حمامات الدم والتصفيات الدموية الرهيبة السائدة يوميا في مدن العراق و قراه منذ سقوط نظام البعث البائد ربيع 2003 والتي إتخذت للأسف صفة التطهير الطائفي الذي تسارعت
سياقاته وأشكاله وأساليبه و توحشه خلال الأسابيع الأخيرة لا يشكل فقط حالة غريبة وغير مسبوقة في المشهد و التاريخ العراقي في العصر الحديث، بل أنه سمة من سمات التشويه الفكري و السلوكي الذي تسببت به فترة الحكم الطويلة و التخريبية للنظام البعثي ضد المجتمع العراقي الذي يعاني اليوم من تشوهات سلوكية و قيمية فظيعة، ومن جهل مطبق، ومن سيادة للمفاهيم الأكثر تخلفا في الفكر الديني و الطائفي الذي تحول لمؤسسة متوحشة غريبة و بعيدة كل البعد عن روح التسامح و التواد العراقية المتوالية عبر العصور والتي جعلت من المجتمع العراقي بمثابة موزاييك مختلف للملل و النحل و الفرق والطوائف و الأديان تعيش كلها في تواد و محبة وإحترام لا يعتدي أحدهم على الآخر، ولا يسفه أي فريق الفريق الآخر، وكل حزب بما لديهم فرحون، وأنا لا أتحدث من منطلق طائفي تمييزي مريض كما هو سائد اليوم، بل أتحدث وفق ما شاهدته وعشته وعايشته و تلمسته منذ الطفولة وحتى الخروج من العراق، فللمشاهدات و التجارب الشخصية دور كبير في الحكم على كثير من الأمور التي قد لا يعرفها الجيل الراهن الذي خاض الحروب العبثية وعاش مرارة التمييز الطائفي و العرقي، ولامس مجازر التصفيات السياسية التي إتخذت في كثير من الأحايين طابعا طائفيا بسبب تطيف المؤسسة السياسية و العسكرية و الأمنية السابقة، إنني أتحدث من خلال شريط الذكريات القريبة و البعيدة وأيام السلام النفسي و الطائفي و الإجتماعي التي لم تشوهها ألاعيب السياسة وممارسات ودجل تجار الدين و الطائفية و الموت و التخلف.

نشأة مختلطة..!

ولدت من أبوين ينتميان لخلفية طائفية مختلفة، فالوالد رحمه الله كان عربيا سنيا شافعيا ومن أسرة سنية متدينة، ووالدتي رحمها الله كانت شيعية إمامية شأنها شأن غالبية فلاحي الجنوب العراقي فليس للإنسان من خيار ديني أو طائفي في مولده، وتربيت تربية متعايشة متسامحة وأشهد الله أن أهل أبي كانوا يعتبون عليه زواجه من شيعية!! ولكنهم تقبلوا الأمر فيما بعد وظلت العلاقات الأسرية طبيعية، كنت أتذكر أن والدي كان يمزح مع والدتي عندما يطل شهر رمضان أو يهل هلال العيد! فبسبب شيعية والدتي كانوا يختلفون في أيام الصيام والإفطار!! كما هو الحال حتى اليوم؟ ولكن ذلك لم يكن ليفسد للود قضية وكنت أذهب مع والدي لمعايدة عماتي في أول أيام العيد بينما كنت أذهب مع والدي أيضا لمعايدة جدي لوالدتي في ثاني أيام العيد وكانت إحدى عماتي وهي سنية متزوجة من شيعي متشدد!! كنا نحتار في وقت معايدتها!! وكان كل ذلك يتم بمرح وسرور ودون تعصب
أو توتر وكنت أصلي مع والدي في مساجد أهل السنة كما كنت أذهب معه أيضا لحضور المآتم و التعزيات الحسينية، فالإمام الحسين وأهل بيته الأطهار ليسوا ملكا لطائفة بل أنهم أئمة لجميع المسلمين وهم فوق أي طائفية أو خلاف، وأشهد الله بأن والدي كان يبكي بكاءا مرا في عاشوراء حيث ذكرى مصرع الإمام الحسين وجمع من أهل بيته الأطهار، فمأساة الحسين هي مأساة إنسانية مطلقة، كنا نحب علي وعمر وأبو بكر رضي الله عنهم جميعا، وكنا نزور مراقد أهل البيت في النجف وكربلاء و الكاظمية وسامراء و بلد دون مغالاة ولا إفراط بل عن حق و مواساة و تكريم لأهل بيت النبوة الأطهار، في عاشوراء كانت مدينة البصرة القديمة وأسواقها تعج بالحسينيات ومجالس التعزية وكان الجميع يشارك دون حساسية و لا عدوان و لاتوتر، كان المسجد يجاور الكنيسة وكانت الحسينية تمارس طقوسها بكل حرية وإحترام للطرف الآخر، لم نكن نسمع أن سنيا متشددا فجر نفسه في مسجد عزاء حسيني للشيعة!! فتلك الأمور كانت من المستحيلات! فلم تكن الثقافة الدينية و الطائفية والإجتماعية قد وصلت إلى الحضيض السائد اليوم، كيف للأصهار و الأعمام و الأخوال أن يتذابحوا؟ وعلى ماذا؟ ولماذا؟ ومن أجل من؟ أمن أجل الدين أو الطائفة؟ وهل يسمح الدين أو تسمح أخلاقيات أهل بيت النبوة الراقية أن تسفك الدماء؟ ألم يقل سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام : إذا كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني؟ ألم يرفع شعاره الخالد عبر العصور : (هيهات منا الذلة يأبى الله ذلك ورسوله و المؤمنون)!، إنه لم يكن إماما للشيعة بل إماما لكل الأحرار في تاريخ البشرية الحافل بالعجائب و الغرائب، كانت أيام عاشوراء تمضي و تمر في سلام وأجواء إيمانية تشمل الجميع السنة و الشيعة تعود الحياة بعدها ويعزي السني إبن خالته الشيعي وكان حوارا حضاريا بعيدا كل البعد عن مؤامرات السلطة أو جرائم فرق الموت الطائفية أو التكفيرية المتوحشة، لم يكن العراقي أبدا عنوانا للوحشية، نعم كانت هنالك إغتيالات ولكنها على أسس حزبية أو عشائرية وليس على أسس طائفية، جيراننا في البصرة كانوا سنة أصلهم من (بهرز) في ديالى وتلك المنطقة معروفة بتعصبها الطائفي ومع ذلك كانوا يزورون بإنتظام مراقد أهل البيت في النجف و كربلاء رغم أن أسماء أولادهم (بكر وعمر وعثمان وعلاء) وكانت والدتهم تنادي على أسمائهم في الحضرة الحيدرية أو الحسينية وسط ضحكات الناس وسرورهم!!، كان صديقي المسيحي (فؤاد) يحضر معنا في متوسطة النضال في البصرة دروس الدين دون وجل بل من أجل التعرف، كنت أحضر أعراس أصدقائي المسيحيين في الكنيسة المجاورة لبيتي وكان القس صديق الأسرة، كان أحب المدرسين إلى قلبي مسيحيا علمني الإنكليزية وكنت أحبه، أما أحبابي الشيعة فجل أصدقائي منهم في الوطن أو الغربة، عشت برهة من الزمن في مدينة (قم) الإيرانية ولمست فروقا هائلة بين شيعة إيران وشيعة العراق وكان شيعة العراق يقدموننا على أنفسهم وكانوا مثالا للمحبة و المودة والروح الإسلامية الجامعة، كنا نختلف في تفسير التاريخ والروايات والنظريات وتقويم الصحابة دون أن نتذابح أو يحقد أحدنا على الآخر؟.... هذه هي أخلاقيات أهل العراق الحقيقيين.. فأي زلزال حدث لكي تتبدل النفوس وتتوحش المشاعر وتتبلد الأحاسيس؟ ما يحصل اليوم مؤامرة حقيرة تستهدف الوحدة الوطنية العراقية لا علاقة للشيعة أو السنة بكل مفرداتها.. إن الحقد و القتل و التعصب بضاعة لا علاقة لأهل العراق الحقيقيين بها، ولكن من يسمع أو يقرأ أو يكتب في ليل العراق الطويل الحالك الراهن؟.

[email protected]