الحلقة الرابعة
quot;طفشان تانى مرةquot;

خرج سعيد من مبنى القنصلية الأمريكية وهو يتحسر ويخاطب نفسه: quot; كده يأمريكا ترفضى المواطن الديموقراطى الحقيقى، يعنى كان ضرورى أكذب زى باقى الناس وأقول إنى رايح أمريكا سياحة، حتى الصدقما نفعش فى أمريكا، وعلى العموم كتر خيره الباشا القنصل لم يختم الباسبور بختم الرفض، مين عارف يمكن أعرف يوم أسافر أمريكاquot;.
وقرر ألا يرجع إلى رشيد quot;بخفى حنينquot;، وبرغم أنه لا يعرف من هو quot;حنينquot; إلا أنه شعر بخيبة أمل كبير لا يعبر عنها إلا quot;حنين وخفهquot;.
وأخذ يفكر كثيرا فى أمه وأخواته كيف هان عليه أن يفكر فى تركهم والسفر إلى آخر بلاد الدنيا ولاية (ماسا شوشة) فى أمريكا، ولكن إهانات مركز بوليس رشيد تطفش العفريت ولو كان الأمر بيده لهاجر إلى المريخ، وعرف جيدا حين سمع طرقعات ضربات المخبرين على قفاه أن quot;إللى مالوش ظهر ينضرب على بطنهquot;، وثبت له أنه مواطن غلبان ليس له quot;ظهرquot; ولا quot;بطنquot; لذلك جاء كل الضرب على قفاه، وجدير به من الآن أن يطلق على نفسه :quot;سعيد العريان.. المواطن الغلبانquot;.

...
ولكنه لن يستسلم، لابد له أن يكون له ظهر بأى شكل من الأشكال، ولن يضرب على قفاه بعد اليوم، ولا حتى على بطنه.
وبينما هو سائرا بلا هدف فى شوارع الإسكندرية قرر أن يتمشى على كورنيش الإسكندرية الجميلة والتى كانت يوما ما عروس البحر المتوسط، وأخذ يتأمل المبانى الجميلة القديمة ذات الذوق الجميل والتى شكلها كل معماريي البحر المتوسط من إيطاليين وفرنسيين ويونانيين ومصريين وأخذ يتأمل فى إتقان فن المعمار والتفاصيل المذهلة والتماثيل التى تتزين بها تلك المبانى، وبينما هو مستغرقا فى مشاهدة جمال العمارة، لفتت نظره لا فتة كبيرة سوداء ومكتوبة بخط أبيض جميل quot;مكتب سفريات أبو العباسquot;.
وبدون تفكير عبر شارع الكورنيش متوجها إلى تلك العمارة، وأخذ يعد الأدوار من الخارج، فكان مكتب السفريات فى الدور الخامس، ودخل العمارة وتوجه إلى المصعد فوجد عليه لافتة على ورقة quot;لحمةquot; مكتوب عليها بخط واحد متخرج من مدارس محو الأمية quot;المصعد عطلانquot;، فأخذ فى صعود السلالم الرخامية والتى يبدو أنه لملم يتم تنظيفها منذ خروج الإنجليز من مصر، حتى أنه لم يكن متأكدا أن تلك السلالم رخامية حقا، حتى أنه تذكر نكتة ذلك الرجل الذى لم يستحم منذ أعوام، ودخل الحمام التركى وخلع ملابسه وأخذ المدلكون داخل الحمام يدعكون جسده ويزيلون طبقات متراكمة من الوساخات حتى وجدوا فانلة داخلية !!
وصل سعيد إلى مكتب السفريات، ووجد فتاة جالسة على مكتب فى المدخل:
- أى خدمة.
- أنا عاوز عقد عمل برة.
- كده خبط لزق.
- أيوه أنا عاوز أسافر برة بأى طريقة.
- طيب إملأ الإستمارة دى.
كتب سعيدبياناته بسرعة على الإستمارة وأعطاها للفتاة.
- إنت تحب كشف مستعجل ولا كشف عادة.
- مستعجل إيه.. وعادةإيه، هى دى عيادة دكتور!
- لأ.. بس فيه مصاريف للمقابلة مع quot;محسن بيهquot; عشرين جنيه للمقابلة العادية ودى حتكون بعد يومين، وأريعبن جنيه مقابلة مستعجلة ودى ممكن تكون دلوقت.
- بعد يومين إيه...ده مافيش غيرى فى المكتب.
- والله هو ده نظامنا، يعنى ممكن تدفع العشرين جنيه وترجع بعد يومين.
وحسبها سعيد فى دماغه بسرعة، وسلم أمره لله وأعطاها الأريعين جنيه، ولم يتبق معه سوى عشرين جنيه مصاريف عودته إلى رشيد.
- طيب إتفضل إستريح لما أبلغ محسن بيه
ودخلت الفتاة إلى الداخل وغابت عدة دقائق ثم عادت:
- أيوه إتفضل.
ودخل إلى مكتب متواضع وغرفة لا تنم عن أى ذوق، وشخص يجلس خلف المكتب لا يمت quot;للبهاويةquot;بصلة يرتدى بدلة أكل عليها الدهر وشرب،وكرافتة أقرب إلى حبل الغسيل منها إلى الكرافتة.
- إتفضل يإستاذ سعيد، إنت معاك شهادات إيه
- أنا معايا شهادة ثانوية عامة
- آه يعنى ما كمتلش تعليمك، طيب وبتشتغل إيه دلوقت.
- أنا كاتب حسابات.
- عندك صنعة ؟
- ما قلت لحضرتك إنى كاتب حسابات، وزمان كنت باساعد أبويا فى الغيط.
- يعنى فلاح يعنى !!
- أيوه فلاح، وماله الفلاح ؟
- الفلاح على عينى وراسى، أنا شخصيا أبويا كان فلاح من دمنهور، لكن للأسف دلوقت البلاد العربية بتطلب سباكين ونجارين ومبلطين وميكانيكية، دى هى المهن المطلوبة الأيام دى، إنما كتبة الحسابات على قفا مين يشيل.
- يعنى قصدك إيه ؟
- أنا رأئى تروح تتعلم صنعة وبعدين تيجى وإحنا إن شاء الله نقدر نجيب لك عقد عمل.
- طيب والأربعين جنيه إللى دفعتهم برة علشان الميعاد المستعجل.
- الأربعين جنيه دول إنت مضيت عليهم على أنهم أتعاب المكتب و غير قابلين للرد، إنته فاكر إننا فاتحين المكتب ده مكتب شئون إجتماعية.
- يعنى كنت بتاخد منى أربعين جنيه علشان تقول لى روح إتعلم صنعة.
- والله ده إللى عندى، ومش حتقدر نصيحتى إلا بعد لما تتعلم الصنعة والفلوس تجرى فى إيدك زى الرز، وساعتها حتدعيلى وتقول ربنا يعمر بيتك يا محسن بيه.
- بيه إيه وبتاع إيه، ده أنا حأدعى عليك من دلوقت وأقول ربنا يخرب بيتك يا محسن بيه، علشان تاخد فلوس الغلابة، ده مش مكتب سفريات، ده مكتب نصب.
- إحترم نفسك ما فيش داعى تطول لسانك.
- ده أنا حأطول إيدى كمان
وهم سعيد بالإمساك بكرافتة محسن بيه، فصرخ محسن بيه:
- إطلبى البوليس بسرعة يا نادية
(سمع سعيد كلمة البوليس وتحسس قفاه، ونهض وهو ينتفض من الغيظ ويقول حسبنا الله نعم الوكيل، ولاحظ لأول مرة لا فتة مكتوبة بخط ذهبى جميل فوق مكتب محسن بيه : quot;هذا من فضل ربىquot;) !!

........

خرج من المكتب مهموما ونزل على السلالم (التى كانت) رخامية، وفى مدخل العمارة وجد شابا تبدو عليه الوسامة، وسأله:
- إنت باين عليك كده كنت عند محسن بيه
- أيوه ياسيدى كنت عند محسن زفت وإنت إيه إللى عرفك؟
- سيماهم على وجوهم!!
- هو إنت من ضحايا محسن بيه برضه.
- أيوه، إنت تعرف ناس كثير حاولوا يقفلوا له مكتب السفريات ده لكنه باين عليه مسنود.
- لكن إنت جاى تانى برجليك ليه.
- لأ أنا عندى ميعاد مع الدكتور فى الدور الرابع، إنت باين عليك جدع إبن حلال، لو عاوز تسافر بره صحيح، عليك بالمعلم جابر السوهاجى.
- ومين جابر السوهاجى ؟
- ده تلاقيه قاعد دايما على قهوة الحرية فى حى الجمرك، عارفها؟
- أسأل عليها.
- تروح دلوقت حتلاقيه هناك وتقوله إنت من طرفى، محسوبك مرسى عبد الصبور.
- أهلا وسهلا.
- المعلم جابر سفرنى اليونان وخلال سنتين حالى إتغير، عملت قرشين ورجعت إشتريت الشقة والعربية وإتجوزت وكمان فتحت محل خردوات صغير تحت البيت.
- كل ده من شغل سنتين بس؟!
- ما هو إنت وشطارتك بقى، والرزق يحب الخفية.
لم يفهم ما يعنى quot;بالرزق يحب الخفيةquot;، وبالرغم من أن الفار لعب فى عبه، إلا أنه لم يلعب بقدر كاف يمنعه من التوجه مباشرة إلى المعلم جابر فى قهوة الحرية، وتباشر سعيد خيرا بأن ابو المعاطى quot;الديموقراطىquot; يقابل المعلم جابر فى قهوة quot;الحريةquot;!!

...
- مساء الخير يامعلم جابر.
- أهلا.. مين إنت يابنى.
- أنا سعيد أبو المعاطى من طرف مرسى عبد الصبور
- آه مرسى.. ده شاب إبن حلال، بس باين الفلوس الكثير كبرته علينا.
- لأ يامعلم.. ده بيشكر فيك قوى.
- أيوه ياسعيد يابنى إيه طلباتك؟
- أنا عاوز أسافر برة يامعلم.
- عاوز تسافر فين؟
- أى مكان أنا عاوز أطفش من البلد دى.
- أوعى تكون هربان من المباحث، أنا حد الله ما بينى ومابين المجرمين.
- لأ يامعلم أنا كاتب حسابات فى قصر الثقافة برشيد.
- كاتب حسابات، وعاوز تشتغل إيه فى بلاد برة يابنى؟
- كاتب حسابات برضه.
- إنت الظاهر ما عندكش فكرة عن تخصصى، أنا يابنى بأبعث الناس أوروبا بس، اليونان، قبرص، إيطاليا، فرنسا، والبلاد دى مش عاوزة كتبة حسابات.
- أشتغل أى حاجة يامعلم، إن شاء الله أنظف حمامات.
- بس الأيام الحالة نايمة قوى، إنت عارف مشكلة البطالة فى أوروبا ومشكلة الكساد الإقتصادى وغزو الصين بمنتجاتها الرخيصة سببت مشاكل كبيرة قوى ومصانع كثيرة بتقفل فى أوروبا.
- ياصلاة النبى يامعلم جابر ده إنت ولا أجدع خبير إقتصادى على النعمة.
- إمال إيه يابنى.. ده شغلنا وضرورى نعرف إيه بيحصل فى العالم.

...
تحضر سيدة إلى المعلم وتسلم عليه وتقبل إيده وتقول :
- أنا مراة الأسطى خليل العزبى وجاية أتشكر لك على كل إللى عملته معانا.
- ياستى ما تقوليش كده ده خليل زى إبنى وكلكم زى ولادى بالضبط
- ده إحنا لولاك كان بيتنا إتخرب، خليل دلوقت بيبعث لنا تلتلاف جنيه فى الشهر بعد مصاريفه فى إيطاليا وده غير إللى بيحوشه فى البنك، والحمد لله الحالة بقت معدن، وإحنا ناس أصلاء وبنعرف نرد الجميل، علشان كده أنا جايبة لك الحلاوة دى، حاجة بسيطة كده، ألف جنيه.
وأعطته مظرف بنى مغلق، وتمنع المعلم جابر عن أن يأخذ منها المبلغ:
- خللى فلوسك فى جيبك ياست، ولادك أولى بيهم.
- الفلوس كثير وخير ربنا كثير، وكله من فضلة خيرك يامعلم، والنبى ما تكسفنى يامعلم، ده النبى قبل الهدية.
- طيب ياستى علشان خاطر خليل بس، إبقى سلمى لى عليه كثير.
ومضت السيدة وهى تلهج بالدعاء للمعلم جابر، وسال لعاب سعيد أبو المعاطى تماما، وأخذ يدعو معها للمعلم جابر.

....
- ست غلبانة ربنا ساعدها، إحنا ما بنعلملش حاجة ربك هو إللى بيمشى كل الأمور، أيوه يابنى قلت لى إسمك إيه.
- محسوبك سعيد.
- أيوه ياسعيد يابنى، أنت تمر علىّ بعد أسبوعين حأكون جهزت لك التأشيرة وعقد العمل وتذكرة الطيارة
ولم يصدق سعيد وأمسك بيد المعلم جابر ليقبلها، ولكن المعلم سحب يده بسرعة.
- أنت يابنى ياسعيد أد المصاريف دى كلها
- ربنا يسهل يامعلم، ده إحنا غلابة.
- أيوة بس كلها سنتين وما نعرفش نكلمك ياسى سعيد.
- لا سمح الله يامعلم، ده جميلك ده حأشيله على راسى من فوق.
- الحكاية كلها تكلف ستلاف وخمسميت جنيه، قلت إيه.
وفوجئ سعيد بالمبلغ وكاد أن يقع من طوله ولكنه تماسك.
- أيوه يامعلم بس ده مبلغ كبيرقوى.
- أيوه مبلغ كبير هنا فى مصر بس كلها شهرين وتجيب قده مرتين فى بلاد أوروبا، على العموم إنت براحتك فكر وإرجع لى.
- طيب ممكن يعنى نخليهم أربعتلاف جنيه.
- إيه يابنى إنت حتفاصل معايا، هوإحنا بنبيع ترمس ولا إيه
- ايوه يامعلم أنت أبو الكرم، وليك علىّ لما أرجع من السفر أكمل باقى المبلغ
- يابنى دى مصاريف الطيارة والتأشيرة وعقد العمل وكل الناس هنا وفى أوروبا بتاخد فلوس علشان تمشى العملية، بص يابنى.. إنت غلبان وأنا خأصم مكسبى من العملية، وآخر كلام خمستلاف جنيه.
- تشكر يامعلم، وآدى جواز السفر بتاعى أهو.
- تكون عندى هنا بالمبلغ بعد أسبوعين
- أن شاء الله، وربنا يعمر بيتك.
....
ومضى سعيد فى الشارع وهو يكاد يرقص من الفرح، بالرغم من أنه لا يمك من حطام الدنيا سوى عشرين جنيه!!
.........

[email protected]