السلام عليكم،..
أنا كاتب عراقي واكتب إليكم باسم مستعار بعد ثلاث سنوات ونصف على عملية (حرية العراق)، هل يعني لكم هذا الأمر اي شيء؟ بالنسبة لي هو يعني الكثير، لكنه يعني على نحو دقيق بقائي حياً بعد نشر هذا الموضوع....من الواضح جداً أن لديكم تصورات كثيرة عما يجري في العراق الآن، وأعلم أن بعضكم زار العراق زيارات قصيرة ذات طابع بروتوكولي أسهمت بصورة ما في رسم صورة عراق ما بعد التحرير أو ما بعد الاحتلال في أذهانكم .. يهمني جداً أن أوضح لكم أن بعض هذه التصورات غير دقيق، بل يمكن القول إن كثيراً من المعلومات والبيانات التي يتم تزويدكم بها ما هي إلا امتدادات طولية غير متناسقة لدعاية الحرب..
الحرية .. والانتظار .. والخيبة
حسناً ..اقول لكم بصراحة إننا انتظرناكم منذ سنوات طويلة، منذ عام 1991، انتظرنا بلهفة أن تطل علينا دباباتكم واسلحتكم الثقيلة لتكتسح الآلة الجهنمية الجاثمة على صدورنا لما يقرب من ربع قرن - حينها - أعني نظام صدام الذي أدخلنا في حروب عبثية مع جيراننا هدر فيها كل ثروات العراق وموارده البشرية والاقتصادية، وأخرجنا منها مهزومين مثقلين بالديون مكروهين كأي شعب همجي ذي عقيدة عسكرية توسعية ( مع أننا في الحقيقة لسنا كذلك).. ونحن لم نقف بانتظاركم مكتوفي الأيدي، فقد انلدعت في بلادنا أضخم انتفاضة شعبية أسقطت النظام في معظم محافظات العراق، ولم يبقَ بيننا وبين انعتاقنا سوى خطوات قليلة، بينما كانت قوات شوارزكوف تتقدم شمالاً باتجاه بغداد لإسقاط النظام حتى وصلت إلى تل اللحم وإلى قاعدة الإمام علي الجوية في الناصرية جنوب العراق، وهنا في لحظة مفصلية من تأريخنا وتاريخكم صدرت الأوامر السياسية بوقف العمليات العسكرية ووقف تقدم القوات لفسح المجال أمام (السياسة) وكان هذا هو الجزء الظاهر من جبل السياسة الجليدي الذي هوى فجأة فوق آمالنا وأحلامنا بالتحرر من الجلاد إلى الأبد، أما الجزء الغاطس منه فكان فسح المجال أمام قوات الحرس الجمهوري الموالية لصدام، وتزويدها بالوقود والمؤن لتقوم بقمع انتفاضتنا بقسوة منقطعة النظير، وهذا ما جرى على الأرض حقاً، فقد قُصفت المناطق والمدن الثائرة بالصواريخ البالستية والطائرات والمدفعية الثقيلة، وأبيدت عدة مئات من ألوف البشر -أغلبهم من الذكور- في مدن الجنوب الشيعية ودفنوا في مقابر جماعية (نحن على يقين هنا أن أقماركم الصناعية التجسسية قد صورت أحداثها البالغة التراجيدية) كما زحفت قوات الحرس الجمهوري نحو مدن الشمال الكردية وطاردت الأكراد حتى الحدود التركية والإيرانية وقتلت الكثيرين منهم، وهنا أعلن البيت الأبيض نهابة المهمة الإنسانية النبيلة!! في الخليج بالنصر المحقق وتحقيق الأهداف وفي مقدمتها تحرير الكويت .. هل تصدقون أن الشعب العراقي أو ما بقي منه بعد تلك المأساة نظر إليكم وإلى سياستكم وبيتكم الأبيض باشمئزاز، إذ بدا له كم كانت سياستكم قذرة، فقد حررتم الكويت والكويتيين (وهذا هدف آزركم الشعب العراقي عليه، فيوم أعطى صدام أوامره للجيش العراقي بالانسحاب من الكويت احتفلنا على طريقتنا المعهودة السيئة بإطلاق النار في الهواء فرحاً وابتهاجاً)، لكنكم قررتم في لحظة شؤم الإبقاء على نظام صدام بكل شروره ومساوئه خوفاً من قيام دولة شيعية أخرى على غرار إيران، وهو أمر يبدو أنكم تفضلون الطاعون عليه، وهكذا تركتم الشعب العراقي يواجه مصيره على يد جلاد بغداد ، أو ما اسمته الأوبزرفر البريطانية (جزار بغداد) بعد إعدامه مراسلها البريطاني من أصل إيراني (فارزاد بازوفت) عام 1990.. ما فعلتموه هو أنكم خذلتم العراقيين، بل سلمتموهم إلى الجزار بعد أن شحذتم له سكاكينه.
من المعني بالعقوبات الاقتصادية؟
لا أعتقد أنكم نفس الأشخاص الذين كانوا في الكونغرس بان أزمة الكويت وما بعدها، لكنكم جميعاً أميركيون أنتم ومن سبقوكم، مما يعني أن ما يترتب عليهم من مسؤولية أخلاقية تتحملونها بالتضامن (أنتم وهم والإدارة والشعب الأميركيان) .. من هنا فإنني حين أخاطبكم أشعر أنني أخاطب الأمة الأميركية وتاريخها.
لقد استصدرتم من مجلس الأمن عدداً من القرارات بشأن العراق عام 1990 بعد دخوله الكويت مباشرة، لكن أسوأها على الإطلاق كان القرار رقم 661 في آب/أغسطس 1990 الذي فرض عقوبات اقتصادية على العراق، كان الغرض المعلن منها إضعاف قدرات العراق التسليحية ومنعه من الحصول على المزيد من الأسلحة لاسيما المحظورة دولياً (وكأنكم لم تكونوا قادرين على إزالتها بالكامل حتى مع الإبقاء على نظام صدام عبر الحل العسكري الذي كان متاحاً في آذار 1991) وهذه المرة أيضاً أصبحنا نحن ضحية القرار وليس صدام أو نظامه، فبعد أن قمع صدام انتفاضتنا بمساعدتكم وتغاضيكم، أعلن عداءه الصريح للشعب العراقي، لاسيما المحافظات التي انتفضت ضده ( تدخل ضمنها الأحياء الشيعية الشعبية المكتظة في بغداد كمدينة الثورة والشعلة والكاظمية) كما أنه سمى المحافظات التي لم تنتفض استناداً إلى ولائها الطائفي بـ(المحافظات البيض)، وطوال ثلاثة عشر عاماً وجدنا أنفسنا محاصرين بعدد لا يحصى من الاسوار العالية المكهربة، كانت عقوباتكم مثلاً لا تحظر استيراد الطعام والدواء، لكن صدام كان يستخدم ذريعة (الحصار) لتجويعنا وإذلالنا .. أيها السادة .. كان الشعب العراقي أو معظمه يئن تحت أنظاركم وأسماعكم، وكان يتعرض لتجويع منهجي من قبل حكومته (في سياق معاقبته على انتفاضة آذار) في الوقت الذي كانت هذه الحكومة تنفق المليارات من الدولارات لبناء المزيد من المصانع الحربية والقصور الرئاسية.. وكان صدام يحتفل بكعكة عملاقة في ذكرى ميلاده، بينما كان يطعم شعبه خليطاً من القشور والنوى ونشارة الخشب على أنه دقيق الخبز، وتصنع له عربة من الذهب الخالص والفضة، بينما لا يجد معظم العراقيين ما يكفي لشراء حذاء ، وكان يعيرنا بأننا (حفاة)، أما مسلسل موت الأطفال فقد كتب له السيناريو والحوار وأخرجه كذلك قائدنا الفذ وأجهزته المرعبة، كان أطفالنا يُتركون لكي يموتوا في البيوت والمستشفيات، لكنهم يجمعون بعد ذلك بالتنسيق بين وزارة الإعلام ووزارة الصحة واتحاد نساء العراق وحزب البعث لتنظم من جنائزهم دعاية إعلامية مضادة للحصار .. ولا شك أنكم تتذكرون التصريح المدوي لوزيرة خارجيتكم السابقة مادلين أولبرايت يوم سئلت: هل يستحق الأمر موت كل هذا العدد من الاطفال العراقيين، فأجابت: إنه يستحق.
رهائن البطريرك
لقد كنا ملايين من الرهائن لدى مجرم العصر الذي كلما أوشكنا على التخلص منه، تآمر التاريخ وأنتم وحظنا العاثر ولعنة مجهولة لا ندري ماهيتها في إبقائه عقداً آخر أو عقدين من الزمن مثل كابوس أبدي (منذ نهاية التسعينيات لم يعد لدينا أدنى شك في أن هذا الرجل خالد لا يفنى أو أنه يتجدد على نحو ما، تماماً كالبطريرك في رواية ماركيز الشهيرة.. كنا نسمع أنه أصيب بالسرطان، فيخرج علينا بجسد مفتول ويعبر النهر سباحة، أو يختفي فترة ونسمع أنه مات، لكنه ينبثق كينبوع من القطران ليصدم آمالنا القلقة بيقين بقائه القدري) وهنا لا بد لي أن أذكر أنني عندما أتحدث عن اساليبه البطريركية في إقناعنا بخلوده، انما أذكر أبسط الأمثلة وأقلها، اختصاراً واختزالاً، وإلا فإن من يريد أن يوثق كل شيء عن هذا الرئيس - اللعنة ، وعن حياتنا في ظل سلطته، لا بد له من تسويد آلاف الصفحات، وسيشعر في النهاية أنه لم يقل أي شيء ذي بال.
أيها السادة .. لقد كان صدام مزيجاً غريباً من كل الدكتاتوريات في التاريخ،.. هو كاليجولا ونيرون.. فرعون وهيرودس .. معاوية والحجاج ... ستالين وهتلر .. لقد جمع في شخصيته من هؤلاء جميعاً ليس قدراتهم العسكرية و بلاغتهم ولا المزايا التي تحسب لهم، لكنه جمع الشرور والظلم والقدرة على الإبادة الجماعية، باختصار استخلص منهم الجوانب المظلمة والشيطانية في شخصياتهم...
قد يتساءل أحدكم: لماذا تخبرنا بهذا الآن؟ أقول: لأن صدام هو صناعة أمريكية محض، لقد صنعتموه كما تصنع الأشياء والحروب والفيروسات في مختبراتكم، أو كما حدث في (هزة كلب) فيلم داستن هوفمان .. حسناً لقد أطلقتم الفيروس عام 1968في جسد العراق والشرق الأوسط ، وانتظرتم النتائج ( أذكركم هنا أن أحد قادة البعث الذين انشقوا لاحقاً وهو علي صالح السعدي قال متحدثاً عن وصول البعث الى السلطة: لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي) وقد استشرى المرض في جسد العراق والمنطقة، وكان عليكم أن توقفوه قبل أن يتحول إلى خطر يتهددكم، وهكذا كانت حرب الخليج الثانية (غزو الكويت وتحريرها) المحاولة الأولى الجادة للتخلص من الفيروس، لكن طرأ تعديل على الستراتيجيات بسب مخاوفكم من قيام دولة شيعية، فقررتم فجأة إعطاءه فرصة أخرى للنجاة بفعلته، ولقتلنا وتدمير بلادنا وتجويعنا، إعادتنا إلى الوراء عشرات السنين، فضلاً عن التهديد المستمر للجيران والعالم.
فساد الملائكة
الغريب في الأمر أنه حتى بعد توقيع اتفاقية النفط مقابل الغذاء والدواء، أو ما عرفت باسم (مذكرة التفاهم) لم تتحسن أوضاعنا، وتآمرت الأشياء ضدنا مرة أخرى، ومثل تفاحة أسطورية فاسدة، أفسدنا كل تفاح العالم، فانتقلت عدوى الفساد من حكومتنا إلى حكومات الدول التي شاركت في سرقة قوتنا ودوائنا في أضخم عملية سرقة منظمة في العالم يتعرض لها شعب منكوب،( أما الأمم ......المتحدة) ، هذه المؤسسة التي تنظر إليها الشعوب على أنها الملاك الحارس وراعية الإنسانية، فقد اسهمت بنصيب كبير في نهبنا، وفي تحويل الأموال المرصودة لغذائنا ودوائنا إلى أرصدة آخرين وجيوبهم، وفي حدود علمي ، لم تسرق الأمم المتحدة شعباً قبلنا، ولا أظنها ستسرق شعباً بعدنا، وقد ترسخ لدينا يقين بأن الملائكة يمكن أن يفسدوا عندما يتعلق الأمر بالعراق وقوت شعبه ومشاريع إعماره.
سلسلة الأخطاء
- ما الذي فعلتموه منذ نيسان 2003؟
لست بارعاً في التكهن، لكن ما حصل على الأرض - إن لم تكن وراءه نيات مبيتة - فهو عبارة عن سلسلة طويلة متواصلة من الأخطاء الفادحة.. كنتم قد أعلنتم أنفسكم - بقرار أممي - قوة احتلال، الأمر الذي يرتب عليكم التزامات معينة نصت عليها المواثيق الدولية، يأتي الحفاظ على الأمن في مقدمتها، لكن الأمر المؤسف الذي حصل هو أنكم ما إن انتهيتم من إسقاط النظام بعد معارك طاحنة استخدمتم فيها معظم ترسانتكم من السلاح التقليدي، وجربتم فاعلية اسلحة جديدة لم تكن قد استخدمت من قبل.. بعد كل هذا تصرفت قواتكم كأنها قوات حفظ سلام أو قوات فصل دولية.. لم تكن معنية كثيراً بفرض الأمن، وتركت الحبل على غارب اللصوص والعصابات التقليدية.. وحدثت عمليات السلب والنهب التي طالت كل شيء، والتي يقع معظم اللوم فيها علينا وعلى الحرمان والعوز المزمنينن وعلى اليقين الذي رسخه صدام من أنه هو الدولة، فصار الانتقام من الدولة ومؤسساتها انتقاماً رمزياً من صدام نفسه.. لقد كانت تلك الأحداث بداية لانفلات الأمور كلياً وخروجها عن نطاق السيطرة .. سيطرتكم أو سيطرة القوى الاجتماعية او السياسية العراقية، وبين يوم وليلة تحول العراق بأكمله
إلى مختبر للتجارب السياسية والعسكرية.. لقد رأيتم أن العراق يصلح اكثر من غيره من البلدان ( وأكثر حتى من أفغانستان معقل القاعدة وطالبان والإرهاب الأصولي) لمحاربة الإرهاب على أرضه، وهكذا تركتم حدوده مفتوحة على مصاريعها ليدخل الإرهابيون إلى العراق، وتحولنا إلى ساحة حرب قذرة يتقاتل فيها طرفان رابحان، والخاسر الوحيد فيها هو الشعب العراقي سيئ الحظ، وبعد ان سمع العراقيون والعالم كله الرئيس بوش وهو يتحدث عن تحويل العراق إلى واحة للديمقراطية والحرية في العالم، إذا به يتحول إلى مسلخ كبير مساحته 434 ألف كيلومتر مربع، وميدان حرب لا تنتهي تلتهم المدنيين من العراقيين في وجباتها الرئيسة وتشرب قليلاً من الشاي الأمريكي ماركة المارينز و millitery police (الأرقام تتحدث عن 655 ألف قتيل عراقي وأقل من ثلاثة آلاف قتيل عراقي منذ العشرين من آذار/ مارس 2003 تاريخ اندلاع الحرب الأخيرة.
نظرية القمقم
في تسعينيات القرن الماضي عمد صدام إلى انتهاج اساليب كثيرة لمعاقبتنا، لكن كان أكثرها تأثيراً تلك العقوبة المزدوجة التأثير على المستويين الفردي والاجتماعي وهي بسيطة وفعالة في الوقت عينه... لقد جعل رواتب موظفي الدولة تراوح عند مستوى ثلاثة آلاف دينار شهرياً وهو ما يعادل دولارين شهرياً..
- هل تصدقون؟
إنها الحقيقة التي لم تحظ باهتمام أحد، والتي لم يدخلها اي مركز بحوث أو دراسات ضمن اي تصنيف، مع علمنا بان المنظمات الدولية المعنية بالتنمية البشرية وافنسانية كانت قد وضعت معايير لقياس مستويات الفقر من خلال قياس مدخولات الأفراد في المجتمع، وصنفت هذه المعايير الأشخاص الذين ينفقون ثلاثة دولارات فأقل يومياً بأنهم تحت خط الفقر، ولا أدري تحت أي خط كان الموظف العراقي المسكين... ليس هذا بيت القصيد، لأن الجانب الأكثر خطورة في هذا الإجراء هو أنه جعل الموظف مضطراً إلى الفساد مهما كان مستوى القيم عالياً عنده، ومهما صمد وقاوم إغراءات الفساد فإن الحال المأساوية لعائلته وأطفاله ستضغط عليه وتجبره على الانحراف، كما أنها ستوفر له الذرائع... المهم أن صدام بهذا الإجراء الظالم رفع السدادة وفتح قمقم الشرور والفساد في المجتمع العراقي على نحو متعمد ومدروس، إذ أن نسب الفساد في المجتمع العراقي كانت واطئة جداً في التسعينيات، لكنها انطلقت في تسارع مطرد حتى بلغت مستويات عالية جداً بعد ذلك، ويمكن القول إن الموظف الذي اضطرته ضآلة الراتب في زمن صدام إلى الانحراف والفساد كان قد كيف منظومة القيم لديه بحيث يسهل عليه التعاطي مع واقعه الجديد من دون تبعات ضميرية مزعجة، مما جعله عصياً على الإصلاح لأنه لم يعد يشعر أنه يرتكب خطأً أو اثماً بأخذه الرشوة مثلاً.. إن نفس الموظف يتقاضى راتباً ضخماً اليوم لكنه ما يزال فاسداً ... لقد خرج الشياطين والمردة من ذلك القمقم، وليس بإمكان إعادتهم إليه مرة أخرى..
أسوق هذا المثال المطول لأقول إنكم فعلتم الشيء نفسه في التاسع من نيسان عام 2003 وما بعده... لقد رفعتم السدادة وفتحتم قمقماً آخر فخرج شياطين ومردة من نوع آخر.. بعضهم من الطبقات المسحوقة التي لم تعد تميز الحياة من الموت والخير من الشر، وبعضهم الآخر لصوص ومجرمون كان صدام قد أطلقهم من السجون عشية الحرب الأخيرة, كأنه كان قد ادخرهم لمثل هذا اليوم ... ما حدث بعد 9/4 هو نسف لتاريخ العراق وهويته وما بقي من قيم الخير فيه .. وانهار العراق مثل برجي مركز التجارة العالمي، وانهارت آمال التغيير والحرية والديمقراطية التي تضمنتها وعودكم الكثيرة، وحل محلها يأس مطبق وشعور مستديم بأن الآتي اسوأ... لقد شاهدت جنوداً أميركيين بكامل العدة والعتاد يقفون بعجلاتهم المدرعة ويصورون أحداث النهب الجارية في إحدى المؤسسات ولم يقوموا بأي إجراء لمنعها. وأذكركم هنا بأنه ما عدا الجنود الذين قتلوا اثناء المعارك، لم يقتل أي جندي أمريكي في الأيام الأولى بل حتى الأشهر الأولى لاحتلال العراق، حتى في المناطق التي أصبحت (ساخنة) بعد ذلك ... لقد تطور شيطان السرقة إلى مارد قتل، وتحولت بكتيريا انفلات الأمن التي زرعتموها إلى فيروس قاتل من الفوضى وشهوة الدم ... الجنود الأميركيون الثلاثة آلاف الذين قتلوا في العراق .. يمكن القول إنهم قتلوا بنيران صديقة ، وان كانت البندقية أو صاعق العبوة الناسفة بيد عراقيين أو عرب..لقد هيأتم البيئة والمناخ الملائمين لنمو الوضع الراهن .. إن ستراتيجيتكم تشبه قيام طبيب ما بتجبير عظام مريضه المهشمة على اعوجاجات فاضحة، ثم بعد تشوه المريض المسكين ومرور سنوات على ذلك ينتبه الطبيب على اخطائه ويفكر في تقويمها ... إن هذه المهمة تعني تحطيم عظام هذا المريض المنكود مرة أخرى ليتسنى إعادة تجبيرها على نحو صحيح.
هل انتم متواطئون مع الإرهاب في العراق
ألم يستغرب أحد منكم هذا التناقض في السلوك السياسي لإدارتكم في ما يتعلق بالإرهاب؟ ففي الوقت الذي رفضتم فيه التفاوض مع (القاعدة) أو قبول الهدنة التي عرضتها، تحت شعار (أمريكا لا ترضخ لمطالب الإرهابيين ولا تفاوضهم) نجدكم متحمسين جدا للتفاوض معهم وإرضائهم في العراق، ليس هذا فحسب، بل لقد ساعدتم بعض المتشددين في الوصول إلى مناصب عليا في السلطة في العراق، مما شكل اختراقاً كبيراً في صفوف الحكومة والدولة الفتيتين... ان هؤلاء المتشددين هم الذين يعرقلون أي خطوة من شأنها أن تدفع بالعملية السياسية إلى الأمام، وإذا قامت قوات الأمن العراقية باعتقال إرهابيين يقوم هؤلاء بإسباغ صبغة طائفية على العملية لإسقاطها وهكذا... إن هؤلاء ( وأنتم تعرفون من أعني) ظلوا على الدوام يدافعون عما أسموه بـ(المقاومة) التي جعلت العراق من أقصاه إلى اقصاه ساحة حرب، وأباحت دماء الأبرياء والمدنيين العزل، وقد سمح لهم الضوء الأمريكي الأخضر بالدعم العلني للقاعدة ومن يمثلونها في العراق، حتى أنهم لم يتورعوا عن وصف الزرقاوي بأنه مجاهد، هذا فضلاً عن العثور على أرقام هواتفهم في ذاكرة نقال الزرقاوي نفسه، ومع ذلك يتم دعمهم وتثبيتهم وإجبار بقية مكونات الحكومة العراقية وبالتالي مكونات الشعب العراقي على الرضوخ لابتزازهم المستمر...
أيها السادة ... ما الذي يجري؟
... هل أنتم حقاً تكافحون ضد الإرهاب ؟ إذا كنتم تؤمنون بأن الإرهاب واحد ومصدره واحد.. فلماذا يتم التعاطي على هذا النحو مع الإرهاب في العراق بحيث ينال فرصة لاختراق الحكومة ومؤسسات الدولة .. وهناك عدد من الأسئلة حبذا لو تفكرون بالإجابة عليها داخل الكونغرس .. لماذا بعد شهر واحد تقريباً من تعيين مونتينيغرو سفيراً لأميركا في العراق (وهو أمريكي مسيحي) يتم التراجع عن هذا القرار ويعين خليلزاد ( وهو أميركي مسلم سني من اصل أفغاني) بدلاً عنه؟؟ ولماذا -بعد تصنيف البعث على أنه منظمة إرهابية - تسعون جاهدين للإطاحة بقرار اجتثاث البعث، حتى أن البعثيين يساومون الآن من أجل العودة إلى العلن والحصول على موقع في الحكومة (بمساعدتكم ومساعدة أحزاب وجهات لها مصالح مشتركة معهم) ولماذا لا يتاح هذا الأمر لطالبان مثلاً في افغانستان بحيث يحصلون -ضمن محاصصات معينة - على مناصب في الدولة الأفغانية؟.. أيها السادة إذا كنتم تشاهدون الأخبار فأرجو أن تنتبهوا إلى أن قوات التحالف في أفغانستان (تقتل) كل يوم تقريباً عدداً لا بأس به من مسلحي طالبان، فنقرأ ونسمع ونشاهد أخباراً عن قتل ثلاثين أو أربعين مسلحاً من طالبان ولا أنباء أخرى عن اعتقال أو أي شيء آخر، في حين تحرصون على سلامة!!! إرهابيي العراق، إذ يتم اعتقالهم وإيداعهم في سجون (خمس نجوم) ثم يطلق سراحهم ليعاودوا نشاطهم الإرهابي في قتل العراقين كل يوم .. لماذا يتم إقصاء وزير داخلية (لأنه حقق انتصارات مهمة على الإرهاب) بحجة أنه طائفي .. حسناً سأوضح لكم لماذا هو طائفي في نظر سياسيين عراقيين يدعون أنهم يمثلون العرب السنة، الأمر ببساطة أن الإرهاب الذي يسمي نفسه مقاومة هو سني الهوية، وينشط في المناطق السنية حتى صرنا نسمع عن (المثلث السني و مثلث الموت وغيرها) وقد بات معروفاً للجميع أن السنة عموماً حرموا على أنفسهم الانخراط في أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية بذريعة أن هذه المؤسسات (تعمل بإمرة الكفار!) و (تتعاون مع المحتل) بينما سارع الشيعة إلى الانخراط في هذه الأجهزة لأسباب عديدة منها عدم وجود أي موانع دينية أو فتاوى تحرم عملهم في الشرطة والجيش، ومنها أن أغلبهم ينتمون إلى الطبقات الفقيرة والمسحوقة، وهكذا صار لدينا فريقان متضادان هما فريق (العسكر) الشيعة وفريق (الإرهابيين) وهم بعض السنة وليسوا كل السنة،(وهذا تحصيل حاصل ما ارادته المرجعيات الدينية والسياسية السنية) وصار من الطبيعي - حين تريد الدولة محاربة الإرهاب - أن ترسل العسكر لمحاربة الإرهابيين، فتقوم الدنيا ولا تقعد عند السياسيين السنة، فيصورون الأمر على أنه سلوك طائفي للدولة... حسنا لو كان وزير الداخلية أمريكي وليس عراقياً شيعياً، فما الذي يتوجب عليه فعله، هل يجبر ضباطه وجنوده على تغير مذهبهم لكي لا يكون طائفياً، هل صرتم تفصلون الأمور على مقاس الإرهابيين ومن يحمونهم في البرلمان والحكومة؟؟؟ هل تعلمون أن معظم العراقيين يعتقدون أن الأمريكيين والقاعدة حليفان وأن كل ما يحصل ليس أكثر من مسرحية تراجيدية هزيلة...
أعود إلى أسئلتي ...لماذا يهمل ضحايا الإرهاب وهم بعشرات الآلاف ويتم التركيز على الإرهابيين بوصفهم بشراً منزوعي الحقوق؟ لماذا اثرتم قضية سجن أبي غريب وحولتم أعتى مجرمي العصر إلى ضحايا، وصار العالم يتعاطف معهم وينسى ضحاياهم؟ لماذا كلما اختطف أجنبي في العراق تسارعون إلى حارث الضاري وهيأته، وفعلاً تجدون ضالتكم عنده، فيرتب لكم الوساطة ويقبض منكم الفدية، ويُطلق سراح المختطفين أو يقتلون، ثم لا توجهون له ولو تهمة التواطؤ مع الخاطفين، ان لم نقل تهمة إدارة شبكات الإرهاب في العراق والتحريض عليه؟ ان حارث الضاري هو المدير العلني لمكتب القاعدة في العراق ويمارس نشاطه بحرية .. هل تصدقون ذلك؟ لماذا جئتمونا بالحرية ووهبتموها للقتلة فصاروا أحراراً في اختيار الضحية والتوقيت وطريقة القتل ونوع السلاح؟ أما نحن فحصلنا على هامش بسيط من الحرية، فصار بمكاننا البصق على الحكومة دون خوف، لكن أخطر المجازفات هو انتقاد البعث أو صدام أو الضاري أو المعارضة عموماً لأن عقوبة هذا الأمر هي الموت الفوري؟ لماذا جئتمونا بالديمقراطية ثم اصبحتم ألد أعدائها لأنها أفرزت خارطة سياسية لا ترضيكم (لأن فيها نسبة كبير من الشيعة، وكأن هذا الأمر ليس انعكاساً للواقع الديموغرافي العراقي) حتى صورتم الاستحقاق الانتخابي كأنه خيانة، وغلفتم المحاصصة بغلاف أطلقتم عليه تسمية خادعة هي (الاستحقاق الوطني)؟ لماذا جئتمونا بالفيدرالية، وقُدمت على طبق من ذهب للأكراد، ونص عليها الدستور العراقي، ثم حين أراد ممثلو الشعب من الشيعة والأكراد تفعيل فقرات الدستور الخاصة بالفيدرالية صورتم الأمر على أنه تقسيم للعراق، وصرح الرئيس بوش أنه لا يؤيد تقسيم العراق ( مع أن أمريكا هي أكبر اتحاد فيدرالي في العالم، أم تراها قد قسمت إلى إحدى وخمسين ولاية وهي تعاني اليوم من التشرذم والتفكك وتقف على حافة حرب أهلية!!!!) لماذا كلما هدأت الأمور في مكان ما في العراق، لا سيما محافظات الجنوب والوسط، تقوم قواتكم بإثارتها على نحو استفزازي، فيتم اعتقال شخصيات مؤثرة تأثيراً إيجابياً لإحداث الخلل ( الأمثلة كثيرة لكن أقربها اعتقال قائممقام المدائن مع أنه تمكن من بسط الأمن في هذه المدينة التي كان الإرهابيون قد اسقطوها في السابق وقتلوا مئات الضحايا فيها)؟ لماذا فرضتم المحاصصة كصيغة لا بديل عنها في الواقع السياسي الجديد في العراق؟ وهل لي أن اسأل كم هي حصة الملونين في الكونغرس وفي الإدارة؟ وكم هي حصة الآسيويين والإيطاليين وأخيراً سكان البلاد الأصليين (الهنود الحمر)؟؟
لدي ملايين الأسئلة، وملايين التحفظات وعلامات التعجب، وأميال من الكلام عما فعلتموه وعما انتم بصدد فعله، لكنني سأكتفي بهذا القدر الآن، وكما أخبرتكم سابقاً .. أشعر أنني لم أقل أي شيء بعد...
التعليقات