منذ انطلاق عصر النهضة، لم يكف العرب عن إطلاق سؤالهم الأثير حول التغيير والتحول والتقدم والتطور والتجديد واليقظة والنهوض والخلاص من حال السبات والتوقف الذي جثم على الواقع، حتى بات هاجسا دائما تكاد ملامحه أن تتبدى على المجمل من العلاقات والرؤى والتصورات.سؤال ولد المزيد من الأسئلة الفرعية، فيما بقي التوجه مركزا وثابتا نحو محاولة اللحاق بالركب الذي تحقق للغرب المتقدم، وبالقدر الذي لازم الانشغال، المجمل من الفعاليات العربية بالبحث عن الطريق أو الوصفة الضامنة للعلاج، فإن الواقع الذي يقوم على التغير سرعان ما أبرز تفاصيله، وعلى أكثر من صعيد ومجال، إن كان في تفاقم مركب التناقضات على صعيد الدور الذي يضطلع به الفرد، أو في الاستغراق المبالغ فيه بالتفاؤل حول الوعد بالمستقبل والذي يقوم على فكرة النهل عن الآخرين. أو في الوعي المجزوء بالتحولات، أو في التداخل الفج الذي يطغى على معنى الخصوصيات، تلك الأخيرة التي غدت بمثابة الوسيلة التي يتم من خلالها تعميق مجال الإقصاء والتهميش للطرف المقابل.
الوعي المجزوء
أين تكمن أزمة الوعي العربي، في طريقة الوعي المجزوء بالموقع؟ أم في طبيعة العلاقة القائمة بين الذات والآخر؟،أم في التوزع الذي يصل حد الانقسام بين الماضي والمستقبل؟في تناقضات المركز والدور المطلوب بالنسبة للنخبة العربية، وطريقة تفاعلها مع الواقع؟هذا بحساب أن طريقة تبلور خطاب النهضة الذي تميزت قسماته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان يمثل نتاجا لطبيعة الظرف القائم، حيث حالة التوقف الذي نال من الواقع العربي، هذا بحساب تراكم أوضاع الوهن والضعف والجهل والأمية، ومن هذا ارتكز الخطاب على محاولة تقديم الشعار على حساب المضمون الواقعي، بل أن تقديم النموذج الجاهز، والمتمثل بالغرب بكل تقنياته وأوجه الزاخر بالتكامل، كان يشكل الهاجس الأهم والأبرز في المجمل من الرؤى والمقولات، وعليه برزت حالة التقاطع مع المكونات الذاتية، إن كان على صعيد القيم أم الأعراف. وهكذا ولد الخطاب وهو يعاني من التشظي والانقسام والتعالي على الواقع، بين إمكانات متواضعة وأحلام وطموحات واسعة، حتى كان التقاطع مع البيئة المعاشة، ليكون المخاض وقد ولد خطابا لا ينطوي إلا على حفز المقولات الكبيرة، والتي تكاد تعيش الغربة عن أحوال الناس وأوضاعهم، ومن هذا الظرف الملتبس برزت صورة المثقف- الأفندي، تلك التي عاشت الاهتزاز والتعقيد والسخرية في الكثير من الأحيان، صورة باهتة تعاني من الهزال والترقيع والمواربة والتكلف، وبالقدر الذي أبرز الواقع نخبة ثقافية صادقة وأصيلة، حاولت أن تحمل على أكتافها الهم النهضوي، والسعي الحثيث نحو تغيير الواقع فإن كم التراكم الهائل الذي ولدته أحوال القهر والتخاذل، كان بمثابة المعيق البنيوي لهذه الجهود، والتي بقيت تعاني من المحدودية، إلى الحد الذي تكشف فيه محاولة ترصد تاريخ الجهود النهضوية، عن نخبة عربية قليلة العدد، كان يتم تقاسم الأدوار فيما بينها، إن كان على صعيد تجارب الجمعيات الأدبية والعلمية والاجتماعية، أم على صعيد العمل السياسي السري، إبان الحقبة العثمانية.
الدلالة الزمانية
وقف النهضوي العربي على مفترق العامل الزمني، هو يحث مجهوداته ووسائله بغية التوفيق، بين الماضي التلبد والعريق لأمة العرب، والحاضر البائس، وأحلام وطموحات المستقبل والتي تم تركيبها وفقا للنموذج الغربي المترع بالقوة والتكامل.إنها اللحظة التي تم فيها تغييب الدلالة الزمنية، إلى الحد الذي تحولت فيه إلى مجرد إجراء تفصيلي، لا ينطوي إلا على محاولة للترقيع والابتسار، بل أن عملية التوفيق هذه، صارت تعيش حالة من التركيب المعقد، والذي لا يستدعي سوى المزيد من العجز، بحساب تخطي منظومة القيم والعادات والتقاليد والمفاهيم والمنظومة المعرفية، كل عصر وزمان، أو لكل مجتمع.
بين الحيرة التي ميزت موقف النهضوي العربي، والقدرة على المبادرة التي تقمصها الجيل المؤسس للحضارة العربية الإسلامية، يتبدى مضمون القدرة على المبادرة .حيث إرادة الأمة، تلك التي تميزت ملامحها في التمثل العميق لروح الإسلام دينا وفكرا وعقيدة، قوامها التسامح والتفاعل العميق مع المكونات الأصيلة لإرادة الأمة، حتى كان المنجز التاريخي الذي تحقق بناء على إحداث القطيعة المعرفية مع المجمل من التناقضات التي كان يزخر بها العصر الجاهلي، من دون التخلي عن القيم والفضائل التي كان يقوم عليها ذلك المجتمع، حتى كان حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ( خياركم في الجاهلية، خياركم في الإسلام، إذا فقهوا).
مجال التغيير
إنه المسعى الواضح نحو تحقيق الخير والصلاح والحسن والسليم، الذي جاء به الإسلام .فيما تبقى ضرورة التمييز في الظرف التاريخي الذي لازم كل حقبة، حيث التطلع الذي رافق تجربة بناء الدولة العربية الإسلامية، إن كان على صعيد قيام دولة المدينة والعهد الراشدي والفتوحات الكبيرة التي تحققت، أو في حالة التوافق والانسجام الذي رافق معطيات التكوين الحضاري خلال العصرين الأموي والعباسي،إن كان على صعيد تعريب الدواوين وتعريب العملة والنهل العميق والدقيق عن النظم الإدارية الساسانية والبيزنطية، أو في توسع حركة الترجمة للتراث العقلي اليوناني، وفضل العرب في هضم واستيعاب هذا التراث.
[email protected]
التعليقات