ليس ثمة ما يُغري بالكتابة عن فلسطين وما يحدث لها وبها. ففلسطين ترواح في ورطتها العظيمة، منذ شهورٍ تسعة.. بدون مخرجٍ وبلا أمل قريب في مخرج. وشأنٌ كهذا، عندما تقترب منه الكتابة، فلا بد لها هي أيضاً من مواجهة المصير نفسه: المراوحة. وهو أمر لا يروق لكاتب الرأي، عادةً، ولا يتمناه لغيره من زملاء الطريق.
لقد بلغ بنا الإحباط، كفلسطينيين يعيشون في الداخل، ويرون بأم قلوبهم قبل أم عيونهم، حداً جعلنا نكفّ عن الكلام، حتى ولو بدا هذا لازماً وواجباً. فلا أحد يسمع ولا أحد يهتمّ، لا من القيادات ولا من القواعد. ذلك أنّ جسد اللغة ذاته، تفسّخ وتحلّل، كانعكاس وكنتيجة لتفسّخ وتحلّل المجتمع، بكل بُناه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فكيف لكاتبٍ يعيش لعنات هذه الحال، أن يتملّص من سؤال الجدوى: جدوى الكتابة، في زمنٍ تختلط فيه كل الأوراق، وتُستباح فيه كل مفردات اللغة فتنحرف عن مواضعها ودلالاتها؟
حقاً، كيف لأمثالنا أن يكتبون ! وإذا فعلناها، فكيف لا نشعر بالعبث؟ إنّ شعور العبث جميل في حقلي الأدب والفن، بما هما حقلا خيالٍ وتخييل، لكنه خطير ومرعب في حقل السياسة، بما هي واقعٌ وممكنات. فالسياسة هي مصائر الناس، وآلامهم وآمالهم، فإنّ غطّى على كل هذه إحساسُ العبث، فعلى الأرض والبشر والنظام السياسي السلام.
بلاد تنأى بقاياها حتى عن يد الحلم، ومجتمع يرتدّ إلى ذاته، فيوسعها تدميراً ونهشاً مازوكياً، بعد أن أوغل في لحمه عدوهُ السادي. والكل تائه لا يميّز الصح من الغلط ، ولا يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولا يستبين النُصح إلا في ضحى الغد.
فلسطين أُختصرت في [قُطبيْن] سياسييْن، أين منهما قطبا أمريكا والاتحاد السوفييتي في الزمن الغابر؟ بل أين منهما قطبا الأرض الشمالي والجنوبي في حاضر أيامنا ! حماس وفتح. فتح وحماس. هذه تتهم تلك، وتلك تجرّم هذه. وأما الشعب، فضائع بينهما: ضائع وجائع، ومصالحه مهدورة ومستقبله كُحلي.
تذهب إلى محل صرافة في قلب غزة التجاري، لتُحوّل مئة دولار إلى شواكل، فتفاجأ بالشابّ الجالس خلف الزجاج وعلى فخذيه كلاشينكوف ! تمشي في وسط منطقة الرمال، وفي أرقى أحيائها، إن كان ثمة من رُقيّ في غزة، فيسترعيكَ منظر رجال أمن مدنيين، يقفون على مداخل بعض المحلات التجارية، وفي جُنوبهم المسدسات وأحياناً الكلاشينكوفات. ظاهرة غريبة عجيبة تولد في قلب قطاع غزة، هي ظاهرة افتقاد الأمن والأمان. لم يعد المواطن العادي البسيط، يأمن على ماله وممتلكاته. إذ فقد الثقة تماماً بمؤسسات الأمن على تعدد أسمائها وغزارة منتسبيها. قطاع فيه أكثر من ستين ألف رجل أمن، ومساحته لا تتجاوز 360 كيلو متراً، وكل مواطن من أبنائه يكاد يعرف أي مواطن آخر معرفة شخصية، ومع هذا لم يعد آمناً.
فلمن نذهب ولمن نوجه السؤال العالق؟ لوزارة الداخلية ولوزيرها سعيد صيام أم للتنظيمات الفلسطينية أم للميلشيات أم لتجار الموت أم للمافيات أم للمخاتير؟ لمن يذهب الفلسطيني العادي، الطيب المسالم، الذي لم يعد يأمن على حياته من رصاصة طائشة أو أخرى مقصودة؟ لمن يذهب وهو يعرف أنه لو ذهب إلى هذه الجهة فستحيله على الجهة الأخرى، محملةً إياها المسئولية، ومتملصةً هي من مسئولياتها؟
إن الكل يتهمّ الكلّ، فماذا يفعل هذا المواطن الغلبان؟ اختلط الحابل بالنابل، ولم يقتصر الأمر على الجوع بل تعدّاه إلى الأمن الشخصيّ والعامّ. لم يقتصر الأمر، فكيف لا يطلب أهل غزة الهجرة والرحيل عن وطن لا خبزة فيه ولا أمن ولا بارقة مستقبل؟
لقد هاجر إلى جنة الغرب حتى الآن ثلاثة عشر ألف مواطن غزاوي. استطاعوا أن يتدبّروا أمورهم، تهريباً أو بشكل مشروع، ونفذوا من زنزانة كبيرة وطنجرة ضغط اسمها غزة. ثلاثة عشر ألفاً تحسدهم [ولا أقول تغبطهم ] بقيةُ المليون ونصف المليون من مواطنيهم ! ثلاثة عشر ألفاً، استطاعوا عن طريق وجود قريبٍ لهم أو صديقٍ في بلاد الثلج، أن ينفدوا بجلدهم من المحرقة. فكيف لو فُتحت الطريق للبقية الباقية؟
لقد قرأت، وأعرف حتى من دون قراءة، أنّ غالبية مواطني قطاع غزة، ترغب الآن في الهجرة. والأسباب يعرفها القاصي والداني.
فهل بمثل هذا الحال يكون [الصمود والرباط والمرابطة]؟ وهل بمثل هذه الحال، سنكسر حصارنا، وسنجترح معجزة الخروج من هذا الحصار منتصرين؟ عن أي صمود وأي انتصار يتحدّث القوم؟
آخر إحصائية تقول أنّ 70 % من عموم الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة ترغب وتشتهي الهجرة. فهل حدث مثل هذا منذ عام 67 على الأقل؟ نسيَ الإحصاءُ أنّ يشير إلى أنّ 90 % من شريحة الشباب الفلسطيني، وهي أكبر شريحة في المجتمع، مستعدة أن تخرج تهريباً وتقطع الحدود وتذهب إلى المجهول، من أجل الظفر بسماء أوروبية رحيمة، تُغطي عريها وتستر حالها وهوانها على زعماء الشعب العظيم وعلى الناس أجمعين.
لمَ وصلنا إلى هذه المواصيل، وكيف، ومن المسؤول؟ كلا لا تسأل من المسؤول، لأنك لن تظفر بإجابة وبالخصوص وبالتخصيص وبالأخص على مثل هذا السؤال !
شباب مثل الورد، قدموا أقصى ما لديهم من أجل فلسطين، والآن يريدون الهرب منها هي بالأخص !
شيء لم نعهده ولم نسمع به من قبل. لا أمن ولا خبز ولا تعليم ولا دواء ولا مستقبل ولا بصيص فرج. ووطن معذب يطرد أبناءه، حتى ليصحّ تسميته ب [طاردُ بنيه]، إن لم نتطرف فنقولها صراحة: قاتل بنيه، بل قاتل ووالغ في دم خيرة بنيه.

من المسؤول؟
بالطبع لا أحد منا، فنحن جميعاً أولاد ناس: مؤسسة الرئاسة أولاد ناس، والحكومة أولاد ناس. وفتح أولاد ناس، والتنظيمات المسلحة الأصغر عدداً وعدةً أولاد ناس. وأمراء الحروب ومقاولو الدم أولاد ناس هم أيضاً.
كلنا محترمون. وليس مسؤولاً غيرهما، إذا أردتم الحق والموضوعية. أتعرفون من هما؟ إنهما إسرائيل والشيطان.
ومن لا يعجبه هذا التخريج، فليشرب من بحر غزة، أو ليستمع إلى هذه القصة، فحتماً سيجد فيها المفتاح والضالّة والمعنى والمغزى. والقصة على ذمة راويها التاريخي، وكما أوردها صلاح عبد الصبور في كتاب تجربته الشعرية، هي هذه:
[سألَ الأمير لنج دي فو، كونفوشيوسَ عمّا يوصي به من إجراء لاستعادة السلم ورفع مستوى الخُلُق في مملكته، فأجاب كونفوشيوس: quot; ضع الألفاظ موضعها، فحين لا توضع الألفاظ موضعها تضطربُ الأذهانُ، وحين تضطرب الأذهان تفسدُ المعاملاتُ، وحين تفسد المعاملات لا تُدرّس الموسيقى ولا تؤدى الشعائر الدينية، وحين لا تُدرّس الموسيقى ولا تؤدى الشعائر الدينية تفسدُ النسبة بين العقوبة والإثم، وحين تفسد النسبة بين العقوبة والإثم لا يدري الشعبُ على أي قدميه يرقص، ولا ماذا يعمل بأصابعه العشر quot; ]
انتهت قصة الأمير مع الحكيم وبقيت قصتنا بلا حكيم وسؤالنا بلا إجابة: على أي قدميه يرقص الفلسطيني وماذا يعمل بأصابعه العشر؟ إنه سؤال الأسئلة لكل فلسطيني الآن. ولعلّه يتفوّق أهميةً على سؤال أخينا هاملت الوجودي: أن تكون أو لا تكون. فالفلسطيني في هذه الحقبة من تاريخه، ليس فاضياً لأسئلة من نوع أسئلة العَم شكسبير، إنه يريد أن يعرف ومن حقه أن يعرف: على أي قدميه يرقص وماذا يعمل بأصابعه العشر؟ فحين لا توضع الألفاظ في مواضعها، تتحلّل وتتفسّخ الكينونة الجمعية للشعب وللمجتمع بأسره. ويصبح ثمة خطر وجودي على كيانه ذاته. لكنّ المشكلة أنّ هذا التأويل لا يروق لأكثرنا، سواء كنا قادة أو قواعد. فأكثرنا إما حمساوي أو فتحاوي، وكل واحد منهما يتهم الآخر. يتهمه في الفضائيات، إذا كان من علية القوم ومن جهابذة المفكرين السياسيين، أو يتهمه في الشارع أو مكان العمل، إذا كان من القواعد. الكلّ ناشبٌ إظفره في لحم أخيه. والطاسة، كما يقول مثلنا الشعبي، ضايعة. حالة من التشرذم والتآكل والتدمير الذاتي والتفتت، تنخر الجسد الاجتماعي بأكمله، ولو استمرت مزيداً من الوقت، فلا عاقبة لها سوى الوقوع في محظور الاقتتال الداخلي وربما الحرب الأهلية. ولو حدث هذا لا قدر الله، فسيكون حلم أحلام إسرائيل قد تحقق. حلم لم تستطع تحقيقه خلال ستين سنة، وعشرات الألوف من ساعات عمل رجال موسادها، نأتي نحن فنحققه لها على الجاهز وعلى المرتاح. فأي عقل وأي منطق يقبل بهذا إلا إذا كان عقلَ ومنطقَ الجنون؟