-1-
يبدو أن السياسيين في الغرب كالسياسيين في الشرق لا يقرأون التاريخ، ولا يقرأون كذلك علم اجتماع الأمم قبل أن يُقدموا على التعامل مع هذه الأمم عسكرياً واقتصادياً وسياسياً. ويقال أن معاوية بن ابي سفيان كان يضع كتاب تاريخ الأمم تحت وساته ويقرأ في صفحاته كل ليلة، ورغم هذا كان ينفي لنفسه كل ما فيه من وقائع وحِكم.
ولو قرأ الساسة الغربيون ما كتبه المستشرقون الغربيون عن الشرق الأوسط وشعوبه وتاريخه بدراية وتأنٍ ووعي تام، لما وقعوا في كثير من الأخطاء السياسية والعسكرية القاتلة التي كبدتهم خسائر وكوارث كثيرة.
ولو قرأ الساسة الغربيون ما كتبه علماء الاجتماع العرب على وجه الخصوص كعلي الوردي العراقي، وسعد الدين ابراهيم المصري، وأحمد البغدادي الكويتي، وبرهان غليون السوري وغيرهم، عن بني جلدتهم وتاريخ أمتهم الاجتماعي، لغيروا الكثير من خططهم وتوجهاتهم وأفكارهم نحو العرب والشرق الأوسط عموماً. ولكن الخطأ الكبير الذي يقع فيه معظم الساسة والقادة في الغرب، أنهم يقررون خططهم وسياساتهم نحو العرب والشرق الأوسط على أساس وبموجب التقارير التي تصلهم من وزارة الخارجية التي تتلقى بدورها تقارير السفراء والقناصل القابعين في مكاتبهم الفخمة والمكيفة، وهم يرون الواقع العربي من خلف ستائر (الماركيزت) ومن خلال حفلات الكوكتيل التي يغشونها، ويقرأون الواقع العربي من خلال كتبة الأعمدة اليومية في الصحافة العربية، ومن خلال تعليقات المعلقين الدينيين والقوميين، في الفضائيات العربية.

-2-
ولو سألنا أنفسنا : كم قنصلاً أو سفيراً غربياً في الشرق الأوسط قرأ علي الوردي، أو هشام شرابي، أو سعد الدين ابراهيم، أو أحمد البغدادي، أو برهان غليون، لما وجدنا نسبة من هؤلاء تتعدى الثلاثة أو الأربعة بالمائة. ولو ذهبنا أبعد من ذلك، وسألنا أنفسنا: كم عدد القناصل والسفراء الأجانب، الذين قرأوا عبد الرحمن بن خلدون ومقدمته المشهورة في علم الاجتماع، وكيف حلل الواقع والمجتمع العربي قبل ستة قرون، وكيف ينطبق هذا التحليل الذي مضى عليه حتى الآن أكثر من ستمائة سنة على الواقع العربي الحالي، وكأن العرب لم يتغيروا ولم يتبدلوا ولم يتطورا منذ ستة قرون إلى الآن، وكأن عبد الرحمن بن خلدون قد أفاق من قبره ونظر إلى العالم العربي الآن بأسى وألم وكتب ما كتبه قبل ستمائة عام ويزيد، فستكون الاجابة أقل من تلك النسبة بكثير.

-3-
فلو قرأ جورج بوش مثلاً ما كتبه على الوردي عالم الاجتماع العراقي (ابن خلدون العراق) عن تركيب المجتمع العراقي، وعن طبيعة الشخصية العراقية، وعن حال الشعب العراقي الثقافي والديني والاجتماعي، والتركيب الديني والقبلي لهذا الشعب، لتردد كثيراً في القيام بحملته العسكرية، التي أدت إلى خلع صدام حسين فجر التاسع من نيسان 2003. ولربما لجأ بوش والإدارة الأمريكية إلى طرق أخرى غير الاسلوب العسكري في تغيير النظام السياسي العراقي. ولربما لجأ أولاً، إلى تغيير البنية الثقافية، واصلاح البنية الدينية، لتكون قابلة ومتقبِّلة للاصلاح السياسي، الذي هدفت اليه الحملة الأمريكية ndash; البريطانية العسكرية على العراق 2003. فقد ثبُت للقاصي والداني، للأعمى والبصير، وللشيخ والصغير، أن العالم العربي قبل بذار الديمقراطية، كان بحاجة إلى حراثة عميقة ومحاريث ضخمة ذات أذرع طويلة، لكي تقلب وتحرث التربة الثقافية والاجتماعية والتراكمات الفقهية الدينية التي شكلتها النظم السياسية والمصالح السياسية على مر العصور العربية ndash; الإسلامية وما زالت تشكلها حتى الآن.

لقد اعتنى الساسة الغربيون دائماً بالبذور قبل عنايتهم بالأرض وبكيفية تحضيرها لزراعة هذه البذور.

ظنوا أن بذورهم تصلح لكل زمان ومكان، ولكل طقس، ولكل تربة، صالحة كانت أم مالحة، غنية كانت أم فقيرة.

وهذا هو الخطأ الكبير الذي ارتكبه هؤلاء الساسة، ومن ورائهم بعض الليبراليين العرب الداعين إلى التغيير والتطوير.

-4-
يقول ابن خلدون موجهاً رسالته إلى من لا يعرف العرب ومنهم الرئيس بوش:
إن العرب نتيجة quot;لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبُعد الهمّة والمنافسة في الرياسة. فقلما تجتمع أهواؤهم.quot; (المقدمة، الدار التونسية، ج1، ص 199).
ويقول كذلك:
quot;إن العرب أبعد الأمم عن سياسة المُلك. والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالاً في القفر، لاعتيادهم الشظف (الضيق والشدة) وخشونة العيش، فاستغنوا عن غيرهم، فصعُب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش.quot; (ص 200).
وعن طريقة كيفية حكم الشعب العربي، لا يحتاج الحكام العرب في الماضي والحاضر إلى قراءة كتاب quot;الأميرquot; لمكيافيليquot; لكي يتعلموا فن السياسة وكيفية أن يسوس هؤلاء الحكام قطعان الأنعام من شعوبهم. فيكفيهم قراءة ما قاله ابن خلدون في مقدمته:
quot;سياسة المُلك والسلطان تقتضي أن يكون السائس وازعاً بالقهر، وإلا لم تستقم سياسته.quot; (ص200).
وهذه هي العبارة المخفيّة التي يُعلّقها الحاكم العربي في صدره الآن، كالتعويذة و(الحجاب)، ويضعها تحت وسادته، ويُعلّقها في صدر غرفة نومه مكتوبة بماء الذهب، ومؤطرة باطار سميك وفخم مُذهَّب، مقابل لوحة أخرى كاذبة وخادعة، يُعلقها الحاكم العربي في صدر مجلسه، أمام الناس، تقول : quot;العدلُ أساس المُلكquot; !
إن العرب quot;انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين، فنسوا السياسة، ورجعوا إلى فقرهم، وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم عن الانقياد واعطاء النصفة (العدل)، فتوحشوا كما كانوا، ولم يبق لهم من اسم المُلك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم.quot; (ص201).
نعم، يا سيدي عبد الرحمن بن خلدون، لو نهضت من قبرك الآن، لأصبتَ بالفجع من منظر العرب الآن أمام مرآة العالم، ولرأيت العرب قد توحشوا الآن كما كانوا. وكما قلت منذ ستة قرون.
إن العرب quot;لما ذهب أمر الخلافة وانمحى رسمها، انقطع الأمر جملة من أيديهم. وأقاموا في قفارهم لا يعرفون المُلك ولا سياسته. وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدول المستضعفة، فلا يكون مآله وغايته إلا تخريب ما يستولون عليه من العمران.quot; (ص202).
ولنا من استيلاء سوريا على لبنان، واستيلاء العراق على الكويت، خير دليل حديث على ما يقوله سيدنا ابن خلدون منذ قرون طويلة.
وانظر كيف يصوّر ابن خلدون حال بغداد، وكأنه يحمل الآن كاميرا تلفزيونية، وينقل لنا صوراً حية مباشرة من العراق:
quot;بويع ابراهيم بن المهدي فوقع الهرجُ ببغداد، وانطلقت أيدي الزعرة (الزعران) بها من الشطّار (اللصوص والمجرمين) ، والحربية (ناهبو المال) على أهل العافية والصون، وقطعوا السبيل، وامتلأت أيديهم على نهاب الناس (ما نهبوه من الناس) ، وباعوها علانية في الأسواق، واستعدى (استنصر) أهلها الحكام فلم يعدوهم (ينصروهم).quot;

أليس هذا ما جرى في العراق صباح التاسع من نيسان/ابريل 2003 من نهب وسلب، وما زال يجري حتى الآن، حيث انتشر الزعران واللصوص وقطّاع الطرق في بغداد وغير بغداد، واستنجد الشعب العراقي بجيرانه من العرب فلم ينجدوهم بل فتح بعضهم حدوده لارسال المزيد من الزعران واللصوص والمجرمين تحت راية المقاومة. فكانت المقاومة بالنسبة لهم تعني هدم المساجد، وتدمير الحُسينيات، وخطف النساء، وقتل المواطنين الأبرياء، وتفخيخ السيارات، وقتل رجال الجيش والشرطة. حيث المقاومة تعني لهم بهذا هدم الوطن، وقتل مواطنيه.

-5-
لقد قسا ابن خلدون على العرب - في رأي الكثيرين من القوميين ndash; قسوة كبيرة حين رمى العرب بطبيعة التوحش، وأنهم لا يتغلبون إلا على البسائط كقوله : quot; إنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعيث (الافساد). ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر.quot; (ص 197).
كذلك سخط العرب المحدثون على ابن خلدون إلى الحد الذي دفع بعض السلطات التربوية والتعليمية في العالم العربي إلى حذف كل ما قاله وكتبه ابن خلدون من مناهجها، وعدم تدريس آثاره في مدارسها ومعاهدها. وتطبيق الحظر عليه كما هو الحال بالنسبة لماركس ودارون وفرويد من المحظورين. وزاد من نقمة هؤلاء العرب عندما اقرَّ واعترف ابن خلدون أن العرب إذا تغلبوا على الأوطان أسرع اليها الخراب، وقوله الصريح في هذا : quot;والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم. فصار لهم خلقاً وجبلة. وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة. وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له. فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب (الانتقال)، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له. فطبيعتهم انتهاب ما في ايدي الناس. وأن رزقهم في ظلال رماحهم.quot; (ص198). وذلك طبقاً للحديث النبوي: (جُعل رزقي تحت ظلال رمحي.)
ولو قرأ السياسيون الغربيون وعلى رأسهم الرئيس بوش رسالة ابن خلدون في طبيعة العرب لفكّر ألف مرة قبل أن يفعل ما فعله بالعراق. خاصة عندما يقول ابن خلدون:
quot;العرب متنافسون في الرياسة. وقل أن يُسلّم أحدٌ منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته، إلا في الأقل وعلى كره من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام، فيفسد العمران وينتقض.quot; (ص 198).
هذا ما كان من حال العرب قبل ستة قرون، فماذا تغير الآن؟

-6-
هل كانت آراء ابن خلدون في العرب على هذا النحو من الصراحة والشجاعة وقوة المنطق وعقلانية التفكير، سبباُ في شهرته في الغرب هذه الشهرة المدوية، واشادة المستشرقين به، وانكبابهم على دراسة آثاره، وتتبع مسارات تفكيره، مما دفع مستشرقاً كالمستشرق ليفي بروفنسال ليقول: quot;إن صفات العبقرية عند ابن خلدون تتجلى في كونه أحرز قصب السبق في مجالات المعارف الإنسانية، مما جعله في مسار يثير نزعة المعاصرين له من المؤرخينquot; ؟

إن أهم ما قدمه لنا ابن خلدون نحن العرب، هو أنه كان أول من نقد الذات العربية نقداً علمياً وتاريخياً وواقعياً. فمن هنا نبدأ. ولم يجرؤ مؤرخ من أمثال الطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم على دراسة التاريخ العربي بعمق وبنظرة نقدية فارزة، كما فعل ابن خلدون. فمثل هؤلاء المؤرخين كانوا يسجلون الوقائع فقط، مثلهم مثل كُتّاب الأرشيف. فهم لا يقدمون لنا أكثر مما هو واقع. في حين كان ابن خلدون يقدم لنا ما وراء الواقع، وهو ما لم يقدر عليه المؤرخون الآخرون. وقد شرح ابن خلدون منهجه الاستقرائي والاستنتاجي والتحليلي هذا في كتابة التاريخ العربي بقوله:
quot; فأنشأتُ في التاريخ كتاباً، وأبديتُ فيه لأولية الدول عملاً وأسباباً. وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً، واخترعتُه من بين المناحي مذهباً عجيباً، وطريقة مبتدعة وأسلوباً، وشرحت من أحوال التمدن والعمران، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، وما يُمتّعك بعلل الكوائن وأسبابها.quot;
وبهذا سبق ابن خلدون الفيلسوف كانت Kent في ارساء نظرية التفكير النقدي الهادف للتاريخ والحضارة. وهذه النظرية هي لبُ النقد الذاتي، الذي نحن بحاجة اليه الآن، والذي بدأه ابن خلدون منذ ستة قرون، وتابعه ابن رشد وابن الهيثم. ثم انقطع في عصور الانحطاط، وعاد الآن من جديد على أيدي المفكرين الليبراليين العرب. ولكن من قاموا بالنقد الذاتي المتواضع حتى الآن يُكفّرون، ويُنبذون، ويُحاربون، ويُتهمون بأنهم يناصرون الغرب وسياسة الغرب وعدوان الغرب وبأنهم جالدو الذات الذي لا يكفون عن جلد الذات العربية ارضاءً لأسيادهم في الغرب!

-7-
من خلال هذه اللُمع الخلدونية يمكن أن نفهم العرب قبل ستمائة سنة، وكذلك الآن . فالحال لم يتغير، بعد مضي ستة قرون. ولو قرأ جورج بوش رسالة ابن خلدون في العرب قبل ستمائة سنة، وطبقها على واقع العرب الآن لما قام بحملته العسكرية على العراق 2003 ، ولعلم أن العالم العربي كله مستنقع، وليس العراق فقط. وعليه أولاً أن يطلب من علماء وخبراء الزراعة أنجع الطرق لتجفيف هذا المستنقع أولاً ، ومعالجته وتنظيفه، من كل أوساخه وقذاراته وفضلاته، قبل أن يضع قدمه فيه، وقبل أن يخطو فيه خطوة واحدة.

السلام عليكم.