قلة أدب. وأصبح الطفل ذو السبع سنوات ولياً على أمه وأخواته لا يخرجن بدونه في غياب الأب. وأصبح شرف البنت عود الثقاب الذي يُشعل الفتنة والقتل من أجل الشرف الرفيع. فمن الذي يتجرأ ويحب بنت الجيران في ظروف مثل هذه؟
وحتى في العصر الحديث ظلت المرأة حرثاً لا يقربه إلا صاحب الحقل، وظلت مصنعاً للأطفال ووعاءً يُفرغ فيه الرجل ماءه وهمومه، حتى أن شاعراً متمكناً مثل نزار قباني كان يعتبر المرأة حرثاً ليس أكثر فيقول لها:
ما ذا يهمك من أنا
ما دمت أحرث كالحصان على السرير الواسعِ
ما دمت أقذف في خليجك
رغوتي وزوابعي.
ويقول لهل كذلكquot;
هذا الذي يسعى إليك الآن لا أرضاه عبدي
يكفيه ذلاً أنه قد جاء ماء البئر بعدي
فالمرأة ما هي إلا بئر يرده الرجل وقت العطش الجنسي. وعلاقة الرجل العربي بالمرأة، سواء أكان أخوها أو أبوها أو زوجها، هي علاقة حارس الشرف بالسجين الذي يخطط للهروب ليلطخ هذا الشرف الرفيع. وكل شيء في الثقافة العربية الإسلامية يدور حول المرأة التي تختصرها مخيلتهم في الفرج والأفخاذ حتى أنهم سموا فروع القبائل المختلفة quot; أفخاذ quot; القبائل، بينما تتحدث الثقافات الأخرى عن شجرة القبيلة أو العائلة وفروعها وغصونها وأوراقها. وفي هكذا مجتمعات لا يمكن أن ينمو الحب الذي يعتمد في تغذيته على الرقة والعطف والاحترام المتبادل والذوبان التام في شخص المحبوب.













التعليقات