من واقع الحفز والتغيير الذي يعيشه المجتمع، يبرز مجال إنتاج المعاني وتعددها وتنوعها ، حتى ليصار نحو البحث عن الغايات التي تعن على تلك المعاني، ومن واقع التمثلات التي تقوم على إنشائها المعاني، تبرز أهمية العلاقة بين الذات والتاريخ، والطريقة التي يمكن أن تقوم بها الذات داخل هذا الحقل، والذي تتفاعل فيه المجمل من النصوص والرؤى والتحديات والرهانات والتصورات، حتى ليكون من المهم التوقف عند حدود الذاتي والجمعي، انطلاقا من التطلع نحو إبراز الفاصل الموضوعي بين الوعي الذي يشمل طريقة تفاعل الجماعات مع الواقع، والقصدية التي تميز مدار التفاعل الفردي.
يقف العربي اليوم عند حدود السؤال الملح، بقوام ( من أنا؟)ليقف على أعتاب هوية المطابقة، تلك التي يتم من خلالها تحديد سماته الشخصية المباشرة ، إنه بطاقة التعريف التي تميزه عن الآخرين، إنها العمق الذاتي والفرادة والخصوصية التي، حتى ليمكن التعرف عليه وتمييزه، إنها بصمة الإبهام أو التمييزات التي أفردتها حضارة المعلومات المعاصرة ، على صعيد قزحية العين أم الخريطة الجينية. وبالقدر الذي يكون التحديد وقد توقف عند التمييز الفردي ، فإن البحث عن العلاقة في الزمن أم المجموع ، يبقى حاضرا على الدوام. ولكن هل يكفي أن يعرف المرء التفاصيل المتعلقة به.هل يمكن الاكتفاء بالتوقف التفصيلي عند المعلومات التي تزخر بها بطاقة التعريف الرسمية، والتي تشير على الاسم والجنس والعمر والديانة وفصيلة الدم، أم أن الأمر يستدعي البحث عن علاقة من نوع آخر.كيف يمكن للفرد أن يتواصل أو يتوافق مع ذاته من دون أن يتوافق مع الآخرين، كيف يمكن لهوية المطابقة أن تقف بوجه التشظيات والاغتراب وحالات الوهن والضعف الإنساني والمصالح المباشرة التي تستدعيها الأوضاع المختلفة للعلاقات والمواقف.
كيف يمكن النظر إلى الهوية من دون التوقف العميق، عند مؤثرات الوحدة والانسجام والاستمرار ، تلك التي يتم التواصل من خلالها في مدار الزمن أو على صعيد الواقع والوجود والجماعة.هل تعني الهوية الذاتية التوقف عن تضخم الذات، أم أن المرتكز الذي يقوم عليها لا يمكن أن يتم تحديد تفصيلاته، أو حتى لا يمكن أن يتخذ أهميته ، من دون التوافق مع المجمل من الهوية الجمعية.

تأويل الهوية
بين الفردي و الجمعي تبرز ملامح التمييز، هذا بحساب المسعى نحو إفراد ملامح التأثير للسرد والتاريخ على الذات، تلك الذات الساعية نحو التأويل من أجل توكيد حضورها على صعيد الواقع، إنه التوقف عند تمييز لحظة تاريخية فارقة، يتم من خلالها تحديد سمات الهوية، إنه الموقف الذي يكشف عن ملامح الحضور والتأثير، إنه الوعي الذي يميز طبيعة العلاقة مع الوجود والجماعة،( جاك دونت، هيغل والفلسفة الهيغلية، ترجمة حسين هنداوي، دار الكنوز الأدبية، بيروت 1994، ص 106-107) حيث الكشف عن روح الأمة، بحسب توصيف هيغل.
بين الصوري والتجزيئي والقياسي يتم للعقل المجرد النظري من بلوغ الفهم، فيما يتضمن العقل العملي على الباطني والتركيبي والموضوعي، في سبيل اطلاق الأحكام حول الظواهر.ومن هذا التوزيع لا يتردد هيغل من القول بأن العقل يبقى في دائرة التمام والكمال مادام يعيش في حيز التجريد والتنظير، فيما نراه يعيش لحظات عجزه عندما يتفاعل مع الواقع ، هكذا تعيش ثنائية الفهم والقدرة على الحكم على مدار الواقع،إنه المنطق الذي يقوم على الوصف والفهم، من أجل محاولة فهم روح العصر والتاريخ الذي يقوم بناء على الحكم المستمد من طبيعة المقارنة فهم روح العصر ومسار التاريخ، وعلى هذا يتبدى التقاطع المفجع ، حين يتم إسقاط قيم الحاضر على الماضي.فالتاريخ لا يقوم على مسار الماضي الحدثي، بقدر ما يمثل منطق الحدث وتفاعلاته الداخلية.(عبدالله العروي، مفهوم الأيديولوجيا،المركز الثقافي العربي، بيروت 1993، ص 59)

الهوية المستباحة
يقف مفهوم الهوية عل عتبة السؤال حول العلاقة القائمة بين الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة ، إنه الشاخص المعرفي الذي يتبدى حاضرا، باعتبار ما تنتجه التفاعلات السياسية والاجتماعية والثقافية، وبالقدر الذي تبرز أهمية سؤال الهوية في المجال العربي، فإن النقص والوهن يبقى حاضرا، يكشف عنه طبيعة السؤال اللاحق والذي يقوم على الاستنكار، حول السر الذي جعل من الآخرين يتقدمون فيما بقي العرب على حالهم القديم!إنه السؤال الذي يتكرر عن أية قراءة مقترحة للتحولات، أو التفاعلات، أو البحث في الآثار الداخلية أم الخارجية، أم المواقف.إنها لحظة الانفعال النائية عن التحليل، والساعية إلى استدعاء الهوية الاصطناعية ، باعتبار الحماس واللغة الحارة السخينة، الساعية إلى جذب التعاطف والنأي عن اللوم، حتى ليكاد هذا الخطاب يتماهى مع الشاعر الذي يقول ( دع عنك لومي فإن اللوم إيذاء)، وهكذا يحضر اللوم والأذى والسعي نحو إبراء الذمة من الأخطاء والتحصن بالكمال والتمام، فيما يبقى الواقع العربي ، يعيش ذات اللحظة التاريخية التي حاول فيها أن يطلق مشروع نهضته.