عرفنا في الفترة الماضية ما اصطلحنا على تسميته بالثورات البرتقالية، تحركات شعبية في دول المعسكر الاشتراكي المنهار، تحاصر بقايا الاستبداد والشمولية في نظمها، وتفرض إرادتها في حياة حرة، وتأسيس نظم ليبرالية شكلاً ومضموناً، بإسقاط الرموز التي حاولت بالثقافة الشمولية توظيف آليات الديموقراطية لإعادة إنتاج الاستبداد، مصحوباً بالقليل من الرتوش التجميلية، والكثير من الادعاءات والشعارات التي افتضح خواؤها، بعد سقوط جدار برلين وكل ما يمثله.
كان اللون البرتقالي هو الأنسب وصفاً لتلك الفعاليات، لجماهير مسالمة تتوق لنسمات الحرية، وترفض أن يدوم اختطافها تحت عباءة الاستبداد، سواء تستر بشعارات اشتراكية أو قومية، فالحرية بالنسبة لتلك الجماهير كانت البوابة إلى عالم الحضارة الإنسانية الرحب، يتلهفون للالتحاق به، فهناك ما يرومونه منه، ولديهم ما يعطونه، لرفد تيار الحضارة والحداثة.
لم يعرف عالمنا العربي هذه الظاهرة، فلم نشهد تحركات جماهيرية في مواجهة الحكام، بخلاف النادر من المظاهرات أو الاحتجاجات الهزيلة، والتي لا ترقى إلى مستوى ثورة، سواء كانت برتقالية، أو بأي لون من ألوان الطيف، لكننا أخيراً وجدنا أنفسنا أمام من يهدد بتحريك الجماهير لإسقاط الحكومة وتغيير النظام، لإقامة نظام جديد لم يفصح تفصيلاً عن ملامحه، وإن كان من السهل علينا تصوره، بما لا يدفع أحداً لوصف تلك التحركات الجماهيرية المتوقعة باللون البرتقالي، فالأمر هنا في بلاد العرب جد مختلف.
فالسيد حسن نصر الله قائد حزب الله صاحب بضع مقاعد في البرلمان اللبناني، وخارج لتوه من مخبأه، بعد أن توقف القصف الإسرائيلي، هذا السيد الذي جلب الخراب والدمار لبلاده، والقتل والتشريد لشعبه، هذا السيد الذي يشارك حزبه في الحكومة لكنه تجاهلها وهو يتخذ قراره الكارثي، هذا السيد الذي يمتلك وحده ميليشيا عسكرية، وظيفتها الأولى بث الرعب بين مختلف قوى وتيارات الشعب اللبناني، قبل أن تكون تهديداً أو ردعاً لعدو باطش، لا يهدد بقواته الوطن اللبناني، وإن كان يعمل على سحق معاقل الإرهاب فيما حوله، هذا السيد المدرج حزبه ضمن قوائم المنظمات الإرهابية، ومعروف للقاصي والداني أنهم مجرد دمى تحركها أصابع آيات الله في طهران، وجلاوزة البعث في دمشق، هذا السيد يقوم اليوم ndash; والسلاح تحت إبطه ndash; بتهديد قوى الأغلبية البرلمانية الشرعية، بتحريك الجماهير ضدها، والعجيب أن مطلبه الظاهري هو إجبارها على تشكيل حكومة وحدة وطنية، تضمه بالإضافة للمتعلقين بأذياله، ممن يسمون بتكتل التغيير والإصلاح، الطامعون لأن يحملهم على جناحه المدجج بالسلاح، فمشاركته في الحكومة الحالية، وبنسبة حجمه البرلماني الشرعي، لا تحقق له إصابة الحكومة بالشلل عند أي قرار يتعلق بالاستحقاقات المصيرية، التي تنتظر لبنان الخارج لتوه من بين براثن الذئب البعثي، ومخالبه البوليسية الجهنمية، لكن السيد وقد خرج من مأساة تدمير لبنان بما يقول أنه انتصار إلهي له ولحزبه، ولأنه الآن لا يجسر على إخراج سلاحه من مخابئه وسط بيوت المدنيين الذين كانوا قبله آمنين، فالمجتمع الدولي وقوات اليونيفيل له الآن بالمرصاد، لم يبق له إلا استخدام الجماهير التي يستطيع بشتى الطرق والإغراءات تحريكها، على أن لا يغيب عن بال كل من يفكر في مقاومة السيد أو معارضته، أربعة عشر اغتيال ومحاولة اغتيال بعد جريمة اغتيال رفيق الحريري، قيدت كلها حتى الآن ضد مجهول، ذلك المجهول المعروف لنا جميعاً، والذي لا يفتأ يعلن عن نفسه في كل لحظة وكل مجال.
الجماهير التي سيحركها السيد إذن لا يمكن وصف تحركاتها بالثورة البرتقالية، وتحتاج منا أن نبحث لها عن لون آخر يناسبها، قد يكون قرمزياً أو ما هو أكثر قتامة، لا يجب إزاء هذه الحالة أن نسطح الأمر باستسهال إلقاء اللوم على بطل الجهاد والخراب والتخريب، أو حتى على الدوائر الضيقة المحيطة به من كوادر حزبه الإلهي كما يدعي، فهم مهما كان عددهم مجرد أفراد، من الوارد انحرافهم في هذا الاتجاه أو ذاك، سواء بدوافع أيديولوجية أو نفعية مادية، ولو كان التهديد فقط بالسلاح ndash; وهو الحادث جزئياً ndash; لجاز أن نلقي بالمسئولية كاملة على عاتق تلك المجموعة، المدرجة بالأساس في قوائم الإرهاب العالمي، لكن أن يكون التهديد بالجماهير، التي لابد وأن يتجاوز عددها المليون نسمة، كما سبق ورأينا في الحشود الهادرة التي استطاع ذلك الحزب تجميعها، فإن علينا في هذه الحالة أن نضع الجماهير ذاتها في صدارة الأمر، ليتراجع دور المحرضين وأذنابهم من الإعلاميين وما شابه، إلى ما بعد الدرجة الثانية والثالثة.
يعظم من مدى تحمل الجماهير للمسئولية عن استخدامها كحراب لطعن الحرية والسلام والولاء للوطن اللبناني، توقيت التفافهم المتوقع (أو المتوهم) حول السيد وحزبه، مباشرة فور توقف حملات التخريب الإسرائيلية للبنان، والتي مازال غبارها عالقاً بسماواته، وهي النتائج المباشرة لممارسات وأفكار ذلك الرجل وعصابته، وبدلاً من أن تلتفت الجماهير إليه لمحاسبته بتهمة الخيانة العظمى، ولا نقول تفتك به وبأعوانه، ليكون عبرة لكل مغامر موتور، بدلاً من هذا نجده هو الذي يتحدث عن الحساب، وبأنه يمكن أن يتسامح أو لا يتسامح، إنه أمر مذهل، ليس من هذا الرجل وأعوانه، ولا من الفضائيات الجهنمية، التي تتيح أن يطالعنا بالساعات الطويلة، يتحدث بوقار مصطنع، وبصوت ناعم كسم زعاف، لكن الذهول من الجماهير الفريدة في ثقافتها وتوجهاتها، تلك الجماهير التي كان من المتصور أن تمثل في هذا التوقيت رعباً له، فالتصور المنطقي أن يتجنب السيد وبطانته الآن مواجهة الجماهير، حتى تجنب مجرد السير علانية في الشوارع، تخوفاً من أن ينالوا ممن يتعرف عليهم، بعضاً مما أذاقوه للجماهير من قتل ودمار وتشريد!!
لابد أن العالم الحر ينظر الآن إلينا ذاهلاً متحيراً من عقلية شعوبنا ونظرتها لنفسها وللعالم، متسائلاً عما يدفع شعوب لأن تناصر ndash; وباستماتة ndash; من لا يجلبون لها إلا الخراب والموت، بل والحياة الأكثر شناعة من الموت، حياة التشرد والفقر والتسول من كافة أنحاء الأرض، ولابد للمراقب الخارجي أن تتضاعف دهشته من جماهير ما يسمى بالتيار الوطني الحر، وهي تنقاد لزعيم كان في يوم ما أسطورة، ويسير الآن في ظلال السيد صاحب النصر الإلهي، سوف نتجاهل العماد ميشيل عون، ولن نتوقف لنتعجب من الانقلاب في مواقفه مائة وثمانين درجة، فالأمر لا يستدعي العجب في عالم السياسة، الزاخر بمثل هذه الشخصيات التي تسعى لتحقيق أحلامها الشخصية بأي ثمن، وفوق أي جثة، حتى لو كانت جثة الوطن والقيم والعقلانية، فكل هذا لا يساوي عند أمثال هؤلاء قلامة ظفر، أمام بريق كرسي الرئاسة الذي تتخايل أطيافه في الصحو والمنام، لكن التعجب كل التعجب من جماهير هذا التيار، المفترض - ولو من قبيل التسمية - أنها جماهير حرة ووطنية، إذ كيف تقبل تلك الجماهير الانصياع وراء كائناً من كان، لتقف جنباً إلى جنب مع جماهير تهتف للقتل والقتلة، فإذا كان لجماهير حزب الله عذر نسبي، بدعوى أنها مغيبة بالأيديولوجية وبدغدغة مشاعرها الدينية، لكن جماهير التيار الوطني الحر، والتي وقفت خلف زعيمها حتى عاد من منفاه، ليحقق ما جاب عواصم العالم يدعو له، كيف تقبل أن تستدير معه إلى الاتجاه المضاد، هل ستقبل تلك الجماهير ذلك فعلاً، إذا ما نفذ السيد تهديده، وخرج بجماهيره لتتظاهر وتعتصم وتضرب عن العمل، لتتوقف الحياة في بيروت وسائر لبنان، حتى تسقط حكومة الأغلبية الشرعية، والتي يدافع عنها كل العالم الحر؟!!
هو مأزق ما بعده مأزق، أن تقود المرء تحليلاته ليجد نفسه في موقع إدانة لجماهير وشعوب بكاملها، شعوب قطاع أساسي منها في حالة غياب تام، والجزء الناشط منها يسعى تماماً بعكس اتجاه مصالحه، وبعكس حركة التاريخ وتيار الحضارة المعاصرة، جماهير تنتشي وتطرب إذا حدثتها عن الجهاد والعداء للعالم كل العالم، ويشتد حماسها حين تغلق أمامها أبواب الحياة، وتمهد لها طريق الموت، ولما لا نقول ذلك، ونحن نرى الشعب اللبناني والفلسطيني يرجحان القوى التي لا تعد إلا بالجوع والدمار والموت.
مأزق للمطالبين بحرية شعوبهم، أن يجدوا أن أي هامش للحرية تستغله تلك الشعوب لتسير في الطرق المسدودة، ولتستدعي لنفسها الكوارث.
وحين نغمض عيوننا لنحلم بثورة برتقالية، نستيقظ لنفاجأ بجماهيرنا تتشح بالسواد!!

[email protected]